راشد بن سعيد.. مسيرة ملهمة أسست مستقبل دبي

تعد بصمات المغفور له، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، أيقونة دبي الحاضرة دائماً في وجدان أبناء الإمارات، فهو قائد استثنائي أرسى دعائم النهضة التي شهدتها الإمارة، ومهّد الطريق نحو «دبي الحديثة»، من خلال نظرة ثاقبة استشرفت مستقبل دبي، وقادت مسيرتها التنموية، برؤية كانت ولا تزال ركيزة ملهمة دفعت عجلة التنمية في الإمارة، وأسست لانطلاقها نحو العالمية، إذ وضع الشيخ راشد، رحمه الله، دبي على خريطة العالم التنافسية في المجالات التنموية كافة، من خلال الفكر الاستباقي والتخطيط الحضري والاستثمار في بناء الأجيال، ورسم خريطة طريق تميزها، إذ حققت إمارة دبي تحت إدارته طفرة تنموية شملت جميع النواحي لتصبح مدينة حديثة تبهر العالم بإنجازاتها وريادتها.

الذكرى 34

وتصادف اليوم الاثنين الذكرى 34 لوفاة المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، حيث توفي، رحمه الله، في السابع من شهر أكتوبر عام 1990 الموافق الثامن عشر من شهر ربيع الأول عام 1411هـ عن عمر يناهز 78 عاماً، قضاها، رحمه الله، في خدمة أمته ووطنه ومواطنيه، وبذل خلالها كل ما يملك في سبيل تحقيق مسيرة الخير والنماء والازدهار.

تستذكر دبي، ودولة الإمارات، الشيخ راشد بن سعيد، بمآثر لا تُنسى، على المستويين المحلي والاتحادي، ومساهمته في بناء أعمدة الأساس لنهضة الإمارة.. من المطار، الذي غدا معلماً عالمياً يتصدر قائمة أكثر المطارات الدولية ازدحاماً في العالم، إلى الخور الذي شكل شريان الحياة النابض في قلب الإمارة، حيث يربط ماضيها العريق بحاضرها المزدهر ومستقبلها الواعد، مروراً بطريق الشندغة، وتعزيز موقع الإمارة التجاري بإنشاء مزيد من الموانئ، فأصبحت دبي مركزاً تجارياً بين الشرق والغرب، وعلى الصعيد الاتحادي، حيث الحكمة وبُعد النظر، التقت رؤيته ورؤية المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مؤسس اتحاد دولة الإمارات، فآمن بالاتحاد وعمل ما بوسعه ليتحول الحلم إلى حقيقة.

نشأ الشيخ راشد في كنف والده الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم المعروف بالتقوى والحكمة وسعة الصدر ورجاحة العقل، ووالدته هي الشيخة حصة بنت المر بن حريز الفلاسي المعروفة بـ (أم دبي) كانت لها مكانة خاصة في قلوب أهل دبي، عُرفت بقوة تحملها وإرادتها العالية وطموحها، واشتهرت بكرمها وحبها للخير ومدّ يد العون لكل محتاج، وكان تأثير الشيخة حصة واضحاً في شخصية ابنها الشيخ راشد.

واتصف الشيخ راشد منذ صغره بنضجه وفكره السابق لعصره، وعُرف بأنه شاب مثابر ومحبّ للبحث والاطلاع، ومن أهم هواياته الصيد بالصقور وركوب الهجن والخيل والرماية.

وارتبط الشيخ راشد بمجلس أبيه ونهل منه الكثير، إذ تعلم كيفية إدارة المنطقة وتسيير أمورها، وكان مطّلعاً على كل ما يحدث في هذا المجلس ليتعرّف أمور الحكم ويتدرّب على تحمل المسؤولية من بعد والده، وتم تعيينه ولياً للعهد عام 1939 وساند والده في تسيير شؤون المنطقة، وأثبت جدارته في تحمل المسؤولية، واستطاع أن ينهض بدبي من أزمات اقتصادية كثيرة أهمها أزمة انهيار تجارة اللؤلؤ، والحصار البحري الذي فرضته بريطانيا على موانئ الخليج العربي بعد الحرب العالمية الثانية.

وتولى حكم إمارة دبي عام 1958، وامتدت سنوات حكمه 32 عاماً، شهدت فيها دبي تطوراً سريعاً في جميع المجالات.

ما يميز الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، أسلوبه في الحياة الذي عكس فكراً ناضجاً سابقاً لعصره، حيث اتسمت شخصيته بالحنكة والقيادة الاستثنائية في جميع الأحداث، وأجمع أبناء الوطن على محبته، والالتفاف حول قيادته، وحكم الشيخ راشد، رحمه الله، إمارة دبي بحنكة وبُعد نظر.

