كل المعطيات كانت تؤشر إلى أن غزة ستصطدم بالحائط المسدود الذي بلغته مفاوضات التهدئة، وأن أهلها ذاهبون إلى جحيم الحرب التي أخذت تتسع رقعتها جواً وبراً، لتبدو خارطة الحل تائهة وملتبسة، وفق ما عبّرت عنه خبايا مخططات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وبن غفير في مستهل عودة الأخير إلى الائتلاف الحاكم في إسرائيل.
الواقع السياسي بدا تحت تأثير مجريات الحرب، بما يوحي أن كل محاولات وقف تناسلها آخذة في الانهيار، فالجهود السياسية تمحوها تشظيات حربية عميقة وحسابات متشابكة.
ومن هنا غرقت غزة في أتون مواجهة مفتوحة، ترتسم على تخومها طلائع كارثة إنسانية، فسكان غزة ينهشهم الجوع والحصار، وتتربص بهم صواريخ الطائرات وقذائف الدبابات، وحتى مستشفياتها التي تشكل خط الدفاع الأول، خرجت عن لوحة السيطرة.
في خضم الهدنة، كانت غزة تحاول لملمة جراحها، وتشق رحلة البحث عن آلاف المفقودين الذين ما زالوا تحت ركام المنازل، لدفنهم ببقية من كرامة، لكن على حين غرة، استيقظت غزة على عودة هادرة لجريان شلال الدم، عندما باغتت المقاتلات الحربية الخيام والناس نيام.
عشرات الجثث التي مزقتها القذائف تكدست دون أن تجد من يودعها التراب، في ظل صعوبة التعرف عليها، وكم كان مؤلماً منظر الطفلة علا كيلاني وهي تمسك بيد شقيقها بينما كان يلفظ آخر أنفاسه، رافضة الاستسلام لرحيله عنها، وغير مصدقة أنه لن يرافقها بعد اليوم في عناء البحث عن قطرة ماء أو فتات للإفطار.
وفي بيت لاهيا قاسم أبو حالوب يهرول بين الدمار والأطفال الجرحى محاولاً إنقاذ حياتهم، لكن عبثاً، فمشافي غزة لم يبق منها سوى الاسم، فلا أسرة لاستقبال الجراح النازفة، ولا ثلاجات للضحايا، وفقط تُسمع في المكان صيحات الثكالى، وأنات الجرحى، بينما تسود حالة من الارتباك، قبل أن يدرك الجميع بأن نار الحرب هبّت، وسيكون من الصعب إخمادها.
مآسٍ
«استيقظنا فزعين على أصوات القذائف والانفجارات التي هزت غزة، وكانت المشاهد مروعة، والأهالي في حالة ذعر وخوف شديد، الجرحى يصرخون ويستنجدون طلباً للمساعدة.
لكن لا سيارات إسعاف ولا مشافي تعمل، ولا باليد حيلة.. هكذا لخص زايد أبو عجينة المشهد في بلدة بيت لاهيا شمال غزة، واصفاً مشاهد الأطفال المضرجين بدمائهم بأنها تثير الشفقة، ولن تمحى من ذاكرته.
ويروي أبو عجينة لـ«البيان»: «مما شاهدته، تعامل الأطباء مع الجرحى وفق الحالة ودرجة الخطورة، بحيث كانت الأولوية لمن يحتاجون لإنقاذ حياتهم، وتأجيل المصابين بجروح أقل خطورة لبعض الوقت، وغالبية الجرحى تمت معالجتهم على الأرض، ودون تخدير».
وفوجئ الأطباء والممرضون في قطاع غزة بالأعداد الهائلة من الجرحى الذين تدفقوا على أشباه المستشفيات، ما أوقعهم في حالة من الارتباك، لكن على الرغم من ذلك، بذلوا كل ما بوسعهم من أجل إنقاذ حياتهم.
كارثة
في غزة، يشتد ضغط الكارثة الإنسانية، فيشد أهلها الأحزمة في مواجهة الحصار المتدحرج بقوة نحو المجاعة، وسط أعصاب مشدودة نحو مسار الدبلوماسية التي بدت مكبلة، وهي تحاول تدارك الآتي الأسوأ.
بينما نتنياهو وكبار مساعديه لا لغة لهم إلا الحديد والنار فيفرضون حصاراً على الحصار القائم أصلاً، ويواصلون حرباً ليست كالحرب، فالمدافع تدك أرض غزة العارية إلا من جوعى يحفرون في الصخر وينبشون الأرض ليجدوا ما يفطرون عليه، في صورة لا تقترب إلا من مجهول، ولا تشبه إلا دورة مآسٍ جديدة.