انفردت مصادر الكنيسة النسطورية بمسميات جغرافية لم ترد في مصادر غيرها، وهذه المسميات هي:

(1) «بيت قَطْرايا»، ويعنون به الإقليم الممتدّ من جنوب العراق وإلى شبه جزيرة في الساحل الجنوبي للخليج العربي، ومنطقة اليمامة إضافة إلى الجزر القريبة من الساحل الشمالي الشرقيّ لشبه الجزيرة العربيّة. ومن الجدير بالذِّكر أنّ لفظة: «بيت» تعني في السريانيّة: «الدّار»، كما تعني: «الإقليم» أو «البلد».

(2) «بيت مَزُونايا»، ويعنون به المنطقة الواقعة في الجزء الجنوبي الشرقيّ من شبه الجزيرة العربيّة، إضافة إلى الجزر القريبة من الساحل.

(3) «ديرين»، وهي «دارين»، إحدى قرى جزيرة تاروت، وكانت دارين مقرّ أسقفيّة نسطوريّة.

(4) «هجر»، العاصمة المعروفة في البحرين، وكانت مركزاً مهماً للنّساطرة في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.

(5) «حطّا» أو «حطّو» وهي «الخطّ» الساحل الممتدّ من الكويت إلى شبه جزيرة في الساحل الجنوبي للخليج العربي، وكان لها أسقفها الخاص بها.

(6) «سماهيج» أو «مشماهيج»، وهو اسم قديم لجزيرة المحرّق البحرينية، وتوجد إلى الآن قرية تحمل اسم سماهيج تقع في الجزء الشمالي الشرقي من جزيرة المحرّق. وقد ذُكر أن مشماهيج كانت مقرّاً لأسقفية نسطورية محلّيّة.

أساقفة ومجامع وتآليف

شارك نساطرة الخليج في عدد من مجامع الكنيسة النّسطوريّة في أزمنة مختلفة. إذ شارك أحد أساقفة دارين المدعو پول في مجمع إسحاق في سلوقيا-طيسفون عام 410 م. وشارك أسقفها الآخر يشوع يهب في مجمع جورج الأوّل في عام 676 م.

كما حضر أسقف سماهيج المدعو «بطّاي» مجمع إسحاق عام 410، إضافة إلى آخرين حضروا عدداً من المجامع الكنسية النّسطورية. وحضر الأسقف حزقيل، أسقف هجر مجمع عام 576، كما شارك في المجمع نفسه أسقف الخط المدعو: «إسحاق». ويُذكر أن أسقف مشماهيج المدعو: «سرجيوس» كان أمين سرّ هذا المجمع.

وشارك اثنان من أساقفة هجر في اثنين من المجامع النّسطورية هما مجمع حزقيل عام 576 م، ومجمع جورج الأول عام 676 م. وقد ذكرت مصادر الكنيسة النّسطوريّة أن أربعة مِن أساقفة بيت مزونايا قد شاركوا في أربعة مِن مجامع الكنيسة:

وهم يوحنا الذي حضر مجمع داد يشوع في مركبات عام 424، وداوود الذي حضر مجمع مار أبا عام 544، وصموئيل الذي حضر مجمع حزقيل عام 576، واصطيفانوس الذي حضر مجمع جورج عام 676، وهم كانوا يمثّلون نساطرة بيت مزونايا. ومن الجدير بالإشارة أن مجمع جورج الذي انعقد في دارين عام 676 كان بتنسيق ودعوة من جاثليق وبطريك الشرق جورج.

وقد حضر هذا المجمع كلّ من: توماس، مطران بيت قطرايا، ويشوع يهب، أسقف دارين، واصطيفانوس، أسقف بيت مزونايا، وفوساي (پوساي)، أسقف هجر، وشاهين، أسقف الخط. وكان الهدف من هذا التجمّع هو التنسيق بين نساطرة الخليج فيما بينهم من جهة، وبين البطريركية في سلوقيا-طيسفون.

وظهر في القرن السابع الميلادي عدد من كتّاب النّساطرة الخليجيين، من أشهرهم إسحاق النّينوَي، المولود في بيت قطرايا، وأحد أشهر المترجمين للغة السريانيّة. نشأ كراهب، ثم معلّم ثم انتقل إلى العراق، وهناك تدرّج في السلك البابوي النّسطوري.

وكذلك القسّ داد يشوع، الذي صنَّف في أدب الزهد والتقشّف والتنسّك، ويوجد نحو أربعة كتّاب يحملون اسم جبرائيل صنّفوا أعمالاً في التعليل اللاهوتي لشخصيّة المسيح عليه السلام وعمله، إضافة لعدد من الشروحات الإنجيليّة والطقسيّة. والكاتب جبرائيل بن لَفاح مصنّف شرح الطقوس التعبّديّة. وأحاب مؤلِّف شرح الإنجيل، ويشوع بناه مترجم قانون شمعون الريف أردشيري من اللغة الفارسيّة إلى اللغة السريانيّة.

592م

تكشف المصادر السريانيّة جانباً مهمّاً من الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في منطقة الخليج وعلاقات رجال الدين النّساطرة بمحيطهم الخليجي. ومن هذه الكتابات ما قام به أسقف دارين، المدعو يعقوب، بتوجيه 20 سؤالاً لبطريرك الكنيسة النسطورية في سلوقيا، يشوع يهب الأول، بين عامَي 582 و592 م.

وردّ عليه البطريرك في وثيقة رائعة تحمل 20 قاعدة شرعيّة أو بمعنى آخر 20 قانوناً كنسياً. ويدور محور هذه الأسئلة حول عدد من القضايا الدينية الخاصة بالمسيحيين في منطقة الخليج العربي.

ومن هذه الأسئلة أنه من المفترض أن يقدم المؤمنون هداياهم ونذورهم إلى كنائسهم المحلّيّة، وإلى الأديرة والأماكن المقدّسة، وذلك تكفيراً عن خطاياهم وذنوبهم. وقد نصحه البطريرك بمواصلة هذا الطريق وسؤال المحسنين وتشجيعهم على التبرّع ومساعدة غيرهم من المؤمنين. ومن ضمنها أيضاً، استفسار يعقوب حول العمل يوم الأحد، على اعتبار أنه يوم مقدّس، وعلى المؤمنين احترام هذا اليوم وعدم العمل فيه تكريماً له وتقديراً.

وأنه حاول أن يقنع أولئك العاملين في الغوص على اللؤلؤ، وسألهم التوقّف عن العمل في أيّام الأحد. ويقول هنا: «هل هذا الإصرار يؤدّي إلى ظلمهم وإلحاق الأذى بهم». فكان الردّ رائعاً أيضاً بقدر روعة الفهم لأوضاع المنطقة وتقدير أحوالها إذ أفتى البطريرك بجواز العمل يوم الأحد لهؤلاء الغوّاصين لكسب أرزاقهم، وتجنيبهم الخطايا والأذى.

سوء تفاهم وخلاف

على الرغم من سيادة التفاهم وحُسن العلاقة بين البطريركية في سلوقيا-طيسفون، وبقيّة النّساطرة في منطقة الخليج إلا أن سلطة البطريركية تعرّضت للخلل والارتباك حين اعترض نساطرة المنطقة أنفسهم على هذه السلطة، وبالذّات حين تمرّد نساطرة بيت قطرايا (إقليم البحرين) على سلطة الجاثليق يشوع يهب الثّالث بين عامَي 649 و659 م.

وهذا الجاثليق يشوع يهب الثالث، وُلد في بلدة كوبلانا على الزاب الأكبر في شماليّ العراق، من أب ثريّ، يدعى باستوماج. تدرّج في السلك الكهنوتي، وبدأ حياته الدينية راهباً في ديْر بيت عابي، ثم عُيّن أسقفاً لمدينة نينوى حوالي عام 629، وبعد عَقد من الزمان أصبح مطراناً لمدينة أربيل ثمّ اختُير جاثليق لنّساطرة المشرق عام 649 م. وظلّ في هذا المنصب إلى وفاته عام 659 م.

وقد كتب الجاثليق 5 رسائل إلى نساطرة الخليج تتعلّق بهذا التمرّد، واحدة وجّهها إلى الأساقفة، واثنتان بعثهما إلى عموم نساطرة الخليج، واثنتان خصّ بهما الرهبان. ثمّ تبع ذلك بإرسال مبعوث خاصّ من قِبله للقاء الأساقفة وإزالة هذا الخلاف وعقد مجمعاً محلّيّا جرى فيه طرح الآراء وأوجه النظر ومناقشة أسباب الخلاف الذي زال بحلول عام 676.

وهذا التمرّد له أسباب داخليّة وإداريّة تتعلّق بطريقة توزيع المسؤوليات في الكنائس المحلّية والأسقفيّات، وهو فيما يبدو رغبة من بعض نساطرة الخليج في التّخلّص مِن التّبعيّة الإداريّة لبطريركية سلوقيا-طيسفون. وفي إحدى رسائل يشوع يهب الثالث امتدح فيها جاثليق النّساطرة في المدائن سلوك المسيحيين في عمان وتعاونهم مع الكنيسة، ذلك في عام 647 ، وأثنى عليهم على هدوئهم وإخلاصهم.

الدور البيزنطي

على الرغم من الخلافات المذهبيّة بين الإدارة البيزنطيّة والعديد مِن أتباعها في سوريا وأصدقائهم في الحبشة فإن البيزنطيّين قد اعتمدوا أيضاً على المسيحيين في الوصول إلى مناطق نفوذ جديدة في شبه الجزيرة العربيّة. وبصورة عامة فإن تحوّل الشعوب إلى المسيحية، وهي ديانة الإمبراطوريّة البيزنطيّة يجعل ذلك علامة فارقة في السّياسة والدّبلوماسيّة البيزنطيّة الخارجيّة.

وبما أنّ الإمبراطور البيزنطي كان يعدّ نفسه «نائب المسيح» على الأرض، و«مبعوث الرّبّ»، و«ملك الملوك» فلذا كان الاعتقاد أنه يجب أن تخضع لسطانه الأمم والشّعوب الأخرى، وأنّ سيادته يجب أن تسع العالَم كلّه.

وبناءً عليه، فإن أباطرة بيزنطة اتبعوا وسائل عدّة للتواصل مع عرب شبه الجزيرة والوصول إليهم والتأثير عليهم عن طريق نشر النّصرانيّة فيما بينهم. ولهذا شجّع البيزنطيون إرسال البعثات التّبشيريّة والإرساليّات الدّينيّة إلى مناطق مختلفة مِن بلاد العرب.

كما أنفقوا بسخاء على بناء وتعمير الكنائس ذات الزّخارف البديعة، والزينات البهيجة رغبة مِنهم في التّأثير على الزائرين والمشاهدين والمؤمنين. وفي الوقت نفسه قام الرّهبان والمبشّرون بشرح مبادئ وتعاليم النّصرانيّة رابطين كلّ ذلك بالدّولة البيزنطيّة الرّاعية لهذه الدّيانة. ولذلك صارت الكنائس دوراً للعبادة ومراكز دعاية سياسيّة وثقافيّة للبيزنطيّين.

كنائس ودلائل

مِن الدلائل التي تشير إلى تبنّي البيزنطيين بناء وتأسيس الكنائس في شبه الجزيرة العربية تنفيذاً للسياسة الخارجيّة للإمبراطوريّة، ما ذُكر من أن الإدارة البيزنطيّة خلال القرن الرّابع الميلادي شجّعتْ أحد المسؤولين المقرّبين منها والذي يدعى ثيوفيلوس (تاوفيل) الهندي (Theophilus) على القيام بمَهمّة في جنوبي شبه الجزيرة العربيّة، تتضمّن استكشاف الإقليم، والتعرّف إلى أوضاعه، ومكانة المؤمنين بالنصرانيّة في تلك المنطقة من بلاد العرب. إضافة إلى تشييد عدد من الكنائس تعبيراً عن الاهتمام البيزنطي بالعرب.

ومع أنّ أصل هذا الرّحالة غير معروف تحديداً إلا أنّ مسمّى «الهندي» ربما يشير إلى أنه ينتمي إلى أصل ساميّ، وأن مكان ولادته ربّما كان في إحدى جزر البحر الأحمر أو المحيط الهندي أو في إحدى المناطق التابعة لمملكة الحبشة ثمّ تقلّبت به الأحوال إلى أن وصل إلى العاصمة القسطنطينيّة.