مسيرة البناء

وحرص الشيخ راشد على وضع اللبنة الأولى في بناء مسيرة نهضة دبي، وقاد حركة التغيير والبناء في مسيرة تكللت بالإنجازات والعطاء، وأرسى ركيزة أساسية للمشاريع الكبيرة، والبنى التحتية والعمران والتجارة، وعمل على تسخير جميع الإمكانات المتاحة في ذلك الوقت لمصلحة بلاده، وأبناء شعبه، واستشرف مستقبل دبي، واهتم بإنشاء البنى التحتية التي تمثل أهم عامل نجاح لجميع القطاعات مثل التجارة والصناعة والسياحة والاستثمار، سواء كانت الطرق، أو الجسور، أو المطارات، أو الموانئ التي أصبحت بمقام بوابات واسعة لتدفق المستثمرين والسياح والباحثين عن العمل والإقامة، فكان يفكر في حاضره في ذاك الوقت، وعينه على مستقبلنا اليوم وغداً، حتى باتت رؤيته في العمل والتخطيط مدرسة، ومنارة تستلهم الأجيال منها مبادئ التميز والتطوير حتى يومنا هذا.

وقضى الشيخ راشد حياته في خدمة أمته ووطنه، وبذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق الخير والرخاء والاستقرار لأبناء الوطن.

ويعد الشيخ راشد مدرسة عريقة ملهمة في التطوير والبناء والاستثمار في الإنسان، وكان حريصاً على المتابعة اليومية للأعمال والمشاريع ضمن جدول أعماله اليومي، إذ حرص على القيام بجولتين في مدينة دبي يومياً يتابع فيهما المشاريع، ويطلع على أدق التفاصيل لأي مشروع قيد التنفيذ في الإمارة، ويتابع كل شيء بنفسه خطوة خطوة، وكانت هذه الجولات فرصة للالتقاء بعامة الناس عن قرب والاستماع إليهم وتلبية مطالبهم.

وبعد عودته من جولاته اليومية كان يمضي كثيراً من الوقت في أعماله الرسمية من خلال مجلسه، ويلتقي بالناس ويشاركهم قضاياهم ويصغي لمطالبهم ويعمل على تلبيتها، وكانت هذه القيم ركيزة منظومة الحكم في دبي وريادتها، إذ يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في كتابه «قصتي»: «أحد أهم أسرار تفوق دبي هي القيم التي أرساها الشيخ راشد بن سعيد في منظومة الحكم».

مشاريع

وحرص الشيخ راشد بن سعيد، طيب الله ثراه، على جعل دبي تأخذ موقعاً متقدماً على خارطة الاقتصاد الدولي كمركز إقليمي وعالمي للتجارة، والاستثمار المتبادل بين كل القارات وخارطة التنافسية العالمية، واهتم الشيخ راشد بتوفير مناخ ملائم للتجارة في الإمارة بغية جلب التجارة والشركات العالمية إلى دبي، وأخذ على عاتقه توفير الخدمات الأساسية لسكان دبي، وأطلق مشاريع متنوعة بعد أن تولى مقاليد الحكم في دبي، واهتم، رحمه الله، في بناء الإنسان، والاستثمار فيه، وخدمة شعبه ووطنه، وتحقيق الخير والرخاء لهم واستغلال الإمكانات والفرص المتاحة له في ذلك الوقت من أجل التخطيط لحاضر ومستقبل الإمارة التي باتت اليوم محط أنظار العالم واهتمام الباحثين عن الريادة والتقدم والازدهار.

وظف الشيخ راشد بن سعيد، رحمه الله، خبرته السياسية في إدارته لشؤون الإمارة في ذلك الوقت، ثم في رئاسته مجلس الوزراء بعد قيام الاتحاد، فحققت دبي تحت إدارته طفرة تنموية شملت إنشاء الطرق والجسور، وتوسيع خور دبي، وتعزيز موقع دبي التجاري بإنشاء مزيد من الموانئ حول الإمارة، فأصبحت دبي مركزاً تجارياً بين الشرق والغرب.

وبعد أن تولى مقاليد الحكم في الرابع من أكتوبر عام 1958، أعلن عن رغبته في بناء مطار دبي، الذي افتتحه في الثلاثين من سبتمبر 1960، وأدت سياسة السماء المفتوحة إلى جعل دبي مركزاً إقليمياً لحركة الطيران، كما تم إنشاء ميناء جبل علي في عام 1979، وقبل ذلك، أي في نهاية 1960 تم إنجاز مشروع خور دبي. وبدأت بعد ذلك خطوط الملاحة تتقاطر إلى دبي معتمدة خور دبي كميناء رئيسي.

كما تم إنشاء شركة الكهرباء العامة في 1959 وحصلت دبي على أول إمداد كهربائي في عام 1961، وفي عام 1960 أمر الشيخ راشد بإنشاء شركة التليفون والبرق واللاسلكي جنباً إلى جنب مع شركة كهرباء دبي، وأصدر الشيخ راشد في 1963 مرسوماً بتأسيس أول بنك وطني، هو بنك دبي الوطني المحدود، برأسمال قدره مليون جنيه استرليني.

