من يقرأ تاريخ دولة الإمارات قبل قيام الاتحاد عام 1971، سيجد الكثير من الحكايات والتفاصيل عن رجال أفذاذ نذروا أنفسهم للعلم والتدريس، فانتقلوا إلى بلادٍ بعيدة من أجل التحصيل، وعندما رجعوا أفنوا حياتهم وزهرة شبابهم في تدريس أبناء وطنهم في الزمن الصعب، زمن البدايات الذي لم يكن التعليم فيه متاحاً للجميع، وكانت أدواته وأساليبه وفصوله ومناهجه بدائية ومتواضعة.

من هؤلاء الذين يجب التنقيب في سيرهم وتقديمها للأجيال الجديدة التي لم تعاصر البدايات الصعبة، ولم تكابد ما كابده الرعيل الأول من مشاق ومعوقات، الشيخ أحمد بن عبدالله بن علي بن ظبوي الفلاسي، من طلبة العلم الذين أخذوا قسطاً من التعليم في المدارس القديمة التي ظهرت في دبي مثل «مدرسة الفلاح» و«المدرسة الأحمدية»، وغيرهما من المدارس شبه النظامية، وهو أيضاً واحدٌ من القلائل الذين قام التعليم القديم على أيديهم بفضل ما آتاهم الله من حب العلم والتدريس، فلم يبخلوا على طلابهم لجهة ترغيبهم وحثّهم على تحصيل العلم والاستزادة المعرفية، وهو من جهة أخرى ضمن الأوائل من أبناء دبي ممن شدّوا الرحال إلى الأراضي المقدسة في الحجاز للتتلمذ على يد كبار علماء عصرهم.

نشأة وسيرة

يخبرنا الصديق الدكتور عبدالله الطابور (من أبناء رأس الخيمة النجباء)، في الجزء الثاني من كتابه: «رجال في تاريخ الإمارات (إصدار مركز زايد للتراث 2003 - الصفحات من 55-68)، أن بن ظبوي ولد في دبي عام 1924، وعندما كان في سن الخامسة أو السادسة ألحقه والده بمدرسة الفلاح التي أسسها رجل البر والإحسان وتاجر اللؤلؤ الحجازي، الذي يستعصي على المرء سرد كل فضائله، الحاج محمد علي زينل كرمستجي عام 1927، في مبنى ببر دبي كان يملكه الشيخ المر بن حريز الفلاسي، والد الشيخة حصة أم المغفور له الشيخ راشد من سعيد آل مكتوم، رحمه الله، وكان المبنى عبارة عن عدّة دكاكين في أرض فضاء.

وقتها كانت المدرسة تحت إدارة الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن حافظ الأنصاري الشافعي، (ولد بقرية بلوك في جنوب فارس عام 1886، وتوفي قاضياً في الباطنة عام 1954، ودرس في مكة لمدة 7 سنوات)، قبل أنْ ينضم إليه الشيخ محمد نور بن الشيخ سيف بن هلال بن شُويمِر المهيري (المولود بدبي عام 1905 وتُوفي بمكة في مارس 1983 عن عمر ناهز 80 عاماً، ودُفن فيها)، كمساعد للمدير، وأيضاً كمدرس لبعض المواد، في أعقاب عودته من دراسته بمدارس الفلاح في مكة المكرمة التي كان قد هاجر إليها عام 1916 برفقة والده، علماً بأن الشيخ محمد نور صار مديراً للمدرسة بعد أن غادر الشيخ عبدالرحمن دبي إلى سلطنة عُمان لتولي القضاء في الباطنة، كما صار لاحقاً مديراً للمدرسة الأحمدية التي سنأتي على ذكرها.. وقتها أيضاً كان أهالي دبي حريصين على إلحاق أبنائهم بمدرسة الفلاح، لأن التعليم فيها كان أكثر تطوراً من بقية المدارس سواء لجهة طرق التدريس والمناهج المعتمدة، أو لجهة المدرسين من أصحاب الخبرة الطويلة في مجال التدريس والاطلاع الواسع على العلوم الدينية والدنيوية.

