يتخبط «اليسار» السياسي على امتداد عالم الغرب في حالة من البلبلة والتقسيم وغياب الخطة المتماسكة لمجابهة مدّ «الشعبوية»، والقومية ورهاب الأجانب. وقد أسهمت سياسات الهوية والمسائل الدينية في إذكاء كل من نزعة الخوف من الأجانب لدى اليمين، وتفتيت اليسار.

اعتنق «اليسار القديم» النظرة العالمية القائلة بالخير مقابل الشر، حيث العدو واضح وهم الأغنياء والأقوياء القامعين للفقراء والضعفاء، والأجندة كذلك بسيطة وواضحة وتقضي بإعادة توزيع الثروة وفرض مساواة اقتصادية أكبر.

وقدم «اليسار الجديد» بالمقابل أجندات جديدة متنوعة وأعداء جدد. ويقال إن «اليسار القديم» كان عديم الحساسية حيال مسائل تتعلق بشريحة من المجموعات المهمشة، أما الأسس الثلاثة التي يرتكز إليها والمعروفة بالحرية والمساواة والأخوة فلم تكن يوماً آمنة وقضي على ما تبقّى منها باستبدال عامل الأخوة بمطالب هوية الجماعة.

وتعارضت، من ضمن أمور أخرى القيم الليبرالية الجوهرية لليسار القديم المتمثلة بالتسامح الديني مع سياسات الهوية لليسار الجديد. ويعتبر تيار أساسي من اليسار الجديد كل حديث عن أي تسامح ديني مجرد تمويه لتعمية عدم الاحترام العميق والممنهج كما المعاملة الظالمة التي تلقاها الأقليات الدينية. ولا يبرز كأولوية، من هذا المنطلق حق الأفراد في اختيار الدين دون تدخّل، إنما حقوق المجموعات الدينية بتأمين وصون موقفهم وهويتهم في مجتمع قد يعمل على تهميشهم.

كيف ينبغي لليسار أن يفهم التسامح الديني ويمارسه بوجه الاهتمام الذي توليه مختلف المجموعات لقيمة هوياتها الدينية؟ وتتداخل المسألة بالطبع مع قضايا كالعنصرية ومشاعر معاداة المهاجرين، ومختلف أشكال كراهية الأجانب. لكن لابدّ من فصل تلك المسائل والتركيز على قضية صعبة أساسية تعنى بالعلاقة بين التسامح الديني وسياسات الهوية.

ولم تولِ معظم تحليلات اليسار الجديد التي تركز على لغة سياسات الهوية وأجنداتها الكثير من الاهتمام لمفارقة أساسية تطال مختلف الهويات المقترحة لتصحيح عدد من أشكال الظلم الاجتماعي والمعاملة غير المنصفة: إنه التمايز بين التزامات الهوية الإيديولوجية وغير الإيديولوجية. وقد أدى التشوش الحاصل حيال الانقسام الأساسي داخل سياسات الهوية إلى فشل حقيقي في تأمين الفهم المقبول لمتطلبات التسامح حين تواجهنا تساؤلات حول حقوق مختلف المجموعات الدينية ومعاملته بإنصاف واحترام.

ويزعم بعضهم أن هناك نوعاً من التناظر بين سياسات الهوية للدين والقضايا التي تنشب مع المجموعات المهمشة الأخرى على أساس العرق، والجنس والتوجه الاجتماعي أو الإعاقة. ومن المفترض أن يجمع الهويات المتباعدة معاً، الظلم الذي تلقاه المجموعات ذات العلاقة أو عدم حصولها على الاعتراف الكافي بها داخل المنظومة الاجتماعية والقانونية. وتطالب المجموعات الدينية بالحماية لضمان حقوقها والاعتراف بمصالحها الخاصة في ممارسة شعائرها الدينية.

لكن مهما بلغت درجة قبول تلك المطالب، يبقى هناك مفارقة أساسية لابدّ من إدراكها بين الهويات القائمة على ما يمكن وصفه عموماً بالالتزامات الإيديولوجية أو المثقلة بالقيم، وبين تلك التي لا تتمتع بهذا الوزن. لابد من إقامة المفارقة هنا لفهم دور التسامح (الديني) في مجتمع ليبرالي ديمقراطي.

والملفت حيال أشكال الهوية المتعلقة بالعرق والجنس، أنها لا تخضع للاختيار عموماً، كما أنها لا ترتكز على أية التزامات إيديولوجية أو مجموعة قيم ذات طبيعة سياسية أو أخلاقية.

وحده رسم خط تمييز الهوية الأيديولوجي واللا أيديولوجي يمكنّنا من التفرقة بحق بين التعصب غير الأيديولوجي والاختلاف الأيديولوجي الخالص، ويضمن حماية حقوق مختلف المجموعات الأيديولوجية المتعارضة للتعبير بانفتاح عن رأيها. كما أنه يشكل أساساً لحماية الحريات الدينية من أي كان، بمن فيهم المنتقدون أنفسهم.

2017

يجد راسل الذي صدر له في العام الحالي كتاب «حدود حرية الإرادة» أن الوضع يختلف مع الهويات الأيديولوجية أو المثقلة بالقيم، وأبرز تلك هي المكونة من تعاليم ومعتقدات وقيم لها انعكاساتها على ممارستنا الاجتماعية والأخلاقية ومؤسساتنا.

ويبقى السؤال الجوهري المتعلق بالتسامح هنا، أين يقع الدين من مسألة الانقسام؟ الهويات الدينية، المشبعة بالأيديولوجية والمثقلة بالقيم أقرب باعتقادي إلى الهويات السياسية من ارتكازها على العرق والجنس.

ولا يكمن الفرق في أن الدين مسألة قابلة للاختيار، علماً أن أصول ومصادر الهوية الدينية أكثر تعقيداً من ذلك. فهوية الإنسان سواء أكان مسيحياً أم مسلماً أم ملحداً تعتبر إلى حدّ كبير نتاج حضارة وثقافة واختلاط اجتماعي وتلقين متشابك. ما يهم فعلاً ليس اختيار الفرد لهويته الدينية المحددة، بل في أنها تنطوي على محتوى أيديولوجي ذي علاقة، وقابل إلى حدّ ما للنقد والتأمل والنقاش والمجادلة.

الهويات الاجتماعية، كما السياسية على الرغم من اكتسابها، فهي قابلة للاستغناء عنها أو تبديلها جذرياً لأنها ليست سمات طبيعية يعجز الإنسان عن إعادة النظر فيها.

تسامح 

يتطلب «التسامح» الاعتراف بالفروقات والاختلافات المتعلقة بالسمات الطبيعية الأساسية التي تحدد شكل تجربة ومصالح واحتياجات مختلف مجموعات المجتمع. وتكمن قوة التسامح في الإصرار على القيمة والجدارة المتساوية لمختلف الهويات.

 

لقد شهدت الكثير من عدم التسامح دعماً للتسامح.

سامويل تايلور كولريدج - ناقد وفيلسوف إنجليزي

 

 كل أديان العالم تعلمنا أموراً مهمة وهي ليست على هذا القدر من الاختلاف كما يريدونك أن تعتقد.

كنت آلان ريس - كاتب أميركي

 

الهدف الكلي للدين زيادة الحب والتعاطف والصبر والتقبل والتواضع والتسامح. 

دالاي لاما زعيم ديني في التيبت