أشرنا في حلقة سابقة إلى عدد من عوامل سفر أبناء المنطقة إلى بقيّة بلدان الخليج العربية، ونضيف في هذه الحلقة عوامل أخرى دفعت أو شجّعت أبناء الإمارات على السفر والإقامة هناك، منها انتقال أفراد الأسرة أو بعض أفرادها إلى تلك البلدان للّحاق بربّ العائلة الذي يعمل هناك، ثمّ تبع ذلك تأقلم الأسرة جميعها مع الأوضاع الجديدة في مكان عمل الوالد، ثم يتلو ذلك أن يطيب لهم السّكن هناك.

وتكوّن الأسرة بأفرادها علاقات طيّبة مع محيطها الخليجي. وكان بعض أفراد الأسرة يلتحقون بالوالد أو العم أو الخال أو أحد الأقارب المقيمين هناك وقت العطلة الصيفيّة، وخاصّة بالنّسبة للأولاد الصغار، حيث يقضون 3 شهور يتعرّفون فيها إلى المحيط الجديد بالنّسبة إليهم، بل يشارك بعضهم في أعمال الوالد؛ من الخروج لصيد الأسماك إلى الحراسة في المدارس، وغيرها من المهن التي أتقنها الآباء ونقلوا خبراتهم بها لأولادهم.

وهم بالتالي يكوّنون ذاكرة جديدة وذكريات جميلة تكون لهم حصيلة للحديث عنها مع أقرانهم عندما يعودون إلى أرض الوطن.

جهود

كما سافر كثيرون بالذّات إلى البحرين والكويت بهدف تلقّي العلم، سواء كان المدرسي أو التقني أو الفنّي أو الجامعي. وعند حصول الوعي الكامل عند ربّ الأسرة بضرورة الانتقال بأبنائه من بلده إلى الكويت، مثلاً، لتلقّي العلم هناك، فإنّه سيبذل جهداً مضاعفاً لإخراجها، حتى ولو تطلّب الأمر مخاطرات يترتّب عليها نتائج مجهولة إن فشلتْ جهوده، إلا أنّه بعد التّوكّل على الله تعالى، والإتقان والإحكام استطاع أن يبلغ بأهله برّ الأمان.

ولهذا كان مَن يمتلك طموحات أكبر، ينجح في مشروع السفر والاستقرار في تلك الدول، ولو أنّها طموحات متواضعة بمعايير زماننا، حيث تقتصر آنذاك على تحصيل التّعليم خارج الإطار التّقليدي للمجتمعات المحلّيّة، فهي توازي أولئك الذين خاطروا بحثاً عن الرّزق.

كما أنّه في جوّ من التّشجيع تنمو المواهب، وتتطوّر، وخاصّة أنّ تلك البلدان قد تقدّمتْ فيها وسائل وأساليب التّعليم، وتطوّرتْ فيها المدارس، بل كان كثير من مدرّسيها من المواطنين، ما يعني أنّهم قد سبق لهم تلقّي العلم والدّراسة منذ زمن بعيد.

دعم

وكان مَن يسافر من أبناء المواطنين الإماراتيين طلباً للعلم في الكويت وغيرها يحظى بدعم كبير من أهله، وتشجيع من والده، بل توسّطاً من حاكم الإمارة؛ تقديراً منهم للعلم وضرورة البحث عنه، ولو كان بالسّفر والاغتراب.

ومن الجدير بالذِّكر أنّ الطلبة القادمين من أبناء المنطقة، وغيرهم بطبيعة الحال كالقادمين من عُمان واليمن والصّومال وغيرها من البلدان، يقيمون أماكن مخصّصة لسكن الطّلّاب، ولهم فيها كافّة وسائل وإمكانات الإعاشة، ما أكسبهم نوعاً من الرّاحة والطّمأنينة.

وأصبحت الكويت بالتالي ملاذاً للطلّاب العرب؛ تقدّم لهم ما يعينهم على استمرار الحياة فيها. ومن الأمور المشجّعة على السفر للعمل في دول الخليج العربيّة هو حماس الشّباب، وشيوع العمل في الخارج بين النّاس، وكثرة الحديث عنه في المجتمع. وتجدر الإشارة إلى أنّه كان في البحرين تحديداً في تلك الفترة مدارس خاصّة.

