الذين عاشوا في عقدي الخمسينات والستينات، لا بد أنهم عرفوا قسوة الحياة التي عاشها أهل الإمارات قبل قيام دولة الاتحاد عام 1971، وسط تلك الأجواء قيّض الله للإمارات أحد أبنائها الشباب الميامين والذي أخذ على عاتقه نشر العلم والفكر في محاولة منه لربط بلاده بما يدور في العالم من حراك، هذا الشاب هو إبراهيم بن محمد بن عبدالله المدفع الحارثي، الملقب بالمدفع نسبة لسرايا المدفعية التي عهدت إلى عائلته إبّان الحقبة العثمانية.

والمدفع من أبناء الشارقة، وقد ارتبط اسمه بظهور أول صحيفة في الإمارات قبل 85 عاماً، وكانت تدعى «صحيفة عُمان» ويحررها بنفسه بخط اليد، مستخدماً حبراً كانوا يسمونه «النغر الأحمر» ويستخرجونه من سمك الحبار المتوافر بكثرة في مياه الخليج العربي، حيث كان المدفع ينتج من هذه الصحيفة البدائية اليدوية 5 نسخ يعلق واحدة في وسط مدينة الشارقة كي يطلع من يجيد القراءة على محتواها من الأخبار والمعلومات فينقلها إلى الآخرين شفاهة، ويوزع النسخ الباقية على شيوخ البلاد وبعض أصدقائه.

خط جميل

حدث ذلك في عام 1927 في عهد حاكم الشارقة الأسبق الشيخ سلطان بن صقر بن سلطان القاسمي، وكان المدفع وقتها لم يكمل الثامنة عشرة من عمره، لكنه كان صاحب خط جميل بفضل تتلمذه على يد الشاعر أحمد بن عبدالرحمن الهرمسي المعروف عند سكان الشارقة باسم «بو سنيدة»، كما كان صاحب دراية بقواعد النحو والصرف والبلاغة كنتيجة لالتحاقه بـ«المدرسة التيمية المحمودية» (أول مدرسة شبه نظامية في الشارقة)، من بعد دراسته في الكتاتيب وتعلمه القرآن والتوحيد على يد الشيخ عبدالكريم بن علي البكري النجدي.

والمعروف أنّ العرب لم يعرفوا الصحافة إلا مع قدوم الحملة الفرنسية على مصر عام 1789، حينما أصدر نابليون جريدتين باللغة الفرنسية وهما «لوكورييه ديجيبت» و«لا ديكاد إيجيبتسيان»، إضافة إلى صحيفة «الحوادث اليومية» التي بدأت الصدور عام 1799 بموافقة نابليون وكان يحررها إسماعيل سعد الخشاب. وفي عام 1816 أصدر الوالي العثماني في بغداد، داوود باشا صحيفة «جورنال عراق» باللغتين العربية والتركية، وفي عام 1828 أصدر محمد علي باشا صحيفة رسمية باسم «الوقائع المصرية»، بعدها شهدت حلب عام 1863 ظهور أول جريدة سورية باسم «الشهباء»، ثم ظهرت بدمشق في عام 1867 جريدة «سوريا». وفي عام 1885 أصدر رزق الله حسون جريدة عربية أهلية في اسطنبول سماها «مرآة الأحوال العربية».

ثورة إعلامية

ويصف كمال القبيسي، المدفع في مقال نشره على موقع «العربية نت» في 2 ديسمبر 2011 بـ«صاحب الثورة الإعلامية في الإمارات»، وهو وصف يستحقه المدفع باقتدار إذا ما أخذنا في الاعتبار الظروف التي عمل فيها وحجم المعاناة التي تكبدها من أجل إيصال الخبر والمعلومة إلى أكبر شريحة من مواطنيه في زمن كانت فيه نسبة المتعلمين متدنية للغاية، بل إنّ الرجل يستحق أكثر من ذلك لأن «صحيفة عُمان» لم تكن إنجازه الوحيد. حيث أردفها في عام 1932 بصحيفة أخرى سماها «العمود» وكانت سياسية بطابع فكاهي وتقتفي أثر مجلة «حبزبوز» العراقية، التي كانت تصل إلى الشارقة من وقت إلى آخر، وذلك لجهة انتقاد الأوضاع السائدة في المنطقة. كما أصدر في العام التالي ما يمكن اعتباره «تويتر» الثلاثينات لجهة الاسم فقط، إذ ظهرت صحيفته الثالثة تحت اسم «صوت العصافير» أي «تغريدة» وكانت متخصصة في نقد الإنجليز ومعارضة وجودهم في منطقة الخليج، وكانت للمدفع أيضاً، إضافةً إلى ما سبق، نشرة منتظمة يعرض فيها أخبار الهند التي كانت تحظى باهتمام سكان الإمارات والخليج العربي بسبب اعتمادهم على بلاد الهند في تجارتهم وأرزاقهم.

