هي قسوة الحرب والهجرة والظلم والتشتّت والقمع والبعد القسري عن الوطن التي ذاق طعم مرارتها المخرج العراقي الطليعي جواد الأسدي، ولا يمكنّ ينقلها الى خشبة مسرحه في معظم أعماله المستقاة من الواقع العراقي الجريح. هي الصراعات والتوتّر والعنف التي يراهن عليها هذا الرجل الذي لا يتعب من مقاومة الجهل والظلم والطغيان والديكتاتورية عبر أعماله الفنية وصرحه الذي أراده أن يكون منبراً للحرية والإبداع في شارع الثقافة العريق شارع الحمرا في بيروت. هي القهر الذي يحبكه برهافة وقوّة ليُعبّر عنه من خلال ثلاث شخصيات في مسرحية «نساء في الحرب» التي تعرض حالياً على مسرح بابل.
وقد اختار الأسدي العنصر النسائي الذي يعتبره النقطة الأضعف في الحرب وأكثر من يقع عليه الظلم، سواء من قبل المؤسسة أو المجتمع الذكوري. وكعادته بارع الأسدي باختيار أبطال أعماله بعناية والعمل معهم باحترافية عالية لتجسيد الشخصية التي تدور في رأسه على أكمل وجه. فقد اختار ثلاث من أبرع الممثلات العربيات ليُجسّدن أدوار هذه المسرحية. وهنّ ميراي معلوف اللبنانية المولودة في باريس عام 1968 والتي تعتبر من رواد المسرح العربي والعالمي، كونها عملت مع مخرجين لبنانيين وعالميين مثل بيتر بروك وشريف خزنادار، ولامبرت ويلسون، ومارون بغدادي، ومنير أبو دبس، وكونها حازت جوائز وشهادات تقدير وتكريم عالمية.
تلعب ميراي دور أمينة الممثلة العراقية المثقفة المتحدثة بالانكليزية والفرنسية والعربية، والتي ذاع صيتها في بغداد قبل أن يحتلّ بلدها الأميركيون وتضطرّ الى الهجرة بشكل غير شرعي الى ألمانيا. هذه الممثلة التي تكاد تشعر وأنت تسمعها كأنك لست في مسرح وأنها ليست ممثلة، كأنها فعلاً امرأة عراقية تنقلك الى ملجئها في برلين. ميراي معلوف ممثلة قديرة بديعة تُشعرك أنك أمام امرأة معذبة مقموعة ضائعة بين المكان واللامكان. فحين جاء دورها لتسرد كيف وصلت الى ألمانيا عبر أكثر من بلد بجوتز سفر مزوّر، وكيف اضطرت وعائلات وأطفال ونساء الى الانبطاح بين المواشي وبقاياهم في إحدى الشاحنات لعبور الحدود، تكاد تبكي. بل تبكي وتنهمر دموعك.
تشعر كأنك هناك تشمّ رائحة زبل البقر والماعز. تشعر بالإهانة لأنك إنسان وهذه التي قبالتك إنسانة، اضطرت الى المشي بعد ذلك في غابات تكسوها الثلوج والحرارة فيها 30 تحت الصفر. تشعرُ بالبرد. تُغلق معطفك بحركة عفوية. فالمرأة تصف القهر الذي تعرّضت له في هذه الرحلة السوداء القاسية وعشرات غيرها من الأطفال والنساء، بدقة وبصوت ونبرة حزينين وبكلمات تكاد تكون أقرب الى الشعر لمتانة صدقها وحساسيتها.
روائع ندي حمصي
والممثلة الثانية فهي السورية ندى حمصي المقيمة في كندا، والتي تعتبر من رواد المسرح الطليعي والتجريبي في الوطن العربي، وشاركت في أعمال مسرحية وسينمائية عربية وعالمية مثل «الطفل الذي لم يولد بعد» لديانا مانولة في كندا، وفيلم «الليل» للمخرج السوري محمد ملص، ومن آخر أعمالها مسرحية «آخر خمس عشرة دقيقة» من إخراج مجدي أبو مطر. وحازت ندى حمصي جوائز عدة منها جائزة أفضل ممثلة من مهرجان قرطاج عن مسرحية لجواد الأسدي بعنوان (العائلة توت)، ومن مهرجان المسرح غير الناطق في كالكوتا في الهند، ومهرجان تويام المسرحي في اليابان.
وتجسّد ندى حمصي هنا دور مريم الآتية من الحلّة والتي دخلت القوات الأميركية الى منزلها وأحرقته وجرّدتها من ملابسها، فلم يحتمل أبوها المشهد القاسي لابنته فسقط ميتاً أمام عينيها. مريم المرأة المحجبة والمؤمنة، تبدو كأنها تلعب لعبة الأنا والقرين، تُظهر ما لا تضمر وتضمر ما لا تظهر.
