ظلا يعتزان بمكان ميلادهما ومرابع صباهما في الكويت، ولم يتخليا عن لقبهما «الكويتي»، كما ظلا يعتزان بانتمائهما إلى بلد أجدادهما العراق، وحرصهما على ارتداء السدارة العراقية خلال حفلاتهما الفنية، ومتابعة أخبار العراق، والتألم لأحواله.

وقبل أن ندخل في التفاصيل إليكم ما خطه الكاتب خالد القشطيني في أحد أعمدته في 4-12-2008، ما مفاده أن العراقيين كانوا لا يعرفون من الموسيقى غير الأغاني الكلاسيكية، والريفية، بمعنى أنه لم تكن هناك موسيقى تفي بحاجة الطبقة المتوسطة الناشئة حديثاً من أهل النفط والتجار وضباط الجيش وأصحاب المهن. وظل الحال كذلك إلى أن أشرقت شمس صالح الكويتي الذي ملأ الفراغ بأغانٍ ذات نكهة مختلفة، وموسيقى معبرة عن مشاعر أبناء وبنات الطبقة البرجوازية العراقية الجديدة في ثلاثينات وأربعينات القرن الـ20، بالتعاون مع شقيقه داوود.

لقب مستحق

ويضيف القشطيني أنه لهذا السبب يستحق صالح الكويتي لقبي «أبو الموسيقى العراقية»، و«واضع أسس الطرب العراقي المعاصر»، كونه قدم أجمل الألحان التي غنتها المطربة سليمة مراد الشهيرة بـ«أم كلثوم العراق»، وغيرها من المطربات مثل: زكية جورج، وسلطانة يوسف، وبدرية أنور، ومنيرة الهوزوز، وزهور حسين، وعفيفة إسكندر، علاوةً على وضع مقدمات موسيقية لأغاني «حضيري بوعزيز»، و«داخل حسن».

وقد جارى القشطيني في الاعتراف بفضل الكويتي على الموسيقى العراقية، «المايسترو» عبدالرزاق العزاوي، الذي قال في برنامج «الأغاني» من فضائية الحرة: «إن الكويتي يعتبر مؤسس الأغنية العراقية، فعلى الرغم من أنه بدأ في الثلاثينات إلا أنه يعتبر المؤسس وواضع الأسس والقواعد للأغنية العراقية، والذين جاؤوا بعده من الملحنين ساروا على نهجه ومدرسته في التلحين والصياغات اللحنية الإيقاعية، وهو أول من أسس الأغنية المأخوذة أساساً من المقام العراقي». أما الناقد الموسيقي، عادل الهاشمي، فقال في البرنامج ذاته: «الكويتي من أعظم الملحنين الذين أنجبهم العراق في العصر الحديث، وأنا أشاطر العزاوي فيما يتعلق بأنه منشئ الأغنية العراقية الحديثة».

موسيقى شعبية

وكذلك، أكد سليمان، ابن الكويتي، في كتابه «صالح الكويتي.. نغم الزمن الجميل»، زاعماً أن 90% من الموسيقى الشعبية العراقية هي من ألحان والده، وأنه تم حذف اسم الأخوين الكويتي من كل الأعمال التي قدماها، لتصبح التسجيلات منسوبة إلى الفلكلور القديم أو إلى أغانٍ شعبية مجهولة المصادر.

ويخبرنا القشطيني بأن الكويتي هام عشقاً بالمطربة ذات الأصول الحلبية، زكية جورج (اسمها الحقيقي فاطمة محمد)، ووقعت في غرامه وراح يعلّمها أصول الأداء ويدرّسها الموسيقى، ويضيف أنها تركت بغداد للعمل في البصرة، ووقعت هناك في غرام طبيب أسنان، وطال غيابها مسبباً للكويتي الوجد والشجن والمعاناة واللوعة التي جسدها في أغانٍ عاطفية متتالية.

وفي السياق ذاته، روت الكاتبة، نسرين الرشيدي في جريدة «عين المشاهير» (29-3-2018)، أن الكويتي شرح قصته هذه لأحد الشعراء، طالباً منه أن يترجمها شعراً، فكانت ولادة أغنية «هذا مو إنصاف منك غيبتك هالقد تطول.. الناس لو تسألنى عنك شرد أجاوبهم شقول»، لحنها الكويتي وأرسلها إلى زكية فى البصرة لتؤديها، لكنها رفضت، فقامت الفنانة سليمة بغنائها ونجحت نجاحاً باهراً، الأمر الذي أدى إلى ندم زكية على ضياعها للفرصة.