تأسيس مكتبة

وحينما كان عمره 19 عاماً، قام إبراهيم المدفع بتأسيس ثاني مكتبة عرفتها الشارقة وهي «المكتبة التيمية الوهابية». وحول هذه المكتبة يقول الدكتور عبدالله الطابور، وهو من أبناء رأس الخيمة المهتمين بالتاريخ الاجتماعي والثقافي في الإمارات، في كتابه «رجال في تاريخ الإمارات» ـ صفحة 33 ـ نقلاً عن الشيخ محمد بن علي المحمود: «لما أراد إبراهيم المدفع تأسيس مكتبة استشار بعض الأدباء من زملائه أمثال عبدالله بن صالح المطوع والشيخ عبدالله بن علي المحمود، الذين وقفوا إلى جانبه وساعدوه على مشروعه الثقافي وأمدوه بالكتب، والرأي والمشورة، ولكن يبدو أن إبراهيم قد ورث مكتبة قديمة عن جده محمد بن عبدالله المدفع وهي من أوائل المكتبات المعروفة آنذاك، ومن خلال هذه المكتبة أسس المدفع مكتبته الشهيرة التي سماها بالتيمية الوهابية».

نقل بتصرف

لكن من أين كان المدفع يأتي بالمواد التي ينشرها في صحفه؟ ومن كان يتعاون معه في إخراجها وتحريرها؟ السؤال الأول أجاب عنه المدفع بنفسه حينما قال - ننقل هنا بتصرف - في مقابلة صحفية له عام 1979 في مجلته الشهيرة «الأزمنة العربية»: «كانت الأخبار ومواعيد وصول السفن إلى الخليج تأتينا من مصر والعراق والكويت متأخرة شهراً أو شهرين عن طريق صحف مصرية مثل «المقتطف» و«وادي النيل» و«الرسالة» و«الشورى» و«الهلال»، ومجلات عراقية مثل «حبزبوز» و«الفرات» و«بو حمد»، ومجلات كويتية مثل «الكويت» التي كان يحررها عبدالعزيز الرشيد، فنتابعها ونقوم بإعادة صياغتها ونشرها، وكنا نكتب عن أخبار البلد والأسعار والمناظر المؤذية وحكايات البدو وأخبار الغوص والأسفار، وكتبنا أيضاً مواضيع عن الحالة السياسية آنذاك، وأتذكر أننا كتبنا عن الإيطاليين وكــفاح عمر المختار وعن فلسطين أيام القاوقجي والحاج أمين الحسيني». وأما الذين كانوا يتعاونون معه في إصدار الصحيفة عبر كتابة المقالات فمن بينهم المؤرخ عبدالله صالح المطوع وحميد بن عبدالله الكندي وأحمد بن عبدالرحمن المدفع وعبدالله بن علي المحمود ومحمد بن علي المحمود والأديب مبارك بن سيف الناخي وأحمد بن حديد وغيرهم.

أقلام عربية

أما صحيفته «صوت العصافير» فكان يشاركه في كتابة مقالاتها ابن عمه حسن المدفع والعراقي حنظل صالح وعلي محمد الشرفاء الحمادي والكويتي عبدالله الصانع والشاعر البحريني عبدالرحمن المعاودة. ولأن هذه الصحيفة كانت زاخرة بهذه الأقلام العربية، التي كانت تنتقد سياسات الإنجليز في منطقة الخليج عموماً وفي الشارقة خصوصاً، فإنها أقضت مضاجع الإنجليز، الأمر الذي حدا بممثل دار الاعتماد البريطانية «جاسم الكظماوي» إلى إصدار نشرة صحفية موازية كانت تكتب أحياناً بخط اليد وأحياناً بالآلة الكاتبة للرد على مقالات «صوت العصافير».

