يصح القول إن بداية النهوض اللافت لليمين القومي في القارة الأوروبية تعود إلى الدخول الأول للرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع 2017، ثم زاد تململه حتى قبل عودته للرئاسة مجدداً.
حين نتأمل خريطة القوى التي ستخرج مارد الحكم من صناديق الاقتراع في أوروبا، نجد صعوداً لحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب التجمع الوطني في فرنسا بقيادة مارين لوبان، وحزب أخوة إيطاليا، الذي تقوده رئيسة الوزراء، جورجيا ميلوني، وحزب «فوكس» في إسبانيا، و«الحرية» في النمسا.
هل من علاقة سببية مباشرة بين انتعاش القومية اليمينية في أوروبا، والظاهرة الترامبية في أمريكا. العلاقة واضحة، وليست مجرد ارتباط زمني، أو من باب المصادفة، وإن كان منحنى تطور اليمين الأوروبي مرتبطاً بعوامل عديدة، ذات طبيعة سياسية واقتصادية واجتماعية، في عالم باتت الحدود فيه مجرد خطوط وهمية.
الدول الأوروبية، مع تفاوت في العمق والمدى، تعتمد أمنياً وسياسياً وعلى الولايات المتحدة، مع تداخل اقتصادي واشتراك مصيري معها في حلف الناتو، الذي تأخذ أمريكا حصة الأسد في تمويله وتسليحه، لذلك من الطبيعي أن يتأثر المشهد السياسي في هذه القارة بما يجري في أمريكا، وبالتالي فإن انتعاش اليمين الأووبي لا يبدو مستغرباً، حين يكون رئيس مثل ترامب على رأس أمريكا.
في السنوات الأخيرة حققت الأحزاب اليمينية المتطرفة تقدماً لافتاً في الانتخابات العامة والبرلمانية في دول أوروبية عديدة.
وعزا محللون هذا التقدم إلى عناوين ثقيلة، ومحددة للمشهد السياسي ولشكل المنظومة المنوط بها الإمساك بناصية الحكم، ومنها ظاهرة المهاجرين، التي برزت كأزمة في العام 2015، واتكأت عليها الأحزاب اليمينية المتبنية خطاباً معادياً للهجرة، بل والداعية علناً لطرد اللاجئين.
ولا ينبغي تجاهل الحالة الاقتصادية كعامل مهم في دفع اليمين إلى مواقع أعلى، إذ إن ارتفاع تكاليف المعيشة واتساع رقعة البطالة نتيجة التضخم، عوامل معززة للنزعات القومية المعادية للعولمة، وبخاصة في ظل الثمن، الذي يدفعه المواطن الأوروبي نتيجة ارتدادات مواقف الدول الأوروبية من أزمة أوكرانيا، وتداعيات الاندفاع الأوروبي خلف واشنطن، في فرض العقوبات بالجملة والمفرق على موسكو، التي استعدت جيداً لهذا السيناريو، وربما ما هو أبعد منه.
ذلك الاندفاع وما نتج عنه من متاعب بلا مكاسب، زود القوى اليمينية المتربصة بأسلحة التحريض الحادة، والتي خلصت إلى توصيفه بأنه تعبير عن تبعية لواشنطن وشطباً للسيادة الوطنية، وتفريطاً بالسيادة والمصالح الوطنية لصالح قائدة «الناتو».
قلق
هناك مخاوف من تأثير التعددية الثقافية على القيم والتقاليد الأوروبية، وهو ما تستخدمه الأحزاب اليمينية في خطابها لحشد الدعم، ما ساهم في صعودها المطّرد في السنوات الأخيرة.
من المرجّح أن تواصل ظاهرة ترامب تأثيرها في تسارع صعود اليمين القومي والمتطرف في أوروبا، ويظهر جلياً استلهام الأحزاب اليمينية الأوروبية سياساته وطريقة طرحه للقضايا، وما أثاره فوزه من رسائل ودلالات إزاء تقبّل الناخبين للسياسات والعناوين القومية وحتى الشعبوية.
لقد رأينا كيف أسهمت الولاية الأولى لترامب في صعود بوريس جونسون إلى سدة الحكم في بريطانيا، بعد استقالات متتالية، تسببت بها عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي، كما رأينا صعوداً مفاجئاً مفاجئاً لقوى قومية في دول مثل البرازيل والأرجنتين، وبعض الدول الأوروبية، ومنها مارين لوبان في فرنسا، وفيكتور أوروبان في المجر.
وحين نرى تحالف «وطنيون من أجل أوروبا»، ثالث أكبر كتلة في البرلمان الأوروبي، يعتبر ترامب قدوة ونموذجاً يُحتذى به، فإن ذلك يجعلنا ندرك المشهد الانتخابي القادم في الدول الأوروبية.
من الطبيعي- تالياً - أن نشهد في العهد الأمريكي الجديد مساعي من أحزاب اليمين الأوروبي لرفع منسوب علاقاتها، وتنسيقها مع إدارة ترامب، الأمر الذي سيفضي - على الأرجح - إلى تغيرات باتجاه مزيد من التناغم بين الإدارة الأمريكية والحكومات القادمة في القارة الأوروبية.
حين تظهر الغيوم في سماء أمريكا يصبح الجو في أوروبا ماطراً. إذاً من الطبيعي أن تتأثر القارة العجوز بالمنخفض، الذي تكون بؤرته الولايات المتحدة.