رحلة تأملية استثنائية يأخذنا إليها المخرج التونسي ناصر خمير عبر فيلمه "بابا عزيز" الذي عرض أخيراً في ندوة الثقافة والعلوم بدبي ضمن برنامج الندوة الشهري للجنة السينما، لنستغرق في عوالم الفيلم الناطق باللغتين الإيرانية والعربية على مدى 96 دقيقة، وننسى خلالها أنفسنا وعالمنا الخارجي، ونتابع بروحنا وفكرنا رحلة الجد الضرير بابا عزيز وحفيدته عشتار في أجواء الصحراء الصوفية.

 

مرآة النفس

نرافق الجد والحفيدة في رحلتهما عبر الصحراء باتجاه المكان الذي يلتقي فيه المريدون القادمون من مختلف أصقاع الأرض كل 30 عاماً. وأسوة بعشتار نتلقف بروحنا كلام الجد الموشى بالحكمة والتأمل والمعاني الإنسانية، ومثال عليها حينما يجيب على سؤال عشتار هل تعرف الطريق إلى المكان؟ قائلًا (إيمان الإنسان بوجهته سيقوده إلى الطريق). وسرعان ما نستغرق في دهاليز حكاية الجد لعشتار لتسليتها عبر رحلتهم الطويلة، لنتابع سيرة الأمير الذي يترك ملذات الحياة بعد مطاردته لغزال في الصحراء، وينسى نفسه أمام مطالعة صورته في نبع ماء بإحدى الواحات، ليتجلى بعد البحث الطويل عنه أنه مستغرق في تأمل روحي.

وعبر الطريق تتداخل الحكايا مع عابري سبيل ومريدين، لتحمل كل حكاية وجهاً مختلفاً من محن الحياة التي تحمل في طياتها الحنين ونشدان المعرفة، عبر البحث عن إنسان آخر سواء بدافع الحب مثل زيد، أو الانتقام مثل الباحث عمن قتل أخيه، أو عثمان الذي وقع في بئر ليلتقي في قصر من ألف ليلة وليلة بحب حياته التي تتلاشى والقصر لدى خروجه منه. وتتقاطع الحكايا عبر التواصل والبوح بلواعج الأرواح، لتحل السكينة بالنفوس ويأخذ كل منهم دربه المرسوم الخارج عن وجهته السابقة.

 

أجواء صوفية

وساهمت براعة التصوير لفيافي الصحراء ومداها الواسع وأجواء الأمكنة المعزولة، كالمسجد المبني داخل الكثبان ومسجد آخر يلتقي فيه عابرو السبيل والمريدون الذين يعيشون حالة من الارتقاء الروحي بالغناء أو الرقص الصوفي، في تعزيز الأجواء الروحانية التي تبعث في النفس السكينة والتأمل، والتي تهيئ المتفرج لمشهد جديد يرتبط بإدراك بابا عزيز لمنيته حينما يتوقف قبل وقت قصير من الوصول لوجهتهم على قمة أحد الكثبان ويلقي السلام، لينتفض من الرمال أعداد كبيرة من القوم كأنما نهضوا من نومهم ليقرؤه السلام ويستعدوا لمتابعة مسيرتهم، وحينما تفزع عشتار وتسأله إن كانوا من الجن؟

يقول لها انهم من البشر مثلهم، لكنها تبصرهم بقلبها العامر. يودع الجد عشتار، بعدما يحكي لها عن المنية كواقع لا خوف منه كما هو الجنين الذي يرفض الخروج من رحم أمه إلى حياة مجهولة لديه. ويعطيها تذكاراً منه قلادة للعنق يدرك المشاهد من خلالها أنه الأمير الذي سبق أن تعرف عليها في حكاية الجد، وتفارق عشتار جدها لتتابع رحلتها مع الشاب زيد، وليطلب من الشاب الباحث عن الانتقام لمقتل أخيه أن يدفنه بالرمال بعد موته، ليأخذ عباءته وعصاه ويتابع مسيرته كدرويش.

وقد أدار الزميل الصحافي أسامة عسل المشارك في لجنة النادي بعد انتهاء الفيلم، حواراً مع الناقد السينمائي بشار إبراهيم وطرح عليه عدداً من الأسئلة عن أبعاد الفيلم وإنتاجه إضافة إلى تعريفه بالمخرج التونسي ناصر خمير وأعماله، والمقاربة بينه وبين فيلم (مومياء) للمخرج المصري شادي عبدالسلام، ليفتح النقاش بعدها مع الحضور.

رسالة

 

بدأ المخرج التونسي وكاتب السيناريو ناصر خمير العمل على الفيلم من عام 1992، وعرض الفيلم عام 2006، وهو من إنتاج مشترك بين الاتحاد الأوروبي وإيران وتونس، ويعتبر الفيلم الجزء الثالث من مسيرة صوفية شعرية بدأها في عوالم الصحراء بدأها بفيلم "الهائمون" ليتبعها بفيلم (طوق الحمامة الضائع). وتتمثل رسالة المخرج من الفيلم في رد الاعتبار للإسلام وتصحيح المفهوم الخاطئ عن الدين الإسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر، ليبرز مفهوم التسامح وسعة الأفق بين مختلف الأطياف.