نهضة

كان للتنوّع الفكريّ والحراك الثّقافي والمجلّات والصّحف والإذاعة والتلفزيون في دولةٍ مثل الكويت تأثير قويّ على المقيمين فيها من أبناء الإمارات، وبالذّات المتعلّمون منهم، حيث أكسبهم ذلك بُعداً علميّاً جيّداً، وخاصّة أنّها شهدتْ كذلك حركة فنّيّة ومسرحيّة رائدة ربما سبقتْ غيرها من بلدان الخليج العربي، فكانت رافداً مهمّاً من روافد الثّقافة فيها آنذاك.

وكانت الكويت تحفل بالعديد من الفنّانين الكويتيين والعرب، وكانت تعجّ بمسرحياتها الأولى التي برز فيها نجومها الأُوَل من أمثال: عبدالحسين عبدالرّضا، وسعد الفرج، وعبدالعزيز النّمش، وعبدالرّحمن العقل، وعبدالرّحمن الحبيل، وزكي طليمات (المخرج المصريّ المعروف)، وحسين القطّان (بو جسّوم)، وعبدالوهاب الدّوسري (أم جسّوم)، وغيرهم كثير.

كما ساهم عدد من أبناء المنطقة في هذه الحركة الفنّيّة؛ إمّا إذاعة وإمّا تمثيلاً وإمّا كتابة نصوص. وبرز كذلك دور الأندية الرّياضيّة فكان لها محبّون ومشجّعون من أبناء الإمارات.

ملتقى

كما كانت البحرين حاضناً فنّيّاً رائعاً نشأت فيه أعداد من أبناء الخليج العربي، فنهلتْ وتعلّمتْ وتأثّرتْ بفنّانيها الكبار مثل: عبدالله الفرج ومحمّد بن فارس، وكانت موطن الموّال الشّجيّ، وكثير من أهلها، أهل طرب وسماع حسّاس. وكانت البحرين تزخر بأنواع الطّرب الأصيل، وبرز فيها الفنّان الكبير محمد زويّد، والفنّان العُماني المبدع سالم الصوري، فكان غِناؤهما راحة لنفوس المتعطّشين للطرب البديع، وكان مقهى بو ضاحي أو محمد ضاحي فارس في البحرين ملتقى للشّباب أثناء فراغهم وراحتهم.

وفي كلا البلدين أقيمت حفلات الغناء التي كان يحييها مجموعة من رموز الفنّ العربيّ الأصيل، أمثال: أمّ كلثوم، وناظم الغزالي، وصباح، وسميرة توفيق، وفايزة أحمد، وعوض الدّوخي، ومحمود الكويتي، وعبدالحميد النّابلسي، وفهد بلّان، ومحمّد عبده، وعبدالله الفضالة.

كما شهدتْ كلّ من البحرين والكويت مثلاً تقدّماً كثيراً في الحركة العمرانيّة والبناء، والنّهضة والمواصلات وتسليكات الكهرباء والماء والصّرف الصّحّيّ والشّوارع والأسفلت والإنارة وغيرها كثير من مظاهر الرّفاهية، ما لفت القادمين إليهما من الإمارات وعُمان، لأنّ مثل هذه المظاهر لم تشع بعد في بلداتهم وقراهم، وكانوا يرونها غريبة.

عمل متواصل

كما يشار هنا إلى أنّ أغلب هؤلاء العاملين في القطاعات العامّة آنذاك، كان بإمكانهم التنقّل بين الوظائف، وتغيير مكان عملهم مرّات عديدة، وربّما دفعهم هذا الأمر إلى زيارة كل بلدان الخليج العربيّة بحثاً عن عملٍ مناسبٍ وراتبٍ أفضل، ولو بزيادة يسيرة، المهم أنه ترسّخ في أذهانهم أنّ في الحركة بَرَكَة مهما صَاحَبَها من تعبٍ ومشقّة.

وهذا يدلّ على ما تحصّل عليه أبناء الإمارات من تسهيلات في بلدان الخليج العربي. كما يوحي ذلك بأنّهم يرون في التوقّف عن العمل ولو لأيّام مضرّة لهم، وخاصّة أنّهم يعيلون أسراً، وأفراداً، ووالدين، وهذا الشّعور بالمسؤوليّة هو الذي جعلهم في كدحٍ دائم، وفي النّهاية أحيا الله بجهودهم مَن وراءهم، وهم كثيرون. ولكنّ معاناتهم، رحم الله الميّتين منهم، وبارك في الأحياء، كانت قاسية متعبة، شاقّة، في جدٍّ وكفاح.

