بحديث لا يخلو من الحنين والإعجاب، تحدث صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عن والده، المغفور له، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، واصفاً إياه بأنه معلمه الأول. بذلك استهل سموه قصة «علمني والدي عندما كنت صغيراً»، التي تحمل الرقم 4 في كتاب سموه «قصتي.. 50 قصة في خمسين عاماً».
والتي سُردت في 5 دقائق، لتشكل مضمون الحلقة 23 من البرنامج الوثائقي الدرامي «قصتي»، المستلهم من كتاب صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي تولى إنتاجه المكتب التنفيذي لسموه، ويعرض على شاشات تلفزيون دبي ومنصاته المتعددة.
ويصف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد والده، فيقول: «راشد بن سعيد معلمي الأول.. كان فارع الطول، ترتسم التجاعيد على ملامحه لكثرة التبسم، أما الخطوط المحيطة بعينيه، فأضفت هيبة وجدية على وجهه، كان صوته هادئاً ودافئاً وقريباً من النفس، وعلى الرغم من ذلك، كان الصمت يخيم على الجميع، عندما يبدأ الكلام».
واتضحت في ثنايا الحلقة، خصوصية ودفء العلاقة بين سموه ووالده، المغفور له، الشيخ راشد بن سعيد، وتأثيره الكبير في معارفه، وتكوين ملامح شخصيته منذ الطفولة.
ذاكرة
وراء السنين، ومن عمق ما حفظته الذاكرة.. يستعيد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذكريات، فيقول: «من اللحظات الأولى التي لا أنساها معه، عندما كان يردفني معه على خيله، كنت في الثالثة من عمري تقريباً، يردفني معه على خيله في جولاته الصباحية. أبي والخيل ودبي، هي ذكرياتي الأولى عن طفولتي، أبي والخيل ودبي، هي ذاكرتي التي ستبقى معي حتى النهاية.
الخيل تجمع العزة والأنفة والرقة والقوة في نفس الوقت، وكذلك أبي، وكذلك دبي. أرسلني للمدرسة لتعلم القراءة والكتابة واللغة والعلوم، وأخذني معه في مجالسه وجولاته ورحلاته، لأتعلم الحياة».
ويتابع سموه: «ما بين الرابعة والثامنة من عمري، علمني أبي الكثير عن الصحراء، وكيف يمكن أن تعيش حياة كاملة فيها، رغم ما يظهر عليها من قسوة المظهر، وقلة الموارد، واتساع قد يخيف الكثير من الناس، ما بين الرابعة والثامنة من عمري، علمني والدي كيفية تعقب الأثر، أو قراءة الرمال، كما لو أنك تتصفح كتاباً. كان يريني آثار الإبل، ويقول: كل بدوي يمكنه تمييز إبله من آثار أقدامها، ولو كان عددها بالمئات!».
واستطرد سموه في سرد بعض مما تعلمه من معلمه الأول: «عرفني عندما كنت صغيراً، على آثار الغزلان والحبارى وطيور الكروان والعقارب والأفاعي والذئاب والثعالب، وكل حيوان يسكن الصحراء، كان يقول: لا يمكن أن تفهم حيواناً، دون فهم البيئة التي يعيش فيها بالكامل، وموقعه فيها، وكذلك الإنسان، قد تجعله البيئة التي يعيش فيها ملاكاً، أو شيطاناً. لا بد أن تعرف البيئة التي نشأ فيها».
وأضاف: «كنا نقضي الليالي في الصحراء. كنا نشعل النار في المساء. وخلال الليل، كان يصحبني لمشاهدة ما يدور حولنا، هناك عالم تدب فيه الحياة ونحن نيام».
سحر الصحراء
قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد: «علمني والدي، عندما كنت صغيراً، رد فعل الحيوانات عندما ترانا، أو ترى بعضها بعضاً، على سبيل المثال، تطير الحبارى باتجاه أشعة الشمس، لتُعمي الصياد، أما الأرنب، فيبحث عن مخبأ، بينما يستغل الغزال المساحة المفتوحة لرؤية مهاجمه، أما قيام الحيوان بالقفز رافعاً قدميه الأماميتين بعد العدو، فينبئ بحركة افتراسية، كأنه بمثابة تحذير».
ووصف سموه، كيف يمكن الاستفادة من هذه المعلومات: «لا بد من تكتيك وخطة للحصول على الطعام في الصحراء. كان والدي يقول، عندما تمضي الليلة وأنت جائع، ستتعلم دروسك بتركيز أكبر في صباح اليوم التالي». وأوضح: «تعلمت من والدي الرماية، وإفراغ البندقية وتنظيفها، قبل الثامنة من عمري، تعلمت منه أن ترك السلاح من دون مرافق، جريمة كبرى، لأنه قد يقع بين يدي شخص آخر، ويودي بحياته. كنا نذهب إلى الصيد، ومعنا أدوات صغيرة فقط، ونصطاد معظم ما نحتاجه من طعام».
وبيّن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد: «اهتم والدي كثيراً بقدرتي على الملاحظة، وكان يختبرني مرات عدة، إلى درجة أنني اعتدت الاستيقاظ من النوم، لأتبين موقعي، وأجيبه في حال سألني عن ذلك.
وأثناء وجودنا في السيارة، كان يطلب مني وصف التضاريس، ثم يستمع إلي، ويصحح ما أقوله، مقدماً معلومات أكثر دقة. وأثناء حديثه مع أصدقائه، أو اجتياز السيارة الطريق الوعرة ليلاً، كان يلتفت وينظر إلي بحزم، ليسألني في أي اتجاه نسير، شمالاً أم جنوباً، شرقاً أم غرباً».
وأضاف سموه: «اهتم والدي بتعريفي على تضاريس الأرض وعلاماتها، بالإضافة إلى علامات السماء، النجوم. النجوم هي بوصلة الصحراء، وفي الليالي الغائمة، نستعين بالرياح وجهة شروق الشمس. كان يقول: الضياع في الصحراء أمر سهل جداً، ويعتمد الفريق دائماً على القائد ليحدد الطريق».
وكشف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، صدى المعلومات التي كان يتلقاها، بقوله: «كانت هذه الغريزة، تتأصل في داخلي كل يوم، لتغدو عملية طبيعية وتلقائية.
وقد تعلمت أن علي البحث عن آثار أقدام الجمال، أو حتى عن مخلفاتها في حال الضياع، من المدهش أن خطى الحيوانات خلال سيرها في الصحراء، أكثر ثباتاً من خطانا نحن البشر. أحياناً اتباع خطى حيوان، قد ينقذ حياتك وحياة من معك، الغرور والتكبر، لا يصلح لمن يعيش في الصحراء».
واختتم سموه القصة بقوله: «قبل الثامنة علمني، والدي كيف أعيش في الصحراء، مع هوامها ودوابها، مع ذئابها وغزلانها، وحرها وتقلباتها، بعد الثامنة، علمني والدي كيف أعيش في المدينة مع البشر. ما أقسى البشر، وما أجمل الصحراء».