يعد الجناعات أو القناعات من أكثر الأسر الكويتية شهرة وتفرعاً، بل أكثرها من حيث الشخصيات البارزة في مختلف المجالات من تلك التي أسهمت في بناء الكويت ونهضتها، لكن هذه الأسرة التي سكنت الكويت منذ 250 سنة، تتفرع إلى فروع عدة مثل المطوع والمسلم والشملان والحمدان والجاسم والبدر والعيسى والخالد وبن ناجي وبن سري. من أبرز الجناعات وأشهرهم على الإطلاق زعيمهم وكبيرهم العلامة الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، مؤسس مدرسة المباركية في عام 1912.
لا تنافس الجناعات ــ المنحدرون بحسب إحدى الروايات من بلدة القصب بمدينة شقراء بإقليم الوشم من نجد ــ في الانتشار، سوى عائلة البسام. ففي حين بقي بعضهم في الداخل السعودي، هاجر البعض الآخر صوب الزبارة، ومنها إلى البحرين فالكويت فالبصرة. ومنهم من عبر البحر من الإمارات، إلى الضفة الشرقية للخليج العربي، ومنهم من استقر في الهند التي كان لهم فيها وجود قوي منذ زمن تجارة اللؤلؤ إلى ما بعد اكتشاف النفط في الكويت والخليج بسنوات طويلة.
مؤسس
تقول الباحثة حصة عوض الحربي في رسالتها لنيل درجة الماجستير التي عنونتها بـ«تاريخ العلاقات الكويتية الهندية 1896 ــ 1965» ثم نشرتها في كتاب حمل العنوان ذاته: «المؤسس الحقيقي لتجارة الجناعات في الهند هو حسين بن عيسى بن محمد بن حسين بن سلمان بن سري القناعي المولود في الكويت سنة 1878». ثم تتطرق إلى أسباب هجرته إلى الهند فتذكر روايات مختلفة منها أن حاكم الكويت الأسبق الشيخ مبارك الصباح طلب من الشيخ يوسف بن عيسى القناعي تعيين أخيه حسين للعمل في الجمارك الكويتية بسبب تميزه بحسن القراءة والكتابة، ولكن الشيخ يوسف لم يرغب في ذلك طبقاً لما ورد في الصفحة 47 من كتاب «قصة التعليم في الكويت» لعبد الله النوري.
وفي رواية أخرى أن حسين رفض العمل بالجمارك، لأن له منها موقفاً شرعياً يتمثل بحرمتها. وهناك رواية ثالثة ذكرها أخوه الشيخ يوسف في لقاء تلفزيوني مع المؤرخ سيف مرزوق الشملان سنة 1966 مفادها أن الشيخ مبارك الصباح طلب من حسين أن يعمل عنده فرفض، لأنه لم يرد العمل عند الشيوخ، ثم دعاه لمشاركته في إحدى الحروب فرفض أيضاً. وللخروج من هذا المأزق، اقترح الشيخ يوسف القناعي على أخيه أن يهاجر إلى الهند.
وهكذا حل حسين القناعي في بومباي وعمل في بداية الأمر عند عائلة الإبراهيم الكويتية الثرية التي كانت تقيم في الهند وتدير منها تجارتها الواسعة، ثم ما لبث أنْ استقل عنهم وأسس لنفسه تجارته الخاصة سنة 1922، الأمر الذي شجع إخوانه يوسف وسليمان وأحمد على اللحاق به في الهند والانضمام إليه في عملية تأسيس نشاط تجاري تحت اسم «مكتب حسين بن عيسى وإخوانه». وكان للأشقاء الأربعة أخ خامس هو سلطان بن عيسى القناعي الذي فضل أن تكون له أعماله المستقلة في الكويت.
وقد تولى «مكتب حسين بن عيسى وإخوانه» تصدير المواد الغذائية والأقمشة وغيرها من احتياجات التجار في الكويت، علاوة على تزويد محلهم التجاري في سوق المناخ بالقرب من مقهى «بوناشي»، الذي عـُرف أيضاً بمكتب يوسف بن عيسى وإخوانه.
تقسيم
قسّم الأشقاء الأربعة العمل في ما بينهم، وتقول الباحثة الحربي في هذا السياق: «في الهند تولى حسين مسؤولية الإشراف والتصدير، وتولى سليمان مسؤولية تصريف اللؤلؤ الطبيعي، إضافة إلى مسؤولية متابعة محله التجاري في البحرين المخصص لهذا الغرض، وتولى الشقيقان يوسف وأحمد الإشراف على محل الكويت».