ولم تكن هذه المعاناة خاصّة بقومٍ دون آخرين بل كانت عامّة لكلّ المناطق في تلك الحقبة من الزمن، ولهذا فإنّ الرّحلات شملتْ أجزاء واسعة من أرض الإمارات، وقامت بها أعداد كبيرة من أهالي الجزر والبلدات الساحليّة ومناطق البدو في الذيد والظفرة والعين، إلى مناطق الحيور التي ركب أهلها البحر وأصابهم من لأوائه، فتحمّلوا وتصبّروا في سبيل الوصول إلى أماكن العمل. ومن الدّوافع التي شجّعتْ الأهالي على السّفر أنّهم وجدوا غيرهم قد سبقهم، وشاع بين النّاس: «مَن أراد كسب العيش فليسافر».

وثائق وتواريخ ميلاد

من الجدير بالذِّكر أنّ تواريخ الميلاد لم يكن يهتم بها الأهالي آنذاك، ولم تكن مثل هذه الأمور بصورة عامّة تلقى عناية من قِبلهم، ولم تكن أُسر عديدة تؤرّخ مواليدها.

إلا أنه زاد الاهتمام بها لمّا بدأت تصدر أوراق السّفر ثمّ الجوازات، وإضافة إلى ذلك، ونتيجة لرغبة الجميع في السّفر، فإنّه جرت زيادة في تقدير أعمار المتقدّمين لطلبات وثائق السّفر، ولهذا فإنّ كثيراً منهم دوّنوا تواريخ ميلاد تختلف عن التواريخ الفعليّة؛ لأنّ بعضهم كانوا صغاراً في السّنّ، فكبّروا أعمارهم رغبة منهم في السماح لهم بالسفر خارج البلاد.

ولهذا فكثير ما يحدث اختلاف في تواريخ الميلاد حتى بين الأشقّاء نظراً لعدم التدقيق فيها.

ظروف خاصّة

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ كثيراً من أهل الإمارات الذين سافروا قديماً إلى دول الخليج العربيّة طلباً للعمل وأبواب الرزق، قد سبق لهم أن اعتادوا الأسفار، وخبروا البحار، وعرفوا الموانئ، وتنقّلوا بينها حاملين البضائع والسلع، مع صغر الأعمار، وفي فترة مبكّرة من السّنّ، في سبيل توفير ما يعيل أنفسهم وأهاليهم. ويعتبر هذا مؤشّراً واضحاً إلى النّشاط التجاري بين موانئ دول الخليج العربي في فترة الأربعينيات وما بعدها. فهي بلا شكّ حقبة زمنيّة لها خصوصيتها وظروفها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والنّفسيّة.

رجولة مبكّرة

أسهمت الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي دفعتْ بالأهالي للذّهاب للعمل في بقيّة بلدان الخليج العربيّة في نشأة ذلك الجيل من الإماراتيين منذ نعومة أظفارهم على تحمّل المسؤوليّة مهما عظمتْ، ولهذا كان يقع على عواتقهم رعاية عوائلهم، وكانوا يتحمّلون التكاليف بروح تملؤها عاطفة الأبوّة مع أنّهم صغار في السّنّ.

فقد عُرف زمانهم بتميز أهله بدرجة من الوعي والإدراك والرّجولة، والإشراف على شؤون الأسرة حين يغيب كبيرها وعائلها، مع نضجٍ، وفهمٍ، وصبرٍ، وتحمّل، وشعور، من دون تذمّرٍ أو تململ، حتّى ولو وقع على أحدهم بعض الضيم ممّن هو أكبر منه، فتجده يكظم عواطفه، ويسكت، ومع كلّ ذلك تجده يقول: تعلّمنا، وتربّينا، مع الإقرار بأنّه هكذا كانت الحياة في ذلك الزّمان، وهي عامّة.

اقرأ أيضاً:

أسفار أهل الإمارات.. قصص تواصل وحكايات كدٍّ وعطاء

«البوسطة» همزة وصل القلوب المتباعدة

أحمد بن ماجد رمز وطنيّ وإرث حضاريّ

تحقيق المخطوطات منهج علمي ثابت وخطوات تكفل المصداقية

كتاب «تاريخ المستبصر» (2-2).. رحلة علمية في ربوع الجزيرة العربية