في وسط ظروف داخلية صعبة، وصراع قبلي على السلطة، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وظهور بوادر الحرب العالمية الأولى، توفي خامس سلاطين عـُمان، السلطان فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان البوسعيدي، متأثراً بمرض سرطان الكبد، وذلك في 4 أكتوبر 1913، فانتقلت السلطة مباشرة إلى ابنه البكر تيمور بن فيصل، والذي كان وقتها قد بلغ 27 عاماً (من مواليد عام 1886)، والذي كان قد أتم دراسته في الهند، وتخرّج من مدارسها الراقية مثل كلية «مايو» بمدينة أجمير، والتي تعتبر إلى اليوم أحد أفضل المدارس الداخلية للبنين في الهند، علماً أن دراسة تيمور الأولية كانت في مدرسة «مسجد الوكيل» بمسقط، حيث درس القرآن واللغة العربية والفقه والتوحيد، ثم تتلمذه على يد الشاعر الفصيح المتمكن من المعاني والقوافي الشيخ محمد بن شيخان السالمي.

دعم

ولحُسن حظ السلطان الجديد أنه كانت توجد معاهدات واتفاقيات حماية بين بلاده وبريطانيا العظمى مُبرمة منذ القرن 18 ميلادي، الأمر الذي ساعده في الحصول على دعم الإنجليز أثناء نشوب معركة كبرى عام 1915 بين قواته وقوات الإمام محمد بن عبدالله الخليلي المُتمرّدة.

تلك المعركة التي كان النصر فيها حليفاً للسلطان بصورة نسبية، وفي أعقاب شبه هزيمة لقوات الإمامة رضخت الأخيرة عام 1920؛ لعقد اتفاقية مع السلطان تيمور عُرفت بـاتفاقية «السيب» بوساطة من الوكيل السياسي البريطاني، وقد قضت الاتفاقية بتقسيم عُمان بين السلطان والإمام، على أن يسيطر الأول على مسقط ومطرح والبلدات الساحلية، بينما يسيطر الثاني على مناطق عُمان الداخلية، وأن يسود التوافق السلمي بين الجانبين، بما يُتيح حركة الناس، وتسهيل عبور القوافل التجارية. وكان هذا -بطبيعة الحال- مُناسباً لبريطانيا لجهة الحفاظ على نفوذها في المنطقة عبر سُلطة السلطان دون الحاجة إلى إرسال قوات عسكرية.

تطوير

وبسبب هذا التقسيم، الذي جاء بعد سنوات قليلة من تقسيم الإمبراطورية العُمانية التي كانت قد وصلت إلى تُخوم شرق أفريقيا وغرب بلاد السند وبلاد فارس؛ بفضل قوتها البحرية الضاربة، معطوفاً على موجة الكساد الاقتصادي الذي ضرب العالم وقتذاك، واجه السلطان تيمور صراعات قبلية داخلية وصعوبات مالية كبيرة فضاقت به الحال وأصابه اليأس والقُنوط، من بعد حماس للقيام بإصلاحات إدارية وخدمية تجلت في استقدامه لبعض الخبراء؛ من أجل إعادة تنظيم دوائر الدولة وتطوير الجمارك وموارد البلاد المالية، وافتتاحه لعدد من المدارس مثل مدرسة «محمد علي أبوذينة» عام 1914 والمدرسة «السلطانية الأولى» عام 1930، ومنحه امتيازاً للتنقيب عن النفط في عُمان لشركة (DRK) البريطانية، وتشكيله لأول مجلس وزراء، وغير ذلك من الخطوات غير المسبوقة.

اليأس وضيق الحال دفعا السلطان لمغادرة بلاده إلى الهند لأجل العلاج والاسترخاء، تاركاً السُلطة في يد ابنه البكر سعيد بن تيمور الذي كان وقتها قد بلغ 22 من عمره، لكنه سرعان ما اتخذ قراراً لا رجعة فيه بالتنازل عن حكم عُمان لولده في 10 فبراير 1932، لتنتهي بذلك حقبة وتبدأ أخرى جديدة مُثقلة بالديون الخارجية التي اضطر معها السلطان سعيد بن تيمور إلى التضييق الاقتصادي والمعيشي والاجتماعي والتعليمي كما هو معروف.