وطبقاً لما ذكره خالد عبد المغني في الجزء الأول من كتابة «عودة إلى شارع محمد علي رود وسط بومباي الصادر في 2013 (دون ذكر الناشر) انتقل مكتب الأشقاء الأربعة إلى عدة مواقع، فمن عنوان 27 شارع سوتار شاول Sutar Chawl القريب من شارع عبد الرحمن إلى الدور الثالث من عمارة C داخل المجمع المعروف باسم مبنى سيتارام Sitaram Building بالقرب من مكتب عميد الجالية العربية بالهند الوجيه محمد علي زينل، إلى مقر في العنوان 102 شارع محمد علي رود، الذي ظل يديره قنصل الكويت الأسبق في بومباي فيصل عيسى القناعي، إلى ما قبل وفاته هناك في مارس 2016 مع شريك هندي مسلم يدعى جميل عبد العزيز.
40 عاماً
تقول الباحثة الحربي في الصفحة 387 من كتابها: «ظل حسين بن عيسى القناعي في الهند أربعين عاماً يدير مكتبه دون كلل أو ملل. وفي عام 1944 تعرضت مدينة بومباي لانفجار عنيف بمتفجرات كانت تحملها إحدى السفن الراسية، وسقطت كتلة حديدية ملتهبة على مكتبه، وكاد يـُقتل فيها، لكنه أكمل عمله ولم يكترث بها. كان لحسين بن عيسى عدد من الأبناء هم: (محمد وعبد الوهاب وعلي وهشام ووليد وخالد وعادل)، وقد حرص على تدريبهم على أصول العمل التجاري في الهند، في ذلك المكتب».
وفي ذلك المكتب تدرب أيضاً عدد آخر من الجناعات مثل: عبد العزيز أحمد بن عيسى القناعي، وكل من عبد الله وحامد وعيسى وعبد الحميد أبناء الشيخ يوسف القناعي، وكل من محمد وحمد وفهد أبناء سلطان القناعي. كما كان يتردد على المكتب الأخوان مساعد وعيسى الصالح المطوع القناعي.
استمر المكتب يمارس أعماله، ولا سيما أعمال تسويق اللؤلؤ حتى الأربعينيات من القرن العشرين. وفي عام 1955 عاد حسين بن عيسى إلى الكويت ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، تمثلت في تسخير تجربته الثرية لإدارة المكتب التجاري للجيل الثاني من أبناء الجناعات.
مهن
أخبرتنا الإعلامية والناشطة الكويتية المعروفة فاطمة حسين أنّ عمل والدها حسين بن عيسى القناعي لم يقتصر على النشاط التجاري فقط، وإنما اشتمل أيضاً على تصليح الساعات، وهي مهنة تعلمها من الهنود.
كما أشرف أثناء وجوده في الهند على إعداد الحروف العربية وصناعتها وإرسالها إلى الكويت كي تـُستخدم في الطباعة. وتضيف في مقابلة شخصية أجرتها معها الباحثة الحربي أنّ والدها كان ملتزماً دينياً، محباً للغة العربية، عاشقاً للشعر العربي الفصيح، متأثراً بملابس الهنود المريحة التي ظل يرتديها.
أما زوجته سبيكة عبد الوهاب المطوع القناعي فقد عاشت معه في الهند لفترة أنجبت له خلالها ولدهما عادل، لكنها لم تستطع التأقلم مع أجواء الهند الرطبة فعادت إلى الكويت، وصار هو يزورها كل عامين. وفي المقابلة نفسها تطرقت فاطمة حسين إلى جوانب أخرى من شخصية والدها فقالت: «كان لصيقاً بالحداثة وآخر المستجدات الحضارية، فقد جلب من الهند الأبواب الخشبية والغسالة الكهربائية والثلاجة».
توفي حسين بن عيسى القناعي في الكويت في يناير 1957 أي بعد نحو عامين من عودته من الهند، لكن أبناء الجناعات لا يزالون يتذكرونه بالتقدير والإجلال ويعدونه عمهم الكبير الذي رباهم.