وكعادة دولة الإمارات في تكريم وتخليد أبنائها البررة، فقد أطلق اسم إبراهيم محمد المدفع بعد وفاته عام 1985 عن 76 عاماً على الشارع الذي يقع فيه مبنى بلدية الشارقة. كما قامت الأخيرة عام 1966 بتأسيس «مجلس المدفع» الذي يعد اليوم من أهم المتاحف التراثية في الإمارات، وخصوصاً أنه روعي في تصميمه الطراز المعماري الخليجي التقليدي ذي الأبراج المعروفة في الإمارات بـ«البارجيل» والمعروفة في البحرين بـ«البادغير».

أوراق وصور

ويضم «مجلس المدفع» أو متحفه نحو 400 كتاب وجدت في بيته عند وفاته، وقلمه وأحباره التي كان يستخرجها من بطون الحبار ثم يحولها إلى اللون الأسود، وأوراقه، وصوره، ومقتنياته الشخصية كمفاتيحه وحافظة نقوده ومذياعه القديم، وصندوق «البشتخته» الخاص به. على أن أهم ما يتضمنه المتحف ـ من وجهة نظر كمال القبيسي في المقال المشار إليه سالفاً ـ هو رسالة وجهها رئيس لجنة إغاثة الأسطول العثماني في البصرة قبل 100 عام إلى الجد الأكبر لإبراهيم المدفع وبدأها بعبارة إلى جناب الأجل الأكرم عمدة شارجة عبدالرحمن المدفع.

إلى جانب اشتغاله في الصحافة، التي كانت همه الأكبر، عمل المدفع سكرتيراً ومستشاراً لأربعة من حكام الشارقة، فكان كاتباً خاصاً ومستشاراً للشيخ سلطان بن صقر القاسمي، ومن بعده لابنه الشيخ صقر بن سلطان، ومستشاراً للشيخ خالد بن محمد القاسمي، ومستشاراً لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، كما ترأس في 1940 دائرة حكومة الشارقة التي كان من مهامها الإشراف على الجمارك والمالية.

اهتمامات شعرية

وللمدفع اهتمامات شعرية تجلت في كتابته لعدد من القصائد لعل أهمها قصيدة يصف فيها مصيف بحمانا الجبلي في لبنان، وقد ألقاها في مناسبة الاحتفال السنوي الذي كانت بلدية بحمانا تقيمه لتكريم المصطافين العرب، وأخرى كتبها في عام 1927 يرصد فيها الحالة الاجتماعية لرجالات الخليج الذين كانوا يقيمون في "بمبي" من أجل التجارة، وثالثة يخاطب فيها لبنان ونضاله من أجل الاستقلال ويدعو شعبه الى الاتحاد والنهضة وعدم التفرق.


وقد أخترتُ لكم من القصيدة الأولى الأبيات التالية:


لبنان قد سلبت عقلي برونقها        وما علمت نظير الخلد لبنانا
يا حسن ما قد رأينا من معالمها       قد شفى طقسها صما وعميانا
طورا بعاليه نقضي وقت نزهتنا       والنفس تلمح آفاقا وشطآنا
وتارة في حقول الأرز مرتعنا     نسرح العين في روض قد ازدانا

 

واخترتُ لكم من القصيدة الثانية ما يلي:


بمبي يا مرتع الغزلان من قدم       وملتقى كل محبوب ونشوان
بمبي يا من لها في القلب منتجع     وذكريات بها التاريخ ملآن
بمبي يا من غدا للناس مجتمعا       يؤمها كل ملهوف وعطشان
بمبي حسبك هل لي أن أرى أحدا    فمن لهم ها هنا صيت وعنوان
مررت في "كي واري" هائما قلقا     وكنت أسأل عن ربع وخلان
هذي منازلهم أيام عزلتهـــم      بها قضوا وطرا فيها لهم شان
كانت مجالسهم بالأمس عامرة       من نخبة القوم أصحاب وإخوان
فمن دبي كذا البحرين مع قطر       كذلك شارقة أيضا وعجمان
كذا الكويت وبوظبي كذا عـدن      ورأس الخيمة أيضا بل وجيران
كذلك أم الغواني والحسا وكذا        من مسقط وعــُمان بل وفرسان

