الشارقة - البيان
قال صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم إمارة الشارقة، في مداخلة عبر برنامج الخط المباشر الذي تبثه قناة الشارقة الفضائية بتاريخ السادس عشر من شهر يوليو عام 2020م، بمناسبة إطلاق مؤلفه الجديد «محاكم التفتيش.. تحقيق لثلاثة وعشرين ملفاً لقضايا ضد المسلمين في الأندلس» للقراء في جميع أنحاء العالم، والذي يقع في مجلدين: إن هذا الكتاب يختلف عن كتابي السابق «إني أُدين» الذي يتحدث عمن اتخذ القرارات من الملك إلى الحكومة، الكتاب الجديد يتناول محاكم سرّية، تمارس الإعدام والحرق، وأموراً كثيرة في حق المسلمين، وربما الآن الشعب الإسباني لا يعلم عنها لأنها كلها محفوظة سرياً، واستطعت أن أحصل على 23 مخطوطة في صورة ملفات محاكمات، وبحثت فيها وحققتها، وسيتوافر الكتاب في المكتبات في القريب العاجل بإذن الله.
يقول سموه في مقدمة الكتاب:
بعد غزو الملوك الكاثوليكيين في عام 1492م لغرناطة، آخر ممالك المسلمين المتبقية في إسبانيا، أدخلوا تشريعاً يقضي بتحويل المسلمين في غرناطة عن دينهم قسراً إلى المسيحية، وإلا سيواجهون النفي. ورغم أن الأغلبية اختاروا التحول عن دينهم، بدلاً من النفي، إلا أن مجموعة الوثائق تبين أنه بعد أكثر من نصف قرن، واصل المسلمون المحافظة على لغتهم، وعاداتهم وممارسات دينهم. وهذا جدير بالملاحظة نظراً لحقيقة أنه في عام 1526م صدر مرسوم بتاريخ 7 ديسمبر، بنقل مقر مكتب التفتيش الذي كان حتى ذلك الوقت في «كوين» «Coin» في ملاقه إلى غرناطة، حيث تم بذل المحاولات بإصرار «لإزالة نطاق ممتد من الثقافة والهوية المحلية»، والهدف هو حظر «ثقافة موروثة بأكملها وليس الدين ذاته فحسب». وتعكس إحدى الوثائق في المجموعة فشل السلطات في القيام بتنصير ناجح للمسلمين.
وتابع سموه: أنا أعتقد أن هذا الكتاب الذي تم فيه تحقيقٌ لثلاثة وعشرين ملفاً لقضايا ضد المسلمين في الأندلس النسخة العربية تضم: المجلد الأول: 712، المجلد الثاني: 678، النسخة الإسبانية: المجلد الأول: 638، المجلد الثاني: 610. وسيكون له تأثير مباشر بإذن الله، وهنا نطالب على الأقل بأن يرجع لنا مسجد قرطبة، وسبق أن طالبت بذلك، فأخبروني بأن البلدية أعطته للكنيسة، فقلت لهم: «أعطى من لا يملك لمن لا يستحق»، فهذا ملكنا نحن كمسلمين، ومع ذلك إرجاعه سهل وقريب بإذن الله.
وأضاف سموه: صحيح أن الكتاب حجمه كبير، ولكن الأسلوب الذي كُتبت به ملفاته سلس وجذاب، وكل ملف يروي حكاية، وهو مسلٍّ ويثقف الإنسان بدينه، والعجيب في هذه المحاكمات أن هؤلاء المسلمين كانوا يعرفون اللغة الإسبانية، ولكنهم كانوا يرفضون في المحاكمة التحدث بها، وكانوا يصرّون على التحدث باللغة العربية، لدرجة أنهم كانوا يجلبون إليهم مترجماً من العربية إلى الإسبانية والعكس.
