هناك تناقضات كثيرة وخطيرة برزت بين ترامب ورئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، حيث يبدو أن ترامب مدفوع بحسابات سياسية لتوجيه الاقتصاد نحو مسار أكثر ربحية وعائداً على المدى القصير، فيما حسابات باول مقيدة بمسار كلي للاقتصاد على المدى البعيد حتى لو رافقتها آلام على المدى القريب.
واليوم، انتقد ترامب بشدة جيروم باول وقال صراحة إنه يترقب ترك باول رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي لمنصبه "بفارغ الصبر"، ودعا البنك المركزي إلى خفض أسعار الفائدة.
وكشف ترامب عن مآخذه على باول مجددا في منشور على منصته للتواصل الاجتماعي (تروث سوشيال) بشأن خفض تكاليف الاقتراض، قائلا "كان ينبغي أن يخفض أسعار الفائدة، مثل (البنك المركزي الأوروبي)، منذ فترة طويلة، لكن يجب عليه بالتأكيد خفضها الآن"، معتبراً أن باول "دائما متأخر ومخطئ"، وانتقد التعليقات التي أدلى بها رئيس الاحتياطي الفيدرالي أمس الأربعاء، وواصفها بأنها "فوضى أخرى تامة ومعتادة!"
وحذّر رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأربعاء من أن الرسوم الجمركية الواسعة النطاق التي فرضها ترامب على جميع الشركاء التجاريين تقريبا قد تضع الاحتياطي الفدرالي في موقف صعب، إذ سيضطر للاختيار بين معالجة التضخم والبطالة.
في المحصلة، يشكل الصراع بين ترامب وباول مظهراً حاداً للتوتر الكامن بين منطق السلطة السياسية ومنطق المؤسسات المستقلة في إدارة الاقتصاد. فمن جهة ترامب، هناك اندفاع واضح نحو توجيه الاقتصاد الأمريكي وفق حسابات سياسية تهدف إلى تحقيق نمو سريع وملموس، تحقيقاً لوعوده الانتخابية. وهو يرى أن خفض أسعار الفائدة وضخ السيولة في الأسواق من شأنه أن ينعش بورصة وول ستريت، ويقلل البطالة، ويرفع منسوب التفاؤل العام، ما يعزز صورته كقائد اقتصادي ناجح. ومن هذا المنطلق، حاول مراراً الضغط على الاحتياطي الفيدرالي لإجراء خفض أكبر وأسرع في الفائدة، حتى إنه لم يتردد في توجيه انتقادات علنية لسياسات باول.
أما من جهة جيروم باول، فإن رؤيته للسياسة النقدية تنطلق من اعتبارات تهدف إلى حماية الاستقرار الاقتصادي العام، حتى لو تطلّب ذلك تبني إجراءات مؤلمة على المدى القصير. فالبنك المركزي، في نظر باول، لا ينبغي أن ينجر وراء المطالب السياسية العابرة، بل أن يظل مؤسسة مستقلة توازن بين محاربة التضخم والحفاظ على استدامة النمو الاقتصادي، دون التسبب في فقاعات أصول أو تدهور قيمة الدولار. ويرى باول أن الإفراط في التحفيز النقدي قد يؤدي إلى نتائج عكسية، منها ارتفاع التضخم وتقويض الثقة في الأسواق الأميركية.
التناقض بين الاتجاهين بنيوي؛ فهو يعكس تناقضاً جوهرياً بين منطقين: منطق السلطة السياسية التي تقيم الاقتصاد من منظور الربح الفوري، ومنطق المؤسسات المستقلة التي تُقيم الاقتصاد من منظور استقرار شامل ومستدام. ويعيد هذا الصراع إلى الواجهة سؤالاً محورياً في الاقتصاد السياسي الحديث، وهو إلى أي مدى يمكن أن تبقى البنوك المركزية مستقلة في ظل ضغوط السلطات السياسية، لا سيما في الأنظمة الديمقراطية حيث تتداخل الحسابات الاقتصادية مع الدورات الانتخابية.
وهدد ترامب بمحاولة إقالة باول، كما يفعل مع أعضاء هيئات سياسية مستقلة أخرى في خطوة معروضة حاليا على المحكمة العليا الأمريكية.
وقال باول إن مجلس الاحتياطي الاتحادي يراقب القضية عن كثب لكنه لا يعتقد أن أي قرار سينطبق على البنك المