يجد الغزيون أنفسهم في مهب رياح جبهات متعددة، ليس أولها الحرب الطاحنة التي كلفتهم الغالي، وطالت سائر أرجاء قطاع غزة، ولا آخرها مفاوضات ماراثونية تبدو بلا أفق، فكأنما مهمتها أن تشتري لإسرائيل الوقت فحسب.
عام ونصف العام، وأهل غزة تتلاطمهم أمواج حرب قاسية، من المؤكد أن عواقبها لن تصبّ في قنواتهم، إذ بلغ عداد القتل والدمار مداه وأكثر، وهو يدور على الأبرياء والنازحين العزل، قصفاً وتجويعاً وتدميراً وخراباً، بينما تنشغل الإدارة الأمريكية في إعادة تدوير حلول ومقترحات ومبادرات، سبق لها التلويح بها، حتى استحالت مثل زبد البحر.
وفيما تحصد مقاتلات إسرائيل أرواح آلاف الفلسطينيين في غزة، وتواصل مدافعها الثقيلة دك ما تبقى فيها من مبان وخيام ومراكز إيواء، ينشغل قادتها في كيفية الخروج من بين الأشلاء المقطعة والدماء المسفوكة، برايات النصر. وما إن يفرغ الوسطاء من وضع المسودات لاتفاق جديد وتهدئة ثانية، حتى تكون غزة قد غرقت في جحيم الغارات المستعرة، واكتوت بنار الحزن والأسى، ليأتي الصوت عالياً من غزة، بأن القادم أسوأ.
على مستوى مفاوضات التهدئة، فالمؤشرات تقول إنها لن تكون بأفضل حال، فمن شأن الحرب المستعرة حالياً أن تترك آثاراً سلبية على كل محاولة لدفع الجهود السياسية إلى الأمام، خصوصاً وأن ائتلاف نتانياهو الحاكم في إسرائيل يصر على دفعها إلى الوراء، مضيفاً انتكاسة أخرى إلى الإخفاقات التي لازمت المباحثات.
وفق مراقبين، لا يعني توقف المفاوضات غياب الاتصالات السياسية، بل هناك ثمة مؤشرات على تباري طرفي الصراع في استطلاع الحلول الممكنة والبحث عن مخارج لوقف الحرب، فحركة حماس تقول إنها لم تشأ القفز عن اتفاق التهدئة، لكن الرد الأخير الذي قدمته، يغلق باب الأمل بوقف الحرب في الزمن المنظور، كما يقول المحلل السياسي محمد دراغمة ومحللون آخرون، مرجحين ترك الأمور للميدان.
يقول دراغمة: «تراهن حركة حماس على حراك عالمي لا يسمح لإسرائيل بتجويع سكان القطاع، وأن تقتل هذا الكم الهائل من الفلسطينيين، وأن الإدارة الأمريكية لن تمنح إسرائيل شيكاً مفتوحاً لمواصلة إبادة المدنيين في غزة، فضلاً عن الضغط في الشارع الإسرائيلي لوقف الحرب» لكن هذا غير مجدٍ، من وجهة نظره.
بيد أن المواقف التي تبديها إسرائيل تؤشر على مواصلة الضغط على حركة حماس والفلسطينيين، من خلال استمرار منع دخول المساعدات الإنسانية، معولة في ذلك على دفع المواطنين إلى الشارع، والضغط على الحركة للموافقة على الشروط الإسرائيلية، وهي: تسليم المحتجزين، تجريد غزة من السلاح، إنهاء حكم حماس في غزة، وإبعاد قادة حماس العسكريين، الأمر الذي ترفضه الحركة وتعتبره بمثابة صك هزيمة.
وبعد عام ونصف العام من الحرب على غزة، أزهقت آلة الحرب الإسرائيلية أرواح ما يزيد على 51000 فلسطيني، كما تركت خلفَها أكثر من 115000 جريح، وليس ثمة مؤشرات بأن حدة القصف في تراجع، بل إن التقديرات المختلفة ترجح سقوط المزيد من الضحايا، إذ في خضم الحرب لا زال آلاف الفلسطينيين يمضون، وتدمر منازلهم، ويشوّه مستقبلهم، في حين لا تملك رام الله، حيث الرئاسة الفلسطينية، أكثر من نداءات الاستغاثة وصيحات الغضب. وفيما تصر كل من حماس وإسرائيل على تحميل خطابهما لهجة انتزاع «النصر» قبل أي تسوية سياسية قادمة، فإن ثمة حقيقة مرّة قائمة، مفادها أرواح الآلاف التي أزهقت، والخراب والدمار الذي لحق بغزة.