بقاء نتانياهو.. هبوط «اليسار» وصعود «اليمين»

نتانياهو عزز تحالفه مع الأوساط اليمينية | أرشيفية
نتانياهو عزز تحالفه مع الأوساط اليمينية | أرشيفية

يتساءل كثير من المراقبين والمحللين حول أسباب بقاء بنيامين نتانياهو على رأس تحالف هو الأكثر يمينية وتطرفاً في إسرائيل لمدة طويلة وغير مسبوقة في إسرائيل، على النحو الذي يبدو معه عصياً على الإزاحة، رغم الاحتجاجات الواسعة ضد «التعديلات القضائية»، أو المتعلقة بتجنيد المتدينين «الحريديم»، أو المطالبة بصفقة تُخرج الأسرى المحتجزين في قطاع غزة.

ينبغي عدم التعاطي مع هذا المشهد باعتباره قوة شخصانية لنتانياهو، بل وضعه في سياق تحوّلات تراكمية في بنية المجتمع الإسرائيلي عبر عقود متتالية، منذ اعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل سنة 1948، إلى حين وصول مستوطنين من أقصى التطرف إلى مواقع وزارية صاحبة قرار.

إذا عدنا للوراء بضعة عقود، نجد أن إسرائيل أنشأها «حزب العمل» الذي صنّف دولياً كـ «يسار»، وكان عضواً في الاشتراكية الدولية، ولم يكن الطابع الديني حينها طاغياً، لا سيما إذا تذكرنا أن مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هيرتزل كان ملحداً.

تظهير الصورة

في فترة ما بعد التأسيس، كان القادة المؤسسون حريصين على تبخير مشاهد النكبة وإظهار إسرائيل بحلّة أوروبية، وكانت تشكل لجان تحقيق في الكثير من الأحداث الكبيرة مثل مجزرة صبرا وشاتيلا، أو في حوادث القتل الأقل زخماً.

وكان ظهور بعض الأحزاب التي تحمل مسميات السلام والمساواة جزءاً من أدوات تظهير الصورة. ورغم وصول حزب الليكود المصنّف «يمينياً» للحكم للمرة الأولى سنة 1977، إلا أن سياسة تظهير إسرائيل كجزء من المجتمع الدولي، استمرت على قاعدة الاندماج.

لكن، وخلال كل مقاطع هذه المشهدية، كانت تحولات غير مرئية على نحو واضح، تتفاعل داخل التجمع الإسرائيلي. ففي مناسبة مرور 40 عاماً على النكبة، كتب المفكر الفلسطيني د.جورج حبش من جملة قراءة معمقة، تشخيصاً يقول إن المجتمع الإسرائيلي «يتحول من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى يمين اليمين».

في ذلك الوقت، لم تكن تلك الصورة بذات الوضوح التي نراها عليها اليوم، لكنها كانت بداية ذلك التحوّل، حتى وصل هذا المجتمع إلى الوضع الذي يجعل من نتانياهو يحظى بالدعم المسبق في كل ما يفعل. منذ بدء حرب غزة، سادت ظواهر تطرف ودعوات لفعل أي شيء ضد الفلسطينيين.

هذا يفسره بعض المحللين الإسرائيليين بالحديث عن مزيج من الغضب والخوف، ورغبة في إعادة إرساء الأمن بأي ثمن، في ظل انعدام الثقة التام في الحلول السياسية والمفاوضات.

لذلك نلاحظ افتقار المجتمع الإسرائيلي لأي شعور بالتعاطف مع سكان غزة المدنيين، وينعكس ذلك في التغطية التلفزيونية، حيث يمر، مع مظاهر الابتهاج، الكثير من الفيديوهات التي ينشرها جنود لتفجير بنايات ومربعات سكنية، وهم يهدون ما فعلوه لأبنائهم وبناتهم بمناسبة ذكرى ميلادهم.

لقد كانت أحداث أقل كثيراً مما يجري في غزة ولبنان تستوجب تشكيل حركات مناهضة (الأمهات الأربع مثلاً)، كما تستوجب ردود فعل في الشارع مثلما حصل بعد مجزرة صبرا وشاتيلا سنة 1982، حيث خرج مئات الآلاف من الإسرائيليين للاحتجاج، فضلاً عن تشكيل لجنة تحقيق أطاحت رئيس الوزراء مناحيم بيغين ووزير الحرب أرئيل شارون.

تنحية السياسة

المحلل الإسرائيلي أميت سيغال يرى أن نتانياهو نجح في العقد الماضي في تغيير الاختلافات التاريخية بين «اليمين» و«اليسار»، بحيث تتنحى جانباً السياسات الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن التعليم أو الضرائب، وهي القضايا التي كان لها وزن أكبر في الماضي. لذلك يعتبر سيغال أنه إذا ركزت الانتخابات المقبلة في إسرائيل على التوترات مع غزة أو لبنان أو إيران، فسيكون لنتانياهو أفضلية على خصومه الذين لم يعرفوا كيف يأخذون النقاش «إلى القضايا الداخلية أو الاقتصادية».

ويخلص إلى أن «الديمقراطية الاجتماعية التي جسدها حزب العمل فقدت وزنها، وباتت الخلافات الأيديولوجية التي تميز اليمين والوسط واليسار ثانوية».

لذلك وفي سياق هذا المنحنى ليس غريباً أن نرى أن «حزب العمل»، المؤسس ومطلق مشروع الاستيطان وجالب مفاعل ديمونا النووي من فرنسا، حصل في الانتخابات الأخيرة لـ «الكنيست» على ستة مقاعد من أصل 120 مقعداً.
وثمة عبارة تلخص المشهد كتبها المحلل يائيل توتشفيلد تقول: «في إسرائيل اليوم، كونك يسارياً يكاد يكون بمثابة إهانة».