إن الندرة الشديدة في وثائق محاكم التفتيش تجعل هذه المجموعة مهمة على نحو استثنائي لتوفير صوت لأولئك المسلمين الصامتين خلال قرون، إنها مصدر استثنائي مهم للمعلومات حول ازدهار حضارة المسلمين في غرناطة، والتي سرعان ما ستختفي بعد رد فعل المسلمين تجاه الضغط المتزايد عليهم لترك ثقافتهم، ما أدى إلى انتفاضة «البَشَرات» «Alpujarras» خلف جبال «سيرانفادا» «Sierra Nevada» والمعروفة أيضاً باسم حرب غرناطة في الفترة من عام 1568م - 1571م.
تظهر وثائق المحاكمة العمليات البيروقراطية الشاملة التي قامت بها محاكم التفتيش. عموماً، كانت تبدأ بمذكرة اعتقال، وتستمر بتسجيل المحاكمة نفسها التي تتضمن عدداً كبيراً من التحقيقات المفصلة للمتهم والشاهد، وفي بعض الأمثلة هناك تسجيل للتعذيب المستخدم لانتزاع الاعترافات من المتهم، يليه النطق بالحكم والعقوبة المفروضة. كانت هذه المحاكمات تُجرى تحت ستار صارم من السرية، وتم فرض عقوبات قاسية لقاء إفشاء أي معلومات تتعلق بمضمون المحاكمة.
فقد تم اتهام المسلمين بتمسكهم بمجموعة متنوعة من الممارسات الدينية مثل: اتباع شعائر الصلاة، الاحتفال برمضان، إعطاء الصدقات للفقراء خلال تلك الفترة، الاحتفال بيوم الجمعة بوصفه يوماً مقدساً والعمل يوم الأحد. وهكذا، على سبيل المثال، تعترف المسلمة «ماريا دي مونتورو» «Maria de Montoro» بأنها أنجزت أداء الوضوء بغسل الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل القدمين، ثم الصلاة على سجادة وكبّرت وقرأت الحمد وسورة قل هو الله أحد، وتستمر في وصف الصلاة من ركوع وسجود، وهناك مسلمة أخرى تدعى «بياتريس تاهونيا» «Beatriz Tahonia»، وهي خياطة، أفادت بأنها عندما سئلت في الشارع ما إذا كانت هي وصديقاتها لسن «مسيحيات معمّدات» فأجابت بأنهن قد تلقين التعميد عندما كن صغيرات ولكن لم يهتممن بذلك، بل إنهن لا يتذكرنه.
وقد ثبتت براءتها ربما بسبب تدخل محاميها الذي تم إرفاق إيصال عن خدماته المعروضة بالوثيقة التي تحتوي أيضاً على إيصال نفقات السجن. وقد صرحت هي وأغلبية المتهمات بأنهن يؤمن بأن «شريعة المسلمين» صالحة، بل إنها حتى أسمى مما هو لدى المسيحيين، وأنه بالنسبة لهن جميعاً هو السبيل للدخول في الجنّة.
من خلال هذه المحاكمات هنا تبرز صورة لعالَم مزدهر، حيث الروابط القديمة لمجتمع المسلمين لم تنفصم عراها. فلا يزال المسلمون يعيشون مع بعضهم، ويتحدثون العربية، ويشعرون بأنه يمكنهم التعبير بدرجة معينة من الحرية عن أفكارهم الداخلية حول الدين وممارسته في الواقع، معظم المتهمين لم يتكلموا سوى العربية، وكان يجب ترجمة أسئلة المستجوب من خلال المترجم الموجود دائماً، «غارسيا تشاكون» «Garcia Chacon» كان الكثير من المتهمين على تواصل مع مسلمين متخصصين لديهم دور مهم في المحافظة على المعرفة وممارسة دينهم. كان المتهمون عموماً من الطبقات الاجتماعية الأكثر تواضعاً في الحياة - مثلاً أصحاب الخانات (نزل)، مزارعين، خياطين، نساجين إلخ. ومن بينهم هناك الكثير من النساء اللواتي كان لهن تأثير بدورهن التقليدي في الثقافة الدينية لأطفالهن. من خلال أداء الشهادات أمام القاضي، يمكن للمرء أن يحصل على انطباع عن مدى البساطة بين المتهمين الذين تم سحبهم من حياتهم الوادعة ليواجهوا آلة التفتيش التي لا ترحم. كانت الأحكام الصادرة عن محاكم التفتيش قاسية جداً. ففي حالة ثلاث من المسلمات، «ماريا ألباكين» «Maria Alabquen»، و«ماريا ميغميغ» «Maria Megmeg»، و«إينيس دي لا سيرنا» «Ines de la Sirna»، تم عرضهن على إحدى محاكم التفتيش والتي تسمى «أوتو دو في» «Auto de fe»، محاكمة تُجرى من قبل رجال تابعين للعقيدة الكاثوليكية، على مداخل كل قرية أو مدينة، علناً أمام الأهالي، فإن أنكر المتهم، أحرق في الحال وإذا اعترف بذنبه أنه منشق عن العقيدة الكاثوليكية، حكم عليه بالسجن عدة سنوات، وقد اعترف الكثيرون بذنوب لم يقترفوها، وقد كانت أول محاكمة من هذا النوع في «إشبيلية» «Sevilla» عام 1481م. حيث أجبرن المذكورات على ارتداء لباس الزنادقة المنشقات عن العقيدة الكاثوليكية المدانات لبقية حياتهن، وقد اعترفن علناً بخطيئتهن، كما تمت مصادرة كل ممتلكاتهن، وأرسلن إلى السجن مدة ثلاث سنوات. بدت إدانتهن كوصمة عار لكل عائلة منهن.
كان العالم يلحق الأذى بسمعة تلك المحاكمات تحت تهديد متنامٍ، وسرعان ما تلقت تلك المحاكمات ضربة حاسمة بانتفاضة المسلمين في منطقة «البَشَرات»، (1568م - 1571م) التي تم قمعها بضراوة من قبل «فيليب الثاني» «Philip II». تم وصف الوضع الدرامي الذي وجد المسلمون أنفسهم فيه في زمن الانتفاضة أقوياء، وذلك في اعتراف المسلمة «بيرناردينا» «Bernardina»، ابنة «ألفونسو دو دولار بن ياهيس» «Alonso de Dolar Ben Yahes»، التي كانت بسن الثامنة عشرة عندما أدلت بشهادتها للتحقيق في الخامس من شهر إبريل عام 1570م، عندما نشبت حرب «البَشَرات» مدة عامين تقريباً. وتتذكر «بيرناردينا» أن مسلمي «البَشَرات» قد وصلوا إلى قرية «دولر» «Dolar» في غرناطة وهم يهتفون صرخة الحرب «محمد، محمد»، ويحثون السكان على الانضمام إليهم في منطقة جبال سيرانفادا. كان سكان «دولر» في عام 1568م كلهم من المسلمين تقريباً (230 مسلماً و2 من المسيحيين القدامى) وقد انضم المسلمون إلى الثوار بعد أن دمروا كنيسة «دولر». ورغم أن والد «بيرناردينا» أدرك أنه أياً كان مسار الاتجاه الذي سيأخذونه، فإن مستقبلهم كان مشؤوماً، وقال: «إذا ذهبنا إلى المسلمين، فسوف يقتلنا المسيحيون، وإذا ذهبنا إلى المسيحيين، فسوف يقتلنا المسلمون»، إلا أنه أخذ فتياته الثلاث إلى منطقة جبال سيرانفادا مدة أربعة أيام. ثم غادر الأب وذهبت الفتيات إلى قرية «كالاهورا» «Calahorra» في غرناطة طلباً للرأفة من المسيحيين. وهنا أخذت «بيرناردينا» كعبدة.
كانت انتفاضة «البَشَرات» محاولة الخندق الأخير من قبل المسلمين للمحافظة على دينهم وأسلوبهم في الحياة. تعرض التمرد للاستفزاز بسبب الإجراءات الوحشية المتضمنة في الأمر الملكي لفيليب الثاني في الأول من يناير لعام 1567م، ولا سيما في منع استخدام اللغة العربية والذي يعني إبادة الثقافة. ووفقاً لأحد الشهود، كان ثمة أمل كبير أن يغزو الأتراك غرناطة، وبالتالي سيتمكنون من ممارسة دينهم بحرية. كان الأمل عبثياً فقد تم طرد معظم السكان المسلمين من مملكة غرناطة، ولكن في هذه الوثائق النادرة، لا يزال بإمكاننا أن نلتقط لمحة من ثقافة إسلامية ثرية في السنوات التي سبقت النفي.