تعليم وتلقين

يقول بن ظبوي إنّ الطالب في الصف الأول بمدرسة الفلاح كان آنذاك يتعلم القراءة والكتابة، مع حرص شديد على تلقينه مبادئ الخط العربي وقواعده؛ لأن من يتعلم الخط يستطيع القراءة والكتابة بطريقة مثلى، فإذا ما أجاد القراءة والكتابة والإملاء فُرض عليه جزءُ عمّ من القرآن الكريم.

ويتوقف بن ظبوي هنا ليشير إلى ما وصلتْ إليه حالة طلاب اليوم من رداءة وقبح في الخط، لأن مدارسهم لا تدربهم على جمال الخط العربي ولا تبذل مجهوداً في تحسين خطوطهم. كان للمربي الشيخ محمد نور سيف المهيري فضل كبير على بن ظبوي، فهو من تعهده بالرعاية منذ صغره. وممن كانت لهم أفضال عليه أيضاً الشيخ محمد بن أحمد الشنقيطي، والشيخ عيسى اللنجاوي، والشيخ أحمد بن حمد الشيباني، والشيخ علي بن دعفوس، والشيخ ماجد بن محمد بن ماجد، وأخوه الشيخ عبدالجبار (مدير أوقاف دبي الأسبق).

نظام صارم

وتمضي الأيام، فيما بن ظبوي يواصل دراسته بمدرسة الفلاح وسط أساتذة أجلاء ونظام تعليمي صارم، حتى جاءت سنة 1957 وهي السنة التي اضطر فيها الحاج محمد علي زينل لإغلاق الفلاح بسبب تأثر أحواله المالية سلباً نتيجة للكساد الذي حل بتجارته في اللؤلؤ تلك السنة، وقد كان بن ظبوي قد تخرج وانتقل ليكون معلماً بـ«المدرسة الأحمدية» بمنطقة ديرة، والتي كان التاجر والمحسن المعروف الشيخ أحمد بن دلموك بن سعيد بن عبدالله بن حمدان الفلاسي، قد افتتحها عام 1912 على طريقة حلقات العلم الدينية الشبيهة بما كان عليه الحال في الأزهر والمسجد النبوي بالمدينة المنورة، قبل أن يتغير شكلها نحو الشكل المتطور في التعليم مع نهاية الثلاثينيات، ثم جلب لها بن دلموك بعد التأسيس خيرة المدرسين من الإحساء ومكة ومصر والزبير من أمثال الشيخ عبدالعزيز بن حمد آل مبارك وابنيه الشيخين عبدالله وعبداللطيف والشيخ إبراهيم آل مبارك وإبراهيم العجلي والشيخ عبدالله عبد الوهاب المزين وأحمد بن عبدالله العرفج ويوسف بن محمد الجامع ومشعان بن ناصر المنصور وعبدالله العبدالوهاب الوهيب وغيرهم من العلماء الذين كان بن دلموك يستضيفهم موسمياً. أما طلبة «الأحمدية» فكانوا يأتون من عُمان وبر فارس والإمارات الأخرى ويقيمون في سكن داخلي مع الأكل والشراب والكساء المجاني لمن لا يستطيع الدفع.

مواضيع متنوعة

في هذه المدرسة درس الكثيرون ممن حملوا لواء نهضة دبي لاحقاً، وفي مقدمتهم المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، أما عن مناهج المدرسة فيتذكر بن ظبوي أنها كانت تعتمد على ما يستطيع المعلم تقديمه من دروس ومواضيع متنوعة، وعلى ما كان يأتي من كتب من مكة المكرمة كتلك التي كان يرسلها من هناك الحاج محمد علي زينل، وتلميذ مدرسته الشيخ محمد نور سيف المهيري.

بعد أن أمضى بن ظبوي سنوات من عمره طالباً ومدرساً في مدارس دبي، وبعد أن تتلمذ على يديه عدد كبير من أبناء الإمارات من أمثال: جمعة الماجد، وراشد الماجد، وأحمد بورحيمة، وسيف بن سعيد بن غباش، وسعيد النابودة، وخليفة النابودة، ارتحل طلباً للمزيد من العلم إلى مكة المكرمة التي كانت آنذاك أرض العلم، وبلد العلماء والفقهاء القادمين من شتى البقاع، وموطن المدارس والمعاهد المعتبرة.

