في غزة زخات من الرصاص، وأخرى من الأمطار. المقاتلات الحربية تدفن أحلام الأطفال، وسيول الأمطار الجارفة تأخذ دورها في التخريب والدمار، كل حجر في غزة اكتسى باللون الأحمر القاني، ودماء الأبرياء غطت كل ركن، في الوقت الذي تتحدث فيه الأرقام الباردة عن 45 ألف فلسطيني قضوا بنيران الحرب.
القصف من أمامهم والبحر من ورائهم، ومن لم يمت بالصواريخ قضى بالبرد أو السيول، فغزة ما زالت تغرق من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها في نهر جارٍ من الدم، وغمرتها السيول لتزيد الطين بلّة.
ففيما تواصل الحرب الضروس جنونها قصفاً وتدميراً، وملاحقة للنازحين في خيامهم، تواصل غزة عدّ ضحاياها، ودفنهم دون وداع أو حتى أكفان، بعد أن انفجر كل هذا الألم، ليفرض على أهل غزة حسبة مختلفة، فتدخل السيول الجارفة هذه المرة على خط الدبابات وقذائفها، وسائر عائلة السلاح القاتل.
كل شيء في غزة تغير فجأة، حتى أمطار الخير، وأطفالها لم يفهموا ما الذي يحدث، يحضنون عمود البيت (الخيمة) في محاولة للاحتماء به، والتمسك بالحياة أمام الرياح العاتية والرعود الهادرة. أسئلة كبيرة على وجوه الأطفال، بعد أن قضت الطفلة عائشة القصاص، ابنة الـ7 سنوات من شدة البرد، الذي أخذ ينخر أجسادهم الغضة.
وثمة أطفال ونساء ومسنون من بين مئات المشردين، ما زالوا يدفعون ضريبة الحرب، يفترشون الأرض، «خيمتنا طارت، ومياه الأمطار طفحت علينا، استيقظنا مفزوعين من شدة الرياح وغزارة الأمطار، وهدير السيول.
كنا نتدثر بأغطية رثة، وأخيراً خرجنا إلى العراء، خشية الغرق»، قالت النازحة سلمى كيلاني من بلدة بيت لاهيا شمال غزة، مبينة أن اليوم الذي غرقت فيه خيمتها لم يكن عادياً، بحيث ظلت العائلة كلها في حالة ترقب وحذر شديدين، ما بين مراقبة الطائرات الحربية وحدة الأمطار.
أضافت لـ«البيان»: «في المنخفض الجوي الأول هذا الوسم كنا نقيم قرب شاطئ بحر غزة، وكدنا نغرق لولا لطف الله، حيث جرفنا ارتداد الموج، وبصعوبة بالغة تمكن بعض النازحين من تمزيق الخيام التي كانت تلفنا، وتمضي بنا إلى عمق البحر، فنجونا من موت محقق، واليوم نواجه البرد القارس، والأمطار الغزيرة بخيام بالية، وأغطية متهالكة».
وفي قطاع غزة لم ينقطع خيط الدم منذ 15 شهراً، ونزحت العائلات الغزية جماعات وفرادى، في معاناة لم يشهدها الفلسطينيون منذ نكبة العام 1948، لكن مع بدء المنخفضات الجوية الماطرة بدأت فصول معاناة أخرى تتربص بأهل غزة، فتدهورت أوضاعهم وتهاوت إلى أدنى مستوياتها.
يتساءل النازح يحيى الزويدي من بلدة بيت حانون: «من يحمي هؤلاء الأطفال ويقف معهم في هذه الظروف الصعبة؟ من يوفر لهم الدفء في هذه الأجواء العاصفة والباردة»؟
وتابع لـ«البيان» وقد تسمرت عيناه في السماء الملبدة بالغيوم المشبعة بالأمطار: «كانت جلساتنا في فصل الشتاء تعج بالحياة، وكنا نتذوق لمة العائلة والجيران والأصحاب، نعد ما لذ وطاب من الطعام والشراب، واليوم نستشعر هذه الأجواء ونفتقدها، ونعجز عن توفير رغيف الخبز لأطفالنا، أو كومة حطب لجلب الدفء».