جذور عائلية

لكن من هما الأخوان الكويتي؟ وما جذورهما العائلية؟ وما سبب إطلاق لقب الكويتي عليهما؟ وما خلفيات انتقالهما إلى العراق ومن ثمّ إلى فلسطين؟ وماذا قدما كي يظل اسماهما محفوران في ذاكرة الأجيال المحبة للطرب الأصيل؟ نعتمد في الإجابة عن هذه الأسئلة على كتاب «صالح الكويتي.. نغم الزمن الجميل»، علاوةً على ما نشر عنهما في وسائل الإعلام المختلفة قديماً وحديثاً.

وُلد الأخوان صالح وداوود في منطقة شرق بالعاصمة الكويت عامي 1908 و1910 على التوالي لعائلة من أصول عراقية. والدهما هو «عزرا بن يعقوب أرزوني» المولود في شيراز عام 1867 لأسرة عراقية كانت قد انتقلت إلى إيران من البصرة، علماً بأن الأسرة عادت للاستقرار في البصرة بعد ولادة عزرا بشهرين.

وعندما شبّ عزرا اشتغل بالتجارة، ومع مطلع القرن الـ20، انتقل وزوجته تفاحة إلى الكويت، بحثاً عن فرص تجارية أفضل، حيث سكنا في شارع الغربللي بـ«فريج» اليهود، وراحت أحوالهما المعيشية تتحسّن باضطراد بسبب انتعاش الأوضاع الاقتصادية آنذاك، ما جعلهما يكثران من الإنجاب، فأنجبا بعد ولديهما صالح وداوود، 7 من البنين والبنات.

نقطة تحوّل

ويخبرنا سليمان أن نقطة التحول الأولى في حياة والده وعمّه لجهة الانشغال الحقيقي بالموسيقى، كانت بعودة خالهما رحمين من رحلة تجارية بالهند، جالباً معه آلة كمان لصالح ذي السنوات الـ10، وآلة عود لداوود ذي السنوات الـ8 بقصد تنمية مواهبهما الموسيقية، التي نمت بالفعل بفضل تلقيهما لاحقاً دروساً في العزف والغناء لدى الموسيقار الكويتي الكبير خالد البكر، حيث تعلّما على يديه الألحان الكويتية والبحرينية واليمانية والحجازية، وتعرفا على الموسيقى العراقية والمصرية عبر الاستماع إلى أسطوانات كان يمتلكها البكر، وحين تقدما في العزف والغناء أخذا يشتركان في إحياء حفلات المعارف والأقرباء ووجهاء الكويت، ثم أقطار الخليج، يصاحبهما عازفون على المرواس مثل سعود المخايطة، وعبدالرحمن الخميري، وغيرهما، طبقاً لما ذكره الكاتب، مازن لطيف في مقاله بموقع الحوار المتمدن (2-1-2011)، واستناداً إلى ما ورد بموقع «الكويت ثم الكويت» (7-8-2010).

عمل فني

وفي الكويت، أعادا إحياء صوت «والله عجبني جمالك» لعبدالله الفرج، وقدماه كأول عمل فني أمام كبار الكويت، ورافقا المطرب، عبداللطيف الكويتي إلى البصرة عام 1927 لتسجيل أولى أسطواناته.

شهرة وصيت

أما نقطة التحول الثانية في حياة الأخوين الكويتي كانت سفرهما عام 1927 إلى البصرة، بعد تحقيقهما شهرة وصيتاً في الخليج والكويت التي تمسّكا بالانتساب إليها لقباً بسبب ميلادهما على أرضها وبزوغ نجمهما فيها. حيث التقيا في البصرة للمرة الأولى بالمطرب الكبير محمد القبنجي، الذي أعجب بهما، وعلمهما مقام اللامي الذي ابتدعه، وضمّهما إلى فرقته الشرقية التي كان يقودها عازف القانون عزوري أبو شاؤول. وفي البصرة، نالا الإعجاب والتقدير من كبار العاملين في حقل الموسيقى والغناء رغم صغر سنهما، كما استغلا وجودهما في البصرة لتوسيع مداركهما في أصول المقام العراقي وتقسيماته.

غناء خليجي

لم تدفع هذه التطورات الكويتي إلى قطع صلته بالغناء الكويتي والخليجي، إذ ظل يغني الأصوات والألحان الكويتية في الحفلات التي كان يقيمها للوجهاء الكويتيين المترددين على بغداد، كما سُجل عنه قوله: «الكويت أحسن بلدة شفتها في حياتي»، مضيفاً أنها كانت هادئة، ولا توجد فيها تعديات، وفيها مساواة وأمان، وكان فن الإيقاع فيها أكثر شهرة من أي نوع موسيقي آخر، حيث يعزف الكويتيون على المرواس ويرقص الرجال رقصاً موزوناً غير موجود في أماكن أخرى».

ولم تقتصر أهمية بغداد في حياة الكويتي على كونها نقطة الانطلاق الحقيقية في مشواره الموسيقي، ولا على كونها المكان الذي انتقل فيه هو وأخوه من ليالي الملاهي إلى ليالي البلاط الملكي وأوساط النخب العراقية العليا، فقد مثلت بغداد له المكان الذي دقَّ فيه قلبه للمرة الأولى، والمكان الذي نال فيه أول تكريم كبير، حينما أهداه الملك غازي بن فيصل الأول ساعةً ذهبية عليها ختمه الشخصي تقديراً لفنه ولبرامجه الموسيقية من إذاعة قصر الزهور، والمكان الذي سجل فيها أشهر الأغاني الخليجية بصوته على أسطوانات منها: «يعاهدنني لا خانني»، و«والله عجبني جمالك»، و«في هوى بدري وزيني»، و«إن شكوت الهوى»، و«لعل الله يجمعنا قريباً»، و«ألا يا صبا نجد».

عمل وطني

شهدت بغداد تكليفه بعمل وطني كبير تمثل في تشكيل وقيادة أول فرقة موسيقية متكاملة للإذاعة العراقية مع افتتاحها عام 1936، وهي الفرقة التي ضمَّت إلى جانبه أخيه داوود والقبنجي وغيرهم، وظل قائداً لها حتى استقالته عام 1944، كما ظل يقدم برامج موسيقية للإذاعة، ووضع عام 1947 الموسيقى التصويرية لأول فيلم عراقي «علياء وعصام» من إخراج أندريه شاتان، وسيناريو أنور شاؤول، وتلحين أغاني الفيلم التي غنتها بطلته سليمة، وأسس مع أخيه داوود أول معهد لتعليم الموسيقى عام 1931، وجدّدا وحدّثا «التخت الموسيقي» بإدخال آلتي الكمان والقانون بدلاً من الجوزة والسنطور، فضلاً عن التشلو والناي.

ومن الذكريات البغدادية القابعة في خيال الكويتي، قصة لقائه في بغداد عام 1932 بأم كلثوم خلال زيارتها لبغداد لتقديم حفلة غنائية في ملهى الهلال، حيث أعجبت بأغنية «قلبك صخر جلمود» التي لحنها الكويتي لسليمة، فطلبت من الأخيرة تدريبها عليها، لاسيما ما يتعلق بطريقة نطق المفردات العراقية، فكان لها ذلك، ثم قدمتها بصوتها في ملهى الهلال، فكانت المرة الأولى التي تغني فيها أم كلثوم أغنية لغيرها من لحن ملحن غير مصري.

ومن ذكرياته البغدادية الأخرى التي ظل يفتخر بها حتى وفاته، حكاية لقائه الأول بالموسيقار محمد عبدالوهاب عام 1932، حينما جاء لإحياء حفل على مسرح حديقة المعارض، حيث أعجب الأخير بمقام اللامي الذي كان الكويتي قد طوّره ووسّعه، ولم يكن معروفاً في مصر فأخذه عبدالوهاب واستخدمه لاحقاً في أغنيته «ياللي زرعتوا البرتقان» التي غناها في فيلم «يحيا الحب» (1938) بمشاركة المطربة رئيسة عفيفي، ثم في أغنيته «أنا والعذاب وهواك».

ومع بدء الصراع لتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود، وما رافقه من تزايد النقمة ضد اليهود العرب، لاسيما في العراق الذي شهد ما يُعرف بيوم «فرهود الأسود» في 1 يوليو 1941، شعر الأخوان الكويتي للمرة الأولى بعدم الأمان، فقررا مضطرين الهجرة إلى فلسطين مع من نقلتهم الطائرات الأمريكية والبريطانية عبر قبرص وإيران، خصوصاً أن الحكومة العراقية كانت قد أصدرت آنذاك قراراً بإسقاط جنسيتهما.

وبهجرتهما انتهت الحقبة التي حفلت بإنتاجهما الغزير، إذ أنهما استقبلا برشهما بمبيد الحشرات خوفاً من القمل، ثم تم إسكانهما في مخيمات كئيبة، قبل أن ينقلا للعمل في حصد الثمار وبناء المستعمرات، إلى أن انتهيا بفتح دكان صغير لهما لبيع المواد الغذائية في تل أبيب.

ومع أن صالح لحن في إسرائيل نحو 50 أغنية بالعربية أدى معظمها أخوه داوود وقسماً منها المطرب الإسرائيلي فلفل كرجي، وبالرغم من أنها كانت تذاع من إذاعة صوت إسرائيل العربية، إلا أن ذلك لم يكن يقارن إطلاقاً بمجدهما في العراق الذي أثمر عن نحو 700 لحن خالد.

وفي مقابلة مع صحيفة العرب اللندنية (10-9-2018) كشف سليمان أن والده لم يكن راغباً في ترك العراق وعمله الفني فيه، لكنه هاجر تحت ضغط والدته وأسرتها، مضيفاً أن والده كان يتحسر على حياته في العراق بعد أن عاش مع شقيقه داوود حياة غاية في الصعوبة في إسرائيل، وأن أمه عبرت لاحقاً عن ندمها بالهجرة، وقالت: «لا حياة تعادل حياتهم في العراق».

سياسة وفن

ذكر الكاتب، كرم نعمة، في صحيفة «العرب» اللندنية: «يا لخيبات السياسة عندما تفسد الفن، وتجعل من الموسيقى الهائمة شعاراً سياسياً هزيلاً، تريد إسكات الحلم الذي ينبض في أرواحنا ومعاملته كمنشور رثٍّ يحرّض على الانقلاب العسكري! ويا لخيبات السياسة أينما كانت هنا أو هناك، عندما تتطفل على الفن وتصنفه معها أو ضدها»، تعليقاً على الألم الذي كان يشعر به الكويتي وهو يستمع من دكانه الصغير في تل أبيب إلى الإذاعة العراقية تبث ألحانه بصوت زكية وسليمة وعفيفة، دون ذكر اسمه المحظور.

في فبراير 2009، استجاب مجلس بلدية تل أبيب لطلب من سليمان لتغيير اسم أحد الشوارع القريبة من منزل العائلة في جنوب تل أبيب، وإطلاق اسم «الأخوين الكويتي» عليه، الأمر الذي أثار علامات استفهام في أوساط الأجيال الجديدة، مثلما أثار السخط في أوساط اليمين الإسرائيلي المتشدد كون الاسم الجديد عربياً.

توفي داوود عام 1976 ولحقه صالح بعد 10 سنوات، كانت هي الأصعب في حياة صالح لأنه افترق عمن شاركه رحلة الطفولة والصبا ومشوار العمل والأمجاد الفنية، وحقبة الخوف والهجرة والمعاناة والحنين إلى العراق.

 

1929

كانت المحطة المفصلية الأهم في حياة الأخوين الكويتي عام 1929 بانتقالهما إلى بغداد، التي غنى صالح الكويتي فيها «عيني وماي عيني يا عنيـّد يا يابا»، وفيها التقيا بمطربة العراق الأولى سليمة مراد التي طلبت منه أن يلحن لها بعض الأغاني، فاستجاب واختار للشاعر البغدادي عبدالكريم العلاف ولحنها. وهكذا وُلدت أغانٍ لاقت نجاحاً جماهيرياً، ظلت حاضرة في الذاكرة الفردية والجمعية بأصوات فنانين آخرين.

منها: «قلبك صخر جلمود، ما حنْ عليّ، وانته بفرح وبكيف.. والبيّه بيّه»، و«منك يالأسمر»، و«خدْري الشاي خدريه»، و«هوّ إلبلاني»، و«يا نبعة الريحان، حني على الولهان»، و«يا بلبل غني لجيرانه» من الترجمة العربية لجميل صدقي الزهاوي لكلمات الفيلسوف الهندي طاغور، وغنت مراد من كلمات العلاف وألحان الأخوين الكويتي «نشيد الإنشاد» ومطلعه «على شواطي دجلة.. مر». وحوله كتب الباحث العراقي علي عبدالأمير في جريدة دنيا (يوليو 2018): «نحن أمام احتفال إنساني بالطبيعة وجغرافية المكان وملمحه الأبرز النهر وهو ما عبّر عنه العلاف بروح آخاذة تجمع التصوير والتلقائية الشديدة».

صفحة مُتخصّصة بالتأريخ الاجتماعي لمنطقة الخليج العربي