نحو اليابان

في عام 1936 غادر السلطان تيمور الهند متجهاً صوب اليابان في رحلة سياحية، كانت اليابان آنذاك بلداً مجهولاً عند أبناء الخليج الذين لم يكونوا يعرفون شيئاً عنه سوى أنه البلد الذي صنع اللؤلؤ الصناعي، وتسبب بالتالي في خسارة تجارتهم ومصدر رزقهم الوحيد المتمثل في صيد وتسويق اللؤلؤ الطبيعي.

أما لماذا اليابان تحديداً؟ فهو سؤال أجاب عنه السلطان بنفسه في تصريح لصحيفة «ميتسوكو شيمومورا» اليابانية الشهيرة قال فيه: «لقد أصبحتُ مهووساً باليابان منذ أنْ جاءني صديق من اليابان إلى مسقط وحكى لي قصة شغلت روحي وفكري، فتولّدت لدي رغبة عارمة في زيارة اليابان».

ما سبق كان مقتطفات من المقدمة التي وردتْ في كتاب صدر حديثاً عن دار «ذاكرة عُمان» بمسقط تحت عنوان «عُمان واليابان» للمؤلف الياباني البروفسور «هارو إندو» (ترجمة: مجدي حاج إبراهيم)، والذي تناول فيه المؤلف جزءاً من سيرة السلطان تيمور بن فيصل وعلاقته باليابان، وقد أضفنا لتلك المقدمة بعض الإيضاحات والاستطرادات بُغية اكتمال الصورة لدى القارئ.

يقول المؤلف: إنّ السلطان اختار مدينة «كوبي» مقراً لإقامته بعد أنْ اتخذ قراراً نهائياً بالإقامة في اليابان. وفي مدينة كوبي شاءت الأقدار أنْ يلتقي السلطان في إحدى الحفلات بفتاة يابانية في العشرين من عمرها تُدعى «كيوكو أوياما»، وتعمل موظفة في جمرك ميناء كوبي، فدار بينهما حوار بعيد عن السياسة وصداعها، فأعجب السلطان بذكاء الشابة اليابانية وثقافتها واطلاعها، وهو ما جذبه إليها، فكان ذلك إيذاناً بميلاد قصة حب عفيفة بينهما.

زواج

تقدّم السلطان على إثر ذلك إلى عائلة الفتاة طالباً الزواج دون أن يخبر العائلة بصفته، إلا أن أمها رفضت تزويجها من شخص غريب يختلف عنهم في الثقافة والديانة. لكن السلطان لم ييأس، فعاد إلى عُمان من أجل أن يصفي كل أعماله وممتلكاته هناك قبل العودة مجدداً إلى اليابان عام 1936.

وبعد عودته تقدم مُجدداً بطلب الاقتران من الآنسة كيوكو، فوافقت أمها هذه المرة بسبب إصرار الفتاة على الاقتران برجل أحبته وأعجبت بشخصيته الجادّة من جهة، وبسبب إفصاح السلطان عن صفته ونسبه وانتمائه لأسرة عريقة من جهة أخرى. وهكذا توّجت قصة الحب بين السلطان ومحبوبته اليابانية بعقد القران في 5 مايو 1936. وفي السنة التالية، أي في عام 1937، أنجبت كيوكو لزوجها السلطان ابنة جميلة سمياها اسماً عربياً خالصاً هو «بُثينة».

كان زواج فتاة يابانية من أمير عربي آنذاك حدثاً غير مسبوق، لذا صار حديث المجتمع الياباني، خصوصاً بعدما أفردتْ الصحافة اليابانية للحدث صفحاتها. فعلى سبيل المثال كتبت صحيفة «ماينيتشي شيمبون» الصادرة في أوساكا خبراً تحت عنوان «قائد أسرة عربية قوية يعود إلى حُضن محبوبته من مدينة كوبي الساحلية»، جاء فيه (بتصرف): «الشيخ تيمور بن فيصل بن تركي آل سعيد الملياردير الذي ينتمي إلى أسرة قوية في عُمان بالجزيرة العربية، تعرف على سيدة يابانية شابّة خلال جولته السياحية حول العالم، وبسبب حبه المستعر كحرارة الرمال الحارقة، اتخذ الشيخ قراراً بأن يعيش بصورة دائمة في اليابان، وقد حظيت قصة الحب الرومانسية الدولية هذه باهتمام كثير من الناس في كوبي الساحلية».

