من عصر عبدالناصر إلى عهد السيسي عاش فولكهارد فيندفور في مصر، حتى أصبح بمثابة واحد من أبنائها، والآن فارق الحياة فيها وسيوارى جثمانه في ثراها. إنه ليس صحفيا عاديا وإنما حالة فريدة في عشق مصر من غير أبنائها. قصة صحفي مخضرم.
"بالتأكيد أنا لست ألمانيا كأي ألماني (عادي) ولا مصريا كأي مصري، لكن أكيد أن لدي صفات مكتسبة (من مصر) وأخرى موروثة (من ألمانيا).. أُعجبت بهذا البلد ولم أشعر يوما واحدا حتى يومنا هذا أني غريب".
كانت تلك عبارات قالها قبل ست سنوات فولكهارد فيندفور للإعلامية المصرية منى الشاذلي، متحدثا عن علاقته بمصر، التي اتخذها وطنا بعد وصوله إليها قبل أكثر من نصف قرن وحتى وفاته في مستشفى وادي النيل بالقاهرة يوم الاثنين الماضي بعد صراع طويل مع المرض عن عمر بلغ 83 عاما، بحسب (DW).
ولد فولكهارد فيندفور العام 1937 بمدينة إيسن بشمال غرب ألمانيا، وأصبح يتيما في سن مبكرة. فقد كان أبوه معلما لكنه شارك في الحرب العالمية الثانية وقتل فيها، عندما كان سن فولكهارد ست سنوات، لتتولى أمه تربيته بعد ذلك ويتعلق بها بشدة ويعتز بها كثيرا.
بعد سنوات من انتهاء الحرب انتقلت الأم، وكانت معلمة أيضا، إلى مصر للعمل بالمدرسة الألمانية بالقاهرة، ثم لحق بها فولكهارد، وسنه 17 عاما، ويتذكر تماما يوم وصوله إلى مصر، يوم الثالث والعشرين من سبتمبر 1955.
قبل وصوله إلى القاهرة بعامين بدأ في تعلم اللغة العربية لوحده وهو في سن الخامسة عشرة. وبعد حصوله على الثانوية العامة الألمانية، قرر اجتياز امتحان شهادة الثانوية العامة المصرية وحصل على مجموع 76 في المائة، ليحصل العام 1959 على منحة دراسية من قبل كمال الدين حسين، عضو مجلس قيادة الثورة آنذاك، فالتحق بكلية الآداب لدراسة اللغة العربية لمدة عام في جامعة القاهرة.
بعدها انتقل إلى آداب عين شمس، فدرس بجانب العربية الفارسية والتركية والعبرية، "لكي أعرف لغات الشرق الأربعة"، بحسب ما صرح في لقاء مع قناة "الغد".
من عصر عبد الناصر إلى عهد السيسي
بدأ فيندفور العمل في القسم الأوروبي بالإذاعة المصرية منذ إعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة في 22 فبراير 1958، وظل به لمدة ثماني سنوات، مذيعا ومعدا ومترجما وغيرها من المهام الإعلامية.
وتركت أمه مصر وبقي هو في القاهرة، غير إن مرض والدته فيما بعد، دفعه إلى مغادرة مصر والعودة إلى مدينة كولونيا ليبقى بجوارها.
وفي كولونيا عرض عليه العمل بالقسم العربي براديو دويتشه فيله فالتحق به العام 1970 وأصبح رئيسا له، قبل أن يتركه ويرحل إلى بيروت، حيث أسس مكتبا هناك لمجلة دير شبيغل العام 1974. وعاش فترة الحرب الأهلية هناك واختطف خلالها قبل أن يطلق سراحه ويقرر العودة لمصر العام 1976، ويفتتح مكتب دير شبيغل بالقاهرة ويقوده على مدار أربعة عقود.
خلال فترة وجوده الأولى في مصر تعرف فولكهارد فيندفور على الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، الذي عرفه بدوره على الرئيس جمال عبد الناصر. أما علاقته بالسادات فهي قصة بذاتها، فقد كان مرافقا له على الطائرة في رحلة السادات الشهيرة إلى القدس.
ويقول فيندفورد إنه التقى السادات 14 مرة ولديه 24 ساعة تسجيلات خاصة معه، كما أجرى حديثا معه قبل اغتيال الرئيس المصري بأربعة أيام. وكان فيندفور يعلق في غرفة مكتبه بشقته في بيرغهايم القريبة من كولونيا صورة له مع السادات.
وفي عهد حسني مبارك واصل نجم فيندفور في الصعود وأجرى مع مبارك أكثر من حوار لصالح دير شبيغل.
