ليس ثمة حاجز عسكري أو قاطع يفصل بين اتجاهين، هو محور أو مفترق يطلق عليه الفلسطينيون مثلث الموت، وفي لهجة مخففة يسمونه مثلث الرعب، بسبب تكرار حالات القتل برصاص الجيش الإسرائيلي خلال الحرب على غزة.
يعد حاجز نتساريم الفاصل بين شمال غزة وجنوبها أكثر موقع شهد حالات إعدام بحق أبناء غزة.
لدى الاقتراب من الحاجز، كان الغزي يمشي حاملاً كفنه، فأي حركة يقابلها إطلاق للنار من الجنود المتأهبين للقتل، ويكفي فقط أن تضع يدك في جيبك حتى تكون ضمن بنك الأهداف.
على هذا الحاجز تشهد حكايات كثيرة لأهل غزة، ولدى عبوره لأول مرة بعد الحرب، في طريق عودتهم إلى منازلهم، كانوا يستذكرون مشاهد القتل الرهيبة، ويتأملون الدمار، لكن هذه المرة بشيء من الثقة النسبية، بأن الحرب الكابوس توقفت، وغدا عبور الحاجز آمناً بعض الشيء.
لكن، هل انتهت المعاناة؟.. «قطعاً لا» يقول ناصر حماد، بينما كان في طريقه إلى زيارة أقاربة شمال غزة، الذين لم يلتق بهم منذ ما يزيد على 15 شهراً، مشيراً إلى مشقة التنقل عبر محور نتساريم، الذي سيظل شاهداً على جرائم قتل عشوائية، وفق قوله.
رحلة شاقة
يسير حماد بين الركام، وقد تفطرت قدماه، إذ قطع مسافة استغرقت نحو ثلاث ساعات، حاول خلالها الصعود إلى بعض الحافلات، لكن لا متسع، في ظل كثرة العائدين وندرة المركبات، مبيناً أن في المحور قاطعين، أحدهما للمركبات باتجاه واحد، وآخر للمشاة في الاتجاهين، ولا يخلُ الأمر من مخاطر استهداف بعض المركبات أو المارة، كما يقول.
«الدمار يعيق الحركة، لكننا نواصل البحث عن الحياة.. المنطقة منكوبة، ومجرد المرور منها يدب الرعب في القلوب، لكن الحياة بدها تمشي» قال زياد الأنصاري، وهو سائق مركبة علقت لبعض الوقت بين الركام، وزاد من صعوبة حركتها زيادة حمولتها من النسوة والأطفال وبعض الأمتعة، مشدداً على أنه ما زال يخشى مفاجآت هذا المحور.
يقول الأنصاري لـ«البيان»: «من يسلك طريق محور نتساريم، إما زائر لأقاربه، وإما باحث عن شيء مفقود، وكثيرون يترددون في قطع هذا المحور الرهيب، لما شهده خلال الحرب من إعدامات ميدانية، الحركة بدأت بالتراجع قليلاً، وأعمل على نقل العابرين وأمتعتهم دون مقابل، فالأوضاع صعبة على الجميع».
ويواصل: «العودة إلى الأهل والأقارب باتت ممزوجة بمشاعر الفرح والحزن، وحملت معي طفلاً بعمر 6 سنوات، لم يبق من عائلته سوى عمه، وفتاة تقطعت أطرافها، وفقدت كل أفراد عائلتها.. هذه القصص المؤلمة ستبقى محفورة في وجداننا، ونرويها للأجيال، عن أفظع حروب فلسطين».
ووسط الركام، ما زال الغزيون يبحثون عن العودة إلى شيء من الحياة المعتادة قبل الحرب، يدركون أن العيش في قطاع غزة يحتاج إلى جهود خارقة لإعادة إعماره، لكن إرادتهم تبدو أكبر من كل المشاريع والمخططات التي تستهدف قضيتهم، من خلال تهجيرهم، وما زالت أحاديثهم وهم يقطعون «محور الموت» في نتساريم، تلخص حكايات الضحايا ومشاهد الدمار والنزوح والتهجير وغرق الخيام والمجاعة، لكنهم قادرون على التعايش مع هذه الظروف، حتى لو كان هذا فوق الركام، كما يقول الأنصاري، ومثله كثيرون.