كان ذهاب بن ظبوي إلى مكة وتلقيه العلم في رحاب الحرم المكي على يد علماء أجلاء مثل شيخ المشايخ «محمد العربي التباني» عام 1951 أي في نفس العام الذي عاد فيه الشيخ محمد نور المهيري إلى مكة من دبي.. يقول بن ظبوي في هذا السياق إنه قسّم وقته في مكة إلى قسمين: الصباح لدراسة العلوم التي لم يدرسها في مدارس دبي مثل الجغرافيا وتاريخ أوروبا والعالم العربي والسيرة النبوية وسيرة خلفاء الدولتين الأموية والعباسية والحساب والهندسة والعلوم والرسم بمدرسة الفلاح على يد مدرسين متخصصين، والمساء لدراسة الفقه والحديث والتفسير في الحرم المكي على يد مدرسين أزهريين من مصر، وما بين هذا وذاك كان يسهم بالتدريس أيضاً في مدرسة الفلاح.

تلميذ ومعلم

يتذكر بن ظبوي أنه مكث في مكة 12 عاماً، ما بين عامي 1951 و1963 تلميذاً ومعلماً، وكان خلال هذه السنوات يتردد على مسقط رأسه في أيام العطلات، بالرغم من مشقة المواصلات وعدم انتظامها آنذاك، غير أن الرجل لم يحصل على أي شهادة عن سنوات دراسته تلك، لأن المهم عنده كان الاستزادة من العلم وليس نيل الشهادات، كما يتذكر أيضاً أنه حينما بدأ التدريس لأول مرة بمدرسة الفلاح في مكة كان الاعتقاد السائد بين معلمي المدرسة من أبناء الحجاز ومصر والشام أن هؤلاء القادمين من دبي لا يملكون الكفاءة اللازمة للتدريس، لكن ناظر المدرسة وقتذاك (سيد إسحاق عزوز) «وقف إلى جانبنا وشجعنا، وكان يولينا رعاية وأعطانا فكرة حول طريقة التدريس الحديثة، وأذكر أنه أسند إليّ مسؤولية التخطيط للامتحانات. وكنتُ أول من قام بهذا العمل تحت إشراف مدير المدرسة، لذا قمتُ بوضع برنامج لتخطيط الامتحانات، والمقصود به كشوف نتيجة الامتحانات التي كانت تُعقد كل شهر، ثم جعلوها كل شهرين».

«المعهد الديني»

ومن إسهامات الشيخ بن ظبوي التربوية إسهامه بالفكرة والعمل في «المعهد الديني» بدبي، الذي كان أحد أوائل المعاهد في الإمارات الذي اعتنى بتدريس علوم الدين واللغة بجميع فروعها. وملخص الحكاية أنه قبل استقالته من عمله بمدرسة الفلاح بمكة، عرض بن ظبوي على الشيخ محمد نور سيف المهيري فكرة إنشاء معهد ديني في دبي، خصوصاً أن دولة الكويت في تلك الفترة كانت تدعم الإمارات السبع بالتعليم والمدرسين كجزء من مساعداتها التنموية للدول الشقيقة الأقل دخلاً، وكان رد الشيخ محمد نور أنه سوف يعرض الفكرة خلال إحدى إجازاته إلى دبي على الحاكم الشيخ راشد بن سعيد، تغمده الله برحمته. وحينما فاتح الشيخ محمد نور الحاكم بالفكرة وافق عليها، بل استأجر للمعهد بيتاً كي يكون مقراً له، علماً بأن البيت تم استئجاره من الشيخ يوسف بن حافظ، وكان يقع بجوار منزل «محمد بن عبد الله الكاز».

يقول في هذا السياق: «عند استكمال تأسيس المعهد أعلن الخطباء في المساجد عن بدء تسجيل الطلاب، وقالوا: منْ أراد أنْ يضم ابنه فليتوجه إلى المكان الفلاني.. وكان ذلك عام 1962، وسمع الناس بهذا المعهد، وأقبلوا عليه لتسجيل أبنائهم، وبلغ عدد الطلاب المسجلين في اليوم الأول حوالي 100 طالب، وفي اليوم الثاني وصل العدد إلى 180.. عندها حمل الشيخ محمد نور كشفاً بأسماء الطلاب المسجلين، وذهب لمقابلة الشيخ راشد بن سعيد، فقال له: «أنا ما ظننت أن أحداً سيأتيكم». ويضيف بن ظبوي قائلاً: «كان رأي الشيخ راشد في محله، لأن المدارس (الأخرى) في ذلك الوقت أخذت بالانتشار في دبي».

تدرج وظيفي

وهكذا تأسس «المعهد الديني» وعاد بن ظبوي من مكة للعمل فيه عام 1963 مدرساً في بادئ الأمر ثم مساعداً لمدير المعهد، ثم موجهاً أول للعلوم الدينية خلفاً للشيخ أحمد بن حمد الشيباني الذي تُوفي وهو في ذلك المنصب. واستمر بن ظبوي يعمل مع غيره في حقل التعليم إلى أن تمّ استدعاؤهم من قبل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في «عيد المعلم» ليقول لهم: «أنتم الآن أديتم رسالتكم على أكمل وجه، ولا بد أن تستريحوا، وسيقوم بالعمل غيركم من الشباب، أما رواتبكم فسوف تتسلمونها كاملة دون نقصان».

وطالما أتينا على ذكر الرواتب (المعاش)، فإنها ــ طبقا للشيخ بن ظبوي ــ كانت عبارة عن مبلغ بسيط من الروبيات يتسلمه المعلم نظير قيامه بعمل جبار يعادل عمل عشرة من مدرسي هذه الأيام، موضحاً أن الهدف من التدريس في تلك الأيام كان بناء الوطن، لذا «لم ننظر إلى المادة، وكثيراً ما كنا نتطوع خدمة للتعليم الذي أحببناه واعتبرناه هاجسنا الذي لا نحيد عنه مهما كانت الظروف».

أسلوب حديث

من ضمن ذكريات بن ظبوي خلال فترة تدريسه بمدرسة الفلاح في مكة، فيخبرنا أن المفتش العام للتعليم، وكان مصرياً، دخل عليه الفصل ذات مرة وهو يدرّس طلبته مادة اللغة العربية ويشرحها لهم ويناقشهم فيها ويوجه لهم الأسئلة، ثم يخفف عليهم بعد مضي نصف ساعة برواية قصة أو إلقاء طرفة من باب التجديد ودفع الملل.

وكانت النتيجة أنْ ذهب المفتش بعد الحصة إلى غرفة المدير، واستدعى جميع المدرسين الخمسة والأربعين الذين كانوا يدرسون نحو 1300 طالب آنذاك، ليقول أمامهم: «أنا بايعتُ الشيخ أحمد بن عبدالله بن ظبوي على إمارة المدرسين»، مضيفاً: «هذا المدرس يستحق الثناء والتقدير لأنه يتبع أسلوباً حديثاً وجميلاً في التدريس، ولا يوجد لديّ انتقاد عليه».

أول راتب

يتذكر بن ظبوي، الذي فجعت الأوساط التربوية والتعليمية بدولة الإمارات بوفاته في دبي بتاريخ 28 سبتمبر 2009، أن أول راتب شهري تقاضاه في حياته كان 8 روبيات نظير عمله كاتباً للحضور والغياب بمدرسة الفلاح، وحينما صار مدرساً بالمدرسة الأحمدية عام 1957 ارتفع راتبه إلى 16 روبية، فيما كان راتب ناظر المدرسة الشيخ محمد نور سيف المهيري 25 روبية.

أما راتبه الشهري خلال عمله مدرساً بمدرسة الفلاح في مكة المكرمة فقد بلغ 180 ريالاً وهو ما كان يعادل 180 روبية.

تزوج بن ظبوي من إحدى فتيات منطقة الشندغة وهي شمسة بنت محمد بن بطي المهيري، ورزقا بالشيخ عبدالرحمن إمام مسجد بن ظبوي، الذي بناه التاجر محمد عبيدالله بمنطقة الممزر في دبي. أما وفاته فكانت في دبي عن عمر ناهز الخامسة والثمانين، ثم لحقت به زوجته في ديسمبر 2013.

صفحة مُتخصّصة بالتأريخ الاجتماعي لمنطقة الخليج العربي