ويختتم سموه الكتاب بالإشارة إلى إحصائية مهمة فقد استمرت تلك المحاكمات المعروفة بمحاكم التفتيش، من تأسيسها في الأول من شهر نوفمبر عام 1478م حتى تمّ إلغاؤها في الخامس عشر من شهر يوليو عام 1834م، وقد راح ضحيتها نصف مليون مسلم.
وقد بلغ عدد حالات الإعدام الموثقة كالآتي:
- ما قبل عام 1530م، نحو 2000 حالة.
- وما بين عامي 1530م و1630م نحو 1000 حالة.
- وما بعد 1630م، حتى إلغائها تم إعدام 250 حالة.
ونحن أمام هذه الحقيقة، نهيب بالشعب الإسباني، صاحب الضمير الإنساني، أن يتذكر تلك المصائب، كلما شاهد أو قرأ عن ذلك التراث العظيم، الذي يتغنى به دائماً، والذي يجلب له مليارات اليوروات، أن كل ذلك هو هدية لكم ممن أعدمتموهم من دون ذنب اقترفوه.
«إني أدين»
كان صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، قد أصدر كتاباً بحثياً مهماً بعنوان «إني أدين» والذي يأخذك من الأسطر الأولى إلى معانٍ حقيقية مقترنة بالوثائق والأدلة للإدانة، مقدماً شهادة مختلفة ومتميزة، في ظل شح المصادر التاريخية التي تتحدث عن مأساة المسلمين الموريسكيين بعد سقوط غرناطة، والجرائم التي مورست في حقهم.
في كتابه هذا من إصدارات دار «منشورات القاسمي» لسنة 2016، يقدم لنا حاكم الشارقة، شيئين مهمين جداً بالنسبة للموضوع الذي يتحدث عنه الكتاب، أولهما مادة تاريخية موثقة عن موضوع انتهاك حقوق المسلمين بعد الاستيلاء الإسباني على غرناطة، وسقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية هناك، وثانيهما هو وثيقة قانونية مدعمة تكفي لمحاكمة من يجرؤون حتى الآن من الإسبان على غمط الموريسكيين المسلمين حقوقهم، ويرفضون حتى الاعتذار لهم عن كل الجرائم البشعة التي وقعت ضدهم. وفي مئتي صفحة من القطع الكبير وبأسلوب علمي تاريخي ممنهج ومصحوب بصور الوثائق الإسبانية الأصلية مع ترجماتها العربية، يطرح سموه عشر إدانات، اعتمدت على عشر وثائق إسبانية، يقول سموه في مقدمة كتابه عنها: «اقتنيت عدداً من الوثائق الإسبانية، وهي تعود إلى الفترة ما بين 1530م وعام 1610 م، وهي فترة مأساة مسلمي الأندلس. بعد ترجمتها من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية ودراستها، اخترت منها 10 وثائق تدين فئات من الشعب الإسباني في تلك الفترة، كان ملكاً، أو قاضياً، أو كنيسة، أو جماعة من الناس؛ لما قاموا به من جرم تجاه مسلمي الأندلس بعد أن هادنوهم فترة من الزمن، بعد توقيع الملكين الكاثوليكيين لأبي عبدالله الصغير بالتعهدات بعدم المساس بالمسلمين في عبادتهم وأملاكهم»، ويدرج سموه في خاتمة كتابه نص المعاهدة بحذافيره كملحق، ومرجع لتعزيز الوثائق العديدة التي زخر بها الكتاب، والتي تجسد بشكل عملي الإدانات العشر التي أراد سموه أن يبينها بشكل جلي لا لبس فيه، ولا كلام بعده سوى الحق وعودة الحق إلى أصحابه، ولو بعد كل هذه القرون.