حتى في صلاتها بصوت عال وتوتّر يظهر على جسدها، تبدو مريم كأنها تصلي من خلف القناع. وعندما يصلها رسالة وهي قابعة في ملجئ تنتظر منحها الإقامة في ألمانيا، تفيد بمقتل أخيها في بغداد على يد الجنود الأميركيين، تثور على نفسها وعلى ماضيها وتخلع الحجاب كما لو أنه قناع. لقد بهرت ندى حمصي بهذا التوتّر الجبار المتغلغل في أدائها الرائع، الجمهور. بل يمكننا القول أنها استطاعت أن تنقل هذا التوتر والصراع الداخلي الذي تعيشه الى المشاهد، لبراعتها في التمثيل الأقرب الى الحقيقة.
ريحانة الرقص والرفاهية
أما الممثلة الثالثة فهي اللبنانية الشابة ريتا دكاش التي شاركت في العديد من الأعمال المسرحية السينمائية والتلفزيونية اللبنانية مثل فيلم «شبح بيروت» لغسان سلهب، ومسرحية «ملوك الطوائف» لمروان الرحباني، ومسلسل «قصتي قصة» لإيلي أداباشي. تلعب ريتا دكاش دور صبية تدعى ريحانة تحب الحياة والرقص والرفاهية، أتت أيضاً بطريقة غير شرعية الى ألمانيا بعد مشوار من العذابات، لكنها على عكس مريم تؤكد جهاراً إعجابها بالأميركيين وخصوصاً ممثلي هوليوود مثل ريتشارد غير.
ريحانة تلعب على ذاتها محاولة إقناع نفسها أنها سعيدة في بلاد العمّ هتلر. لكن سرعان ما تعود الى مشاهد الخوف والرعب عندما ترفع عليها مريم التي تسكن معها ومع السيدة أمينة في ملجئ واحد، السكين لتقتلها على خلفية شجار بينهما تطوّر الى أن تُعيّر ريحانة مريم بأنها تعاشر رجلاً بوسناياً في الحديقة.
المشهد يتحوّل سريالياً لكنه إنسانياً بامتياز، إذ تختبيء ريحانة جاهشة في البكاء في حضن أمينة الأكبر سناً بينهنّ، فيحنّ قلب مريم عليها وتستكين تستعيد إنسانيتها. فهي لم تكن قادرة أًلاً على القتل، فهي ضحية مثل رفيقاتها في الهمّ واللجوء. والضحيات الثلاث عاجزات عن فعل أي شيء حتى عن أداء دور الظالم الذي هربوا منه من بلادهم. الظالم هنا ليس فقط نظام صدام حسين الديكتاتوري، ولا الاحتلال الأميركي، بل الظروف غير الانسانية التي يعشنها في ألمانيا حيث يخضعن لتحقيقات قاسية وينتظرن شهوراً من دون أن يعرفن مصيرهن بعدما دفعن آلاف الدولارات للوصول الى برلين.
في النهاية، ترفض السلطات منح اللجوء للنساء الثلاث، وهي اللحظة التي كانت النسوة تخشاها وتؤجل التفكير فيها. لكن الانهيار كان قدرهن، وتسعى السيدة أمينة الى إحياء طقس انهيارها على طاولة غُطيت مع أجزاء أخرى من الديكور بالقماش الأبيض، كان دليلاً على جوّ الموت ونهاية النسوة اللواتي أملنا أن يكون لهنّ ولو بيتاً في بلاد الغربة رغم قسوتها، هرباً من الظلم الاجتماعي والعسكري والاحتلال.
روح المسرح الملتزم
في هذه المسرحية أعاد جواد الأسدي إلينا روح المسرح الملتزم بالقضايا الانسانية وإن كان العمل ينتمي الى الواقع المأسوي الذي نهرب منه في حياتنا اليومية. وكما في غالبية أعماله، يستفزّ الأسدي ممثلاته لاستدعاء أقصى ما لديهن من حواسّ أدائية. الأجساد متوثّبة، والحوارات منطوقة بنبرات جارحة، بينما تتكفّل السيَر الشخصية للنساء الثلاث توفير مناخات القلق والتوجس والانتظار. وكعادته يراهن على الصراعات المتعدّدة ليوفر للعرض إيقاعاً متوتراً تتمحور حوله لعبة الإخراج والتمثيل، ليلتقط نفس المشاهد من المشهد الأول الى المشهد الأخير.