ثم راحت الصحيفة تتوسّع في سرد تفاصيل قصة الحب التي جمعت الطرفين فكتبت: «لقد قام الشيخ بإخبار كيوكو، وهي تبلغ من العمر 20 عاماً، أنه سيسافر لكنه قطع عهداً على نفسه أن يعود إلى اليابان حاملاً معه جميع حقائبه وأمتعته، وقد عاد الشيخ إلى مدينة كوبي على متن الباخرة الألمانية «شارنهورست» برفقة خادمه بشير البالغ من العمر 24 عاماً.

كانت البداية حينما زار الشيخ اليابان لمشاهدة المعالم السياحية فيها في شهر مارس السابق، حيث التقى بـ«كيوكو» ابنة «كانجي أوياما» الذي يعيش في العنوان «2، أوجي - تشو - ناداكو - مدينة كوبي»، ووقع في غرام الفتاة، ودفعه ذلك إلى زيارة بلده زيارة قصيرة ثم العودة مُجدداً إلى اليابان، بعدما باع أثاث منزله وجميع ممتلكاته في عُمان لأحد أفراد أسرته العربية القوية.

بعد ذلك أعلن صراحةً لأسرته عن رغبته في العيش بصورة دائمة في اليابان، وخلال فترة سفره كانت كيوكو ترسل له رسائل حب يساعدها على كتابتها مدرس اللغة الإنجليزية، وكانت تتلقى منه العديد من الرسائل المفعمة بالحب في كل مرة تصل فيها سفينة إلى كوبي.

وفي صباح اليوم السابع استقبلته كيوكو مع والدتها وأقاربها في الرصيف رقم 4، ثم ذهبوا معاً إلى منزل جديد أنيق على طراز غربي منحدر في ناكوتشو بمنطقة فوكايي - كو، وقد كان ذلك المنزل هو عش الزوجية للشيخ وكيوكو، وبدأ المنزل وكأنه بيت رومانسي ممتلئ بالأمتعة الفاخرة الكبيرة المتراكمة في الطابق السفلي، ويقال إن الشيخ وعد زوجته كيوكو أن يبني لها منزلاً جديداً بتكلفة 20 ألف ين، الأمر الذي أثار فضول سكان المدينة الساحلية.

سعادة

ما حدث بعد ذلك أن الزوجين قضيا أياماً سعيدة في مدينة كوبي، انتقلا خلالها إلى بيت الزوجية الذي وضعا في فنائه نصباً تذكارياً يخلد قصة حبهما بمساحة مائة متر مربع كـُتبت فوقه عبارة «حبنا خالد أبدي.. اخترنا هذا المكان منزلاً دائماً لنا»، مضافاً إليها آيات قرآنية انتقاها السلطان. في هذا البيت عاش الزوجان أسعد أيام حياتهما وسط فرح عارم بصغيرتهما بُثينة.

غير أن الأيام السعيدة عادةً ما تكون قصيرة، كما يقولون. وهذا ما حدث للزوجين. إذ أصيبت كيوكو بعد فترة وجيزة بمرض السل القاتل الذي كان منتشراً آنذاك في اليابان، ورغم أن السلطان تيمور أخذها إلى أفضل المستشفيات ووفر لها أفضل الأطباء لمساعدتها في العلاج، ورغم أن كيوكو كانت في المقابل تقاوم المرض بكل قوتها لتستطيع الصمود والاستمرار في الحياة كي تعيش من أجل طفلتها على نحو ما كتبته في مذكراتها: «أريد أن أعيش من أجل بُثينة… لن أخسر المعركة ضد هذا المرض… لا بد أن أتغلب عليه… بحق صغيرتي الجميلة بُثينة أتمنى أن يقف الله بجانبي… فأنا لا أستطيع الاقتراب من ابنتي ولا يوجد أكثر بؤساً من هذا… عندما أمسكها لا أستطيع أن ألمس حتى يديها… يقتلني الأسى عندما أفكر مراراً وتكراراً ماذا كنت سأفعل معها لو لم أكن مصابة بهذا المرض؟»، إلا أنها توفيت فجأة في نوفمبر 1939 وهي في سن 29، في وقت كان زوجها السلطان مسافراً إلى عُمان لقضاء بعض الأعمال الخاصة به.