متدرب
تطرقنا عند حديثنا السابق عمن تدربوا في مكتب حسين القناعي وإخوانه في الهند إلى عيسى بن يوسف القناعي، وهذا له دور كبير مشهود في تاريخ القناعات في الهند، هو من مواليد الكويت في سنة 1906، وبعد أن أتم دراسة القرآن واللغة العربية في المدرسة المباركية أرسله والده العلامة المصلح الشيخ يوسف بن عيسى القناعي في عام 1922 إلى بومباي للتدرب في مكتب عمه حسين القناعي. وهكذا ظل يتردد على الهند إلى أن استقر بها في عام 1946.
وفي الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين ذاع صيته تجارياً واجتماعياً وثقافياً، فقد عمل على تعزيز العلاقات التجارية بين الكويت والهند من خلال مكتب عمه، وجعل هذا المكتب وكيلاً غير رسمي لإدارة شؤون الكويت المالية وشؤون الأمير الراحل الشيخ عبد الله السالم الصباح في الهند، ووكيلاً أيضاً لإدارة أملاك التاجر الكويتي المعروف هلال فجحان المطيري.
من جانب آخر كان الرجل دوماً من مستقبلي ومرافقي الشيخ عبد الله السالم الصباح خلال رحلاته العديدة للهند، وهو الأمر الذي ساعده على توثيق تلك الزيارات بالكلمة والصور التي كُلفت بالتقاطها المصورة الهندية «واديا».
كما جعل من مكتب عمه محطة مهمة لكل من يفد إلى الهند لإنجاز الصفقات التجارية من أبناء الخليج، فأضحى المكتب داراً لاستضافة الكويتيين والخليجيين والعرب، ومقراً لحل مشكلاتهم وإسداء النصح لهم، وهو ما جعل البعض يصفه بالسفير غير الرسمي للكويت طبقاً لما ورد في الصفحة 85 من كتاب «شخصيات كويتية» لعادل محمد عبد المغني الصادر في عام 2002 (دون ذكر الناشر).
قنصل
ومن جانب آخر كان للرجل دور في تأسيس «المدرسة العربية الكويتية» في بومباي، حيث أشار هو ومجموعة من تجار الكويت في الهند على الشيخ عبد الله السالم الصباح ورئيس دائرة معارفه الشيخ عبد الله الجابر الصباح خلال زيارة لهما للهند سنة 1952 بضرورة تأسيس تلك المدرسة لخدمة أبناء المقيمين العرب في بومباي، فأوكل إليه الشيخ عبد الله السالم العملية، فقام باستئجار مقر لها في منطقة «تشيرتش غيت»، وأشرف على تهيئتها وإدارتها.
استقر هذا العلم من أعلام الجناعات في الهند مع زوجته فاطمة سعدون البدر القناعي وأبنائه؛ فيصل وخالد وغنيمة ولولوة وسعاد ورابعة وخولة منذ عام 1946، وسكنوا منزلاً فخماً في منطقة «مارين درايف» الراقية في بومباي، ودرس الأبناء والبنات في المدارس الهندية، علماً أن الابن فيصل المولود في الكويت سنة 1933 سار على درب والده فأقام علاقات متميزة مع الشيخ عبد الله السالم ورموز المجتمع الهندي والعربي في بومباي. وبسبب هذه العلاقات، معطوفة على مؤهلاته الدراسية وإجادته التامة للغة الإنجليزية، وخمس لغات هندية، اختاره الشيخ عبد الله السالم، بـُعيد استقلال الكويت سنة 1961، ليكون أول قنصل للكويت في بومباي.
تقاعد
وبعد تقاعده عن العمل سنة 1990 فضّل فيصل القناعي البقاء في الهند لممارسة التجارة، وإدارة مكتب العائلة التجاري، إضافة إلى إدارة أملاك بعض العائلات الكويتية في بومباي. وظل الرجل على هذا الحال إلى أن وافته المنية في مارس 2016، فدفن بجوار والديه في المقبرة الملحقة بالمسجد، الذي تولى رعايته وتجديده بالتعاون مع الوجهين محمد العلي البسام ومحمد علي البقاش في منطقة كاريلواري.