ويقول في قصيدة أخرى:

حي هذي الربى وحي المغاني     خالدات وحي تلك المباني
إن لي في ربوعها ذكريات         من قديم وقد طواها الزمان
كلما مرّ ذكرها في فؤادي          عاودتني الهموم والأشجان
أين صحب بهم قد أنسنا            يشرحون الصدور في كل آن
حصدتهم نوائب الدهر حصدا     وسقتهم كأس المنون القاني

مكانة مرموقة

انتقلت أسرة المدفع، وهي من قبيلة الحرث في بلدة مضيرب، من عُمان منذ القرن الـ18 ونزلت أولاً في بلدة ريام، ثم انتقلت عام 1690 إلى الشارقة لتستقر فيها، فصار أبناؤها من أشهر تجار الإمارة وحققوا مكانة اجتماعية مرموقة، وصار لهم نشاط كبير في تجارة اللؤلؤ وامتلاك السفن الشراعية الضخمة من نوع البغلة التي كانت تجلب التمور من البصرة، والأرز والبهارات والعطور من الهند وإفريقيا، وتنقل المسافرين إلى الهند للاتجار باللؤلؤ. علما بأن البغلة سفينة ذات مؤخرة مربعة وتزينها النقوش المحفورة، واستمدت شكلها واسمها من البرتغاليين الذين وصلوا إلى الخليج في القرن السادس عشر طبقاً لما ذكره الرحالة الأسترالي ألن فالترز في كتابه أبناء سندباد الصادر عام 1982 عن وزارة الإعلام الكويتية.

وعن أسباب هجرة آل المدفع من عُمان إلى الشارقة يقول الدكتور عبدالله الطابور في كتابه سالف الذكر (صفحة 21): هناك بعض العوامل التي أدت إلى هجرتهم من (فلج آل مدفع) إلى الشارقة، ومن أهمها العامل الاقتصادي، فقد هاجرت بعض العائلات من عُمان في أوائل القرن الـ18. فجاءت إلى مدن الساحل التي اشـــتهرت في ذلك الوقت بتجارة اللؤلؤ والأسفار.

ومما يُذكر أن المدفع تردد على مجلس ابن عمه في بومبي حيث التقى الكثير من رموز الفكر والثقافة العربية وخالطهم، الأمر الذي انعكس إيجاباً على فكره ورؤاه وحصيلته الثقافية، بل تسبب في عشقه لمدينة بومبي والهند.

 

أسرة المدفع

من أبناء أسرة المدفع المشهورين حسن بن عبدالله المدفع وهو من كبار تجار الشارقة ومؤسس المنتدى الإسلامي فيها (1923-1924)، وآمنة المدفع، صاحبة أول المجالس الأدبية الثقافية النسائية بالإمارة في بداية القرن العشرين، ومحمد عبدالله والد إبراهيم المدفع وهو أول من فكر في جمع تاريخ ساحل عُمان ووقائعه وَسَافَر مِن أَجْل ذَلِك واستدعى ذوي الخبرة لجمع المعلومات، على أنّ أكثرهم شهرة هو عبدالرحمن بن حسن المدفع الذي أقام في بومبي 40 عاماً وظل هناك ومات ودفن فيها، وكان بيته في بومبي مفتوحاً لأبناء العروبة ومجلسه ملتقى أدبياً لأهالي الخليج العربي واليمن. علماً بأن عبدالرحمن المدفع كانت له جولات في بلاد الشام ومصر وتركيا وفرنسا، كما ذهب إلى بريطانيا قبل أن يستقر في بومبي التي فضلها على سائر المدن.

صفحة مُتخصّصة بالتأريخ الاجتماعي لمنطقة الخليج العربي