وفور سماعه بهذا الخبر الأليم سارع بالعودة إلى اليابان للمشاركة في تشييع زوجته إلى مثواها الأخير، وأيضاً لاستلام ابنته بُثينة والرجوع بها إلى عُمان كي تتربى تحت رعاية زوجته الأولى فاطمة بنت علي آل سعيد (1902-1967) والدة ابنه البكر السلطان سعيد بن تيمور، وكي يقوم بإجراءات تسجيل جزء من ثروته باسمها.

ونختتم بالتذكير بأن زواج السلطان تيمور بـ«كيوكو أوياما» لم تعد المرة الوحيدة التي يقترن فيها أمير عُماني بفتاة يابانية. ففي يناير 2017 انتشرت أخبار ومقاطع فيديو عن حفل قران في مسقط على كتاب الله وسنة نبيه وبموجب صداق متفق عليه بين الأمير العُماني الشاب حمد بن ذياب بن حمد آل سعيد والأميرة اليابانية «فلاكو فاكودا»، ابنة الأمير «ماساهيكو فاكودا». وبطبيعة الحال لم يوصف الحدث في عُمان بالنادر بسبب وجود سابقة زواج السلطان تيمور، لكنه اعتبر نادراً في اليابان لأنه لم يسبق أن اقترنت أميرة يابانية بأحد أفراد الأسر الحاكمة غير اليابانية.

صداقة

مما لا يعلمه الكثيرون، أن الأميرة بُثينة تزوجت في عُمان، وأنجبت ابناً عمل لسنوات طياراً في شركة طيران الخليج بمقرها الرئيس في البحرين. وقد نشأت بيني وبينه صداقة لم تنقطع إلا بانتقاله إلى بلده للعمل في الطيران العُماني، بعد تفكك شركة طيران الخليج.

ومما أتذكره عنه أنه كان يتحلى بأخلاق النبلاء، ويتصرف بتواضع شديد مع الجميع، ولا يتحدث إطلاقاً عن انتسابه للعائلة العُمانية الحاكمة. لقد كانت جيناته اليابانية متفوقة على جيناته العربية لجهة الانضباط في العمل، وتحمّل المسؤولية ومعاملة الآخرين برقي واحترام وعدم إضاعة الوقت في المهاترات واللهو وإضاعة الوقت فيما لا ينفع.

38

بوفاة السيدة كيوكو، غادرت الصغيرة بُثينة بلد أمها في سبتمبر 1940، مُودعةً خالاتها الثلاث على أمل لقاء قريب، قائلة لهن: «سأعود إليكن يا خالاتي، ومعي جمل صغير في حقيبتي»، غير أن افتراقها عنهن طال بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية وانقطاع الاتصالات بين الدول، فلم تلتق الأميرة بُثينة بنت تيمور آل سعيد بخالاتها إلا في عام 1978 عندما وصلت إلى اليابان بعد غياب 38 سنة لزيارة قبر والدتها.

وهكذا أيضاً ودّع السلطان تيمور اليابان نهائياً، تاركاً فيها ذكرياته الخالدة وضريح زوجته وكل الأماكن التي جمعتهما معاً؛ ليصبح كل ذلك شاهداً على كل الحكاية، علماً أن السلطان عاش ما تبقى من حياته في الهند إلى أن وافته المنية -رحمه الله- عام 1963، وهي السنة التي زاره فيها حفيده السلطان قابوس.

صفحة مُتخصّصة بالتأريخ الاجتماعي لمنطقة الخليج العربي