كما قام بإنشاء دائرة الأراضي والأملاك في 1960 وأسند رئاستها لأكبر أنجاله وهو الشيخ مكتوم بن راشد، وبات الإسكان ضمن المشاريع العديدة التي بدأ العمل بها في دبي. ويعد ميناء راشد انطلاقة أساسية في نهضة دبي التجارية والاقتصادية، فبعد أشهر قليلة على إعلان قيام الاتحاد في الثاني من ديسمبر من عام 1971، افتتحت دبي في عام 1972 أول ميناء في المياه العميقة «ميناء راشد»، الذي جاء تتويجاً لتاريخ عريق لهذه الإمارة في مجال التجارة. وتم تشغيل ميناء راشد في مطلع عام 1972 وتم افتتاحه رسمياً في الخامس من أكتوبر من العام نفسه.

وتحفل مسيرة المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، رحمه الله، بإنجازات خالدة في خدمة أبناء الإمارات، فبصماته لا تزال حاضرة في وجدان الوطن، رسمت واقع دبي وطموحاتها المستقبلية، ووضعت حجر الأساس في بناء الإمارة، لتشكل مدرسة يستلهم منها فنون التطوير والبناء.

عمل المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم ورفيق دربه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراهما، وإخوانهما حكام الإمارات على تأسيس الدولة، حيث توافقت الرؤية بأنه لا بد من قيام الاتحاد بين الإمارات التي تجمعها سمات مشتركة، تمثلت في وحدة التاريخ والجغرافيا والثقافة والعادات والتقاليد والملامح السياسية. وكان الإعلان رسمياً عن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في الثاني من ديسمبر 1971 برئاسة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ونائبه الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. وقد لعب الشيخ راشد بن سعيد دوراً كبيراً في قيام الاتحاد، فقد كان على قناعة حقيقية بأن مستقبل هذه الإمارات على ساحل الخليج العربي سيكون أفضل إذا توحدت، وعمل مع المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، على إقناع حكام الإمارات من أجل إيجاد كيان وحدوي، وكان يعرض خطته على الحكام في اجتماعات ثنائية.

قصة الاتحاد

وكان المغفور له الشيخ راشد، بالتعاون مع المغفور له الشيخ زايد، قد دعا في العام 1965 إلى اجتماع لحكام الإمارات السبع في قصر الضيافة في دبي، وعمل مع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، على إصدار وثيقة الوحدة والاتحاد بين دبي وأبوظبي في فبراير 1968.

وفي العاشر من يوليو 1971 وجه الشيخ راشد دعوة من أجل المضي قدماً على طريق الاتحاد، واستمر في الدفع نحو الاتحاد حتى أعلن عنه رسمياً في الثاني من ديسمبر 1971، حيث تولى منصب نائب رئيس الدولة، إضافة إلى رئاسة مجلس الوزراء، وشكل المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، بقرار من المجلس الأعلى للاتحاد، مجلس الوزراء في الثلاثين من أبريل 1979، وأعلن سموه عقب تشكيل الحكومة في الأول من يوليو 1979 الخطوط العريضة لسياسة حكومة الإمارات.

وشارك المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم إلى جانب أخيه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراهما، في قيادة دولة الإمارات العربية المتحدة، وأسهم في بناء الدولة وتدعيم الاتحاد، وعمل يداً بيد مع إخوانه حكام الإمارات على دفع عجلة التقدم والتنمية وتحقيق الرخاء للمواطنين، تاركاً وراءه سجلاً من الأعمال والإنجازات التي حازت احترام العالم لقائد تفانى في خدمة وطنه وتحقيق حلم الاتحاد. وحرص الشيخ راشد على بناء علاقات أخوية وثيقة مع حكام العرب والعالم في كل الظروف والأزمنة.

مواقف وطنية

وبعد تولي الشيخ راشد بن سعيد منصب نائب رئيس الدولة ورئاسة مجلس الوزراء، ساهم في التطوير العمراني والنهضة الشاملة، التي شهدتها الدولة في بداياتها من بناء المرافق العامة والبنى التحتية، وحرص على تقوية العلاقات مع دول الخليج والدول الأخرى.

كما دعا إلى إنشاء مجلس يضم دول الخليج العربي، وحرص الشيخ راشد على مصالح دولة الإمارات وقضايا أمته العربية والإسلامية إيماناً منه بعدالة قضاياها، وكان سباقاً لفعل الخير، حيث كانت الأعمال الإنسانية حاضرة في فكره ونهجه، ويسجل التاريخ العديد من الأعمال الإنسانية، التي قام بها الشيخ راشد بن سعيد، كما رعى المغفور له، العديد من المشاريع الخيرية.