وبعد الإطاحة بمحمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين العام 2013، أصدر فيندفور، بصفته رئيسا لجمعية المراسلين الأجانب، بيانا يساند فيه الجيش وأجهزة الأمن المصرية.
وقال فيندفور لمنى الشاذلي عن البيان: "هناك زملاء عاجزون عن استيعاب وتفهم حقيقة 30 يونيو، إنها تشبه الانتفاضة، وجميع فئات الشعب المصري، فيما عدا الإخوان وأنصارهم، خرجت إلى الشوارع في قبلي (الصعيد) وبحري (الدلتا). وهذا الحدث من الأمور الجسام التي لا تحدث إلا نادرا في الأمم..".
بعد ذلك أصبح فيندفور ضيفا مطلوبا من قبل القنوات التلفزيونية في مصر، يتحدث عن عن رحلته في مصر عموما ومسيرة حياته، قبل أنا يصاب بالمرض منذ أكثر من عامين ويتوارى عن الأنظار إلى أن وافته المنية يوم الاثنين الماضي، لينعاه ضياء رشوان، نقيب الصحفيين ورئيس الهيئة العامة للاستعلامات، ويقول "إن الفقيد الكبير قد قضى في مصر قرابة الستين عاما مارس فيها عمله الصحفي بكل كفاءة وأمانة واقتدار، وهو ما قدره الرئيس عبدالفتاح السيسي بمنحه وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى".
وكان رشوان قد سلم فيندفور قبل ذكرى الثورة في يناير 2020 وسام الاستحقاق، وحينها قال ضياء رشوان إنها المرة الأولى التي يقوم رئيس مصري بتكريم إعلامي أجنبي بأحد أرفع الأوسمة المصرية، الذي لا يمنح إلا تقديراً لعمل كبير".
عاشق ضفاف النيل
يقول فيندفور إن أفضل مكان يعشقه في مصر هو ضفاف النيل وإنه يعشق أم كلثوم وعبد الحليم حافظ. ويحكي أن أحد أهم أسباب عيشه في مصر أنه أثناء عودته بسيارته من تغطية بناء السد العالي، وقع له حادث عند الطريق الساحلي قبالة ما تعرف الآن بمرسى علم، على ساحل البحر الأحمر.
ويوضح أن الطريقة التي ساعده بها الناس بعد ذلك الحادث ولم تكن هناك مستشفى، جعلته يشعر أنه "جزء من هذا الشعب".
ومن أكثر ما يعجبه في الشعب المصري صناعة النكتة في وقت الأزمة، ويقول فيندفور إن المصري يصنع النكتة ليخفف عن نفسه "وليست كل الشعوب عندها هذه الصفة"، ولذلك فإن "كلمة تهكم هي جزء من تفسير الروح المصرية التي تعجبني".
عندما بدأ المرض يتغلغل في جسم فيندفور قبل أكثر من عامين قرر البقاء في مصر وعدم الذهاب للعلاج في ألمانيا، رغم ما هو معروف من نظام صحي ألماني.
ويقول تلميذه وصديقه الصحفي أيمن بدر، الذي رافقه في الـ 15 عاما الأخيرة إن الرجل عاش طيلة عمره محروما من الجو الأسري والعائلي وكان يحب جدا أجواء الأسرة المصرية "،وكان يسعد عندما يحضر معنا اجتماعات العائلة الكبيرة ويعد الأفراد الجالسين في الاجتماع الأسري ويقول لدينا 26 فردا، لدينا 28 وهكذا".
كان فيندفورد يعتبر أيمن بدر ابنه الذي لم ينجبه وينظر إلى أبناء الصحفي الذي عمل معه في سنواته الأخيرة في دير شبيغل على أنهم أحفاده، وقال لأيمن، حسبما روى الأخير لـDW عربية: "إذا ذهبت لألمانيا سأوضع في مستشفى أو دار للمسنين وسأحرم من أحفادي وأنا لا أريد ذلك وأريد أن أموت في البلد الذي عشت فيه ولي أصدقاء فيه وأريد أن أدفن في مصر، التي عشت فيها أكتر مما عشت في ألمانيا".
ويقول أيمن بدر إن فولكهارد فيندفور كان يقوم في نهاية كل عام برحلة إلى الأقصر وأسوان وغيرهما من أماكن السياحة والآثار في مصر، وإنه كان يعرف تاريخ مصر تماما وغيرها من الشعوب المجاورة وأنه كان عاشقا لقراءة التاريخ.
في العام 2014 بدأ فيندفور يكتب سيرته الذاتية، فهل سنرى يوما ما شهادته المهمة على مصر من حرب 1956 في عصر ناصر إلى سقوط الإخوان وعهد السيسي؟