بالكاد كان الفجر قد تنفس، عندما تصاعدت ألسنة اللهب في سماء مدرسة دار الأرقم شرق مدينة غزة، بفعل الصواريخ التي أطلقتها الطائرات الإسرائيلية، وتسببت في احتراق العشرات من الأطفال، الذين كانوا يروحون عن أنفسهم في ساحة المدرسة، في بقية من عيد، كانوا يبحثون عنها وسط أهوال الركام، ليسقط على إثرها المزيد من الضحايا.
في أتون النار الحارقة، المخضبة بدماء الأبرياء، والتي راحت تلتهم أنقاض غزة وبيوتها المحطمة، ثمة جريمة حرب ارتكبت بشكل واضح وصريح بحق الغزيين الضعفاء، فغزة بدت كقطع الليل المظلم لفرط سوادها بفعل سحب الدخان والدمار، وهي في عين إسرائيل كقطعة حطب ينبغي حرقها لتحقيق أهدافها، وفي عيون أهلها نصب تذكاري للدماء والنزوح والتهجير.
في قطاع غزة، تؤكد الحرب الشعواء على الفلسطينيين أطفالاً وشباباً وكهولاً أن إسرائيل لا ترى أهل غزة بشراً، وإنما مشروع الإبادة، هكذا يقول الغزيون، وهكذا أيضاً يقول المراقبون، ووفق هؤلاء فلن يجدي نفعاً الحديث عن اتصالات سياسية دون وقف شلال الدم والعودة إلى لب الصراع.
ويقول الباحث والمحلل السياسي رائد عبدالله: «إن الجهود السياسية التي تبذلها الأطراف المعنية، يجب أن تعالج جذور القضايا وليس عوارضها، فكل الأجندات والأهداف لا تعدل لحظة طمأنينة، يقضيها طفل في حضن أمه، وفق قوله».
وأضاف عبدالله في تصريحات لـ«البيان»: «ما جدوى الحديث عن اتصالات سياسية، ما لم تسهم في وقف المجازر المرتكبة بحق المدنيين العزل، ومحاسبة إسرائيل الدولة الخارجة عن القانون، والتي تحرق أجساد الأطفال بالقنابل الفتاكة»؟
مشاهد رعب
في شوارع غزة أصبح الموت أمنية فهو أخف وطأة من كل هذه المجازر الوحشية، كما يقول خالد أبو صالح، مضيفاً: «أصبحت أرغب بمواجهة الموت، بعد أن كنت أشعر بنشوة الفرح في كل مرة أنجو فيها من القصف.. لا رغبة لي بالإخلاء والنزوح ورحلة عذاب جديدة هرباً من الموت، وأحرص على البقاء مع أطفالي كي نقضي معاً، فأنا لا أقوى على مشاهدتهم يحترقون أمامي».
هذا ما يصبو إليه أبو صالح بالفعل، فالموت أرحم كما يقول، لكنه يستدرك موضحاً: «ما يحدث في قطاع غزة أمر مرعب، فقتل الأطفال وحرق أجسادهم الغضة في ساعات لعبهم، يعد جريمة حرب مروعة ضد الإنسانية، الجيش الإسرائيلي يستخدم أسلحة محرمة دولياً في قصف خيام متهالكة، وبعض القنابل تؤدي إلى تفحم أجساد الضحايا وتبخرها، ولا يسمح لفرق الإنقاذ بالوصول إلى الأماكن التي يستهدفها القصف». ويروي مواطنون، أن بعض الضحايا عثر عليهم مكبلين، وقد اخترق الرصاص رؤوسهم، ما يؤشر على إعدامهم بعد اعتقالهم والتحقيق معهم، كما جرى مع عناصر الفريق الطبي لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني.
سقوط قناع
وما زالت المعلومات الواردة من قطاع غزة تؤكد وجود عشرات الضحايا الذين قضوا بعد قصف منازلهم، دون أن يتم انتشالهم، بينما يستمر الجيش الإسرائيلي في إصدار أوامر الإخلاء والنزوح، ويتزامن هذا مع استمرار استهداف الأهالي خلال تنقلهم، أو حتى في أماكن تجمعهم مثل تكايا الطعام ومراكز توزيع المساعدات وغيرها، ما يوقع ضحايا بالجملة في صفوفهم.
في قطاع غزة، أصبحت المجازر بعدد الضحايا والجرحى والمهجرين والمنازل والمدارس والمستشفيات المدمرة، وربما استطاعت إسرائيل تغليف صواريخها وقذائفها بخطاب تقبله العالم برهة أو ابتلعه، لكن ليس بعد هذه المجازر، التي سحبت الشرعية من تحت أقدامها، وجردتها من قناعها، كما يقول مراقبون.