كأن مشاهد القتل والنزوح والتدمير أصبحت خلف الجميع في قطاع غزة، ووحدها المجاعة وسبل مواجهتها غدت الشغل الشاغل للأهالي، فمع مرور الوقت واستمرار إغلاق المعابر، ومنع وصول المساعدات الإغاثية، ونفاد ما تبقى من المواد الغذائية من الأسواق، تعمقت المجاعة بشكل أكبر من ذي قبل، وازداد الوضع سوءاً.
في قطاع غزة، ما زال أطفال محمود كريمي ينتظرون من يأتيهم بالطعام، بعد أن قضى والدهم بقذيفة عاجلته بينما كان ينتظر في طابور أمام أحد تكايا الطعام في مواصي خان يونس، للحصول على وجبة لأبنائه، إذ منذ لحظتها لم يتناولوا طعاماً قط.. رحل الأب وتوقفت التكية.
توقفت كل مظاهر الحياة في قطاع غزة، ولم يعد بمقدور السكان الجوعى فعل شيء، سوى التقلب على الأرض، لكن في غضون ذلك بإمكان إسرائيل مواصلة حرب الإبادة والتجويع، ومحو ما بقي من قطاع غزة، ومرة أخرى يضطر الأهالي، الذين أفلتوا من القصف والقذائف الملتهبة، للأكل من خشاش الأرض في خضم صراع مرير من أجل البقاء.
ولم تعد مشاهد القصف جديدة على أهل غزة، بعد عام ونصف العام على الحرب، وما تفرع عنها من قتل ودمار ونزوح وتشريد، لكن كل هذا وسواه لا يساوي المجاعة، كما يقول غزيون باتوا يتضورون جوعاً، ولا شيء يشغلهم سوى البحث عن الطعام، بعد أن توقفت التكايا عن تقديم الطعام المجاني، وأقفلت المخابز أبوابها.
لا يزال عبد العال أبو ماضي، ومنذ نزوحه من رفح للنجاة من جحيم القصف، يبحث عن طعام لعائلته، التي تركت ما تبقى بحوزتها من دقيق ومعلبات، وأفلتت بالكاد من الموت، لكنها فوجئت بالموت يلاحقها جوعاً، فلا مال للشراء، ولا سلع في الأسواق.
يروي أبو ماضي لـ«البيان» وقد هدّه التعب: «خرجنا بلا شيء، وبحثت طويلاً عن الطعام دون جدوى، وتوجهت أخيراً إلى مراكز وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا»، لكنهم أخبروني بتوقف توزيع المساعدات الإنسانية، بسبب استمرار إغلاق المعابر.. المجاعة أخذت تتعمق في قطاع غزة، ولا أعرف كيف سأتدبر أمور أطفالي قبل أن يدركهم الموت».
ويعاني النازحون الجدد الذين خرجوا من رفح تحت القصف العنيف والغارات الهستيرية، حالة غير مسبوقة من الجوع، وباتوا أمام كارثة حقيقية يقفون على حافتها، بعضهم عاش المجاعة الأولى، لكن الحالية تبدو أشد، كما يقولون.
وربما هذا ما نبه إليه المفوض العام لـ«الأونروا»، فيليب لازاريني، بأن إغلاق المعابر ومنع الغذاء عن قطاع غزة بات يهدد نحو مليوني فلسطيني بمواجهة المجاعة المميتة، منوهاً بأن 25 مخبزاً يدعمها برنامج الغذاء العالمي توقفت عن العمل نتيجة نقص الدقيق والوقود.
والأمر ذاته تفاخر به الوزير الإسرائيلي المتشدد، بتسلئيل سموتريتش، باستخدام التجويع سلاحاً ضد سكان قطاع غزة، وأنه لن يسمح بدخول المساعدات المتكدسة على المعابر، ولا حتى حبة قمح واحدة وفق قوله، فضلاً عن تدمير الحقول الزراعية والبساتين، التي يعتمد عليها سكان غزة في زراعة الخضراوات والبقوليات.
وحسب شهادات الأهالي، لم يكتف الجيش الإسرائيلي بالقتل والتدمير، وفرض الحصار المطبق، بل ذهب أبعد من ذلك بتدمير آخر السلال الغذائية والمناطق الزراعية في قطاع غزة، لا سيما تلك الواقعة في محيط محور موراغ بين رفح وخان يونس، بهدف تعميق المجاعة وتسريع وتيرتها.