تجارة
ذكرنا فيما سبق أن الأخ الخامس لحسين بن عيسى القناعي، واسمه سلطان، فضّل البقاء في الكويت لإدارة تجارته المستقلة ولم يلتحق بإخوانه في الهند. غير أن ابنه حمد بن سلطان بن عيسى القناعي ذهب لاحقاً إلى بومباي وأسس فيها سنة 1930 مكتباً تجارياً مستقلاً تحت اسم «شركة حمد سلطان للاستيراد والتصدير»، وكان مقر المكتب في بناية هاشم في شارع محمد علي رود، علماً أن الرجل تخصص في تزويد تجار الكويت والبصرة بمختلف البضائع الهندية المنشأ من مواد غذائية وكماليات وسجاد وأقمشة وحراير وخيام وحبال وغيرها.
وهناك رسالة، تحدثت عنها الباحثة حصة الحربي في الصفحة 408 من كتابها، أرسلها حمد بتاريخ 1943/4/16 إلى التاجر حامد النقيب في البصرة يخبره فيها بأنه شحن له 1100 صندوق من الشمع بواسطة البوم «مرزوق» تحت قيادة النوخذة المعروف يعقوب بشارة.
وكغيره من الجناعات، استقر حمد سلطان في بومباي مع زوجته بدرية سليمان عيسى القناعي، وأبنائه: بدر وغازي وفاروق وفوزي ونادر ونادرة وفوزية ونجاة منذ عام 1940، وسكن في منطقة نام بنيسي رود بوسط المدينة.
وأدخل أولاده وبناته في أرقى المدارس والجامعات الهندية لتلقي العلوم العصرية، وعاش حياة اجتماعية حافلة بحضور المناسبات الرسمية ومرافقة زوار الهند من شيوخ الكويت والخليج، ولم يعد إلى الكويت إلا في عام 1958، حيث عمل في مجال النفط مع الشركات اليابانية إلى أن توفي سنة 1967.
نابغة
ومن أبناء الجناعات الآخرين الذي ذهبوا إلى الهند ودرسوا وأقاموا وعملوا بها سليمان إبراهيم عبد الوهاب المسلم القناعي، المولود في الكويت بفريج الجناعات سنة 1900، الذي درس في المدرسة المباركية، ثم درس الإنجليزية في المدرسة التابعة للإرسالية الأمريكية في الكويت على يد القس كالفرلي سنة 1917، ومن بعدها التحق بالمدرسة الأهلية التي أسسها وأدارها هاشم عبد الرحمن البدر القناعي لتعليم اللغة الإنجليزية ومسك الدفاتر والطباعة على الآلة الكاتبة في عام 1932.
وبسبب إجادته اللغة الإنجليزية ونبوغه لفت الأنظار إليه وخصوصاً من قبل التاجرين حسين بن عيسى القناعي وشقيقه سليمان فاستدعياه إلى بمبي للعمل في مكتبهم. وبالفعل سافر الرجل إلى الهند سنة 1923 وعمل لدى التاجرين فترة قصيرة، قبل أن يقتنصه التاجر النجدي حمد العلي القاضي للعمل معه في مكتبه التجاري في بومباي كمدير لأعماله. وبعد مرور سنتين من إقامته وعمله هناك استدعى زوجته لطيفة المسلم القناعي وابنته عائشة للاستقرار معه في الهند.
أوقات جميلة
في مقابلة شخصية للباحثة حصة الحربي في أغسطس 2015 مع عائشة القناعي المولودة في الكويت عام 1928، تحدثت الأخيرة عن تجربتها في الهند، فقالت إنها سافرت إلى هناك برفقة أمها وعمها أحمد المسلم على ظهر أحد المراكب السريعة التابعة لشركة الهند البريطانية للملاحة البخارية، في رحلة استغرقت 16 يوماً، وأنهم سكنوا في عمارة بشارع محمد علي رود، وأنها درست في مدرسة هندية وتعلمت الإنجليزية على يد معلمة خصوصية في المنزل، فيما نال إخوتها المولودون في الهند (هند وليلى وداوود) تعليمهم في مدارس إنجليزية، مضيفةً أنهم قضوا أوقاتاً جميلة لم يعتادوها في الكويت بمنتجعات «كندالا» و«لوناولا» ومنتزه «بالوا»، وترددوا على دور السينما الهندية وركبوا الفيلة والقوارب، وارتبطوا بعلاقات صداقة مع العائلات الكويتية والنجدية المقيمة في بومباي، مثل: البسام والقاضي والشايع والفوزان.
صفحة مُتخصّصة بالتأريخ الاجتماعي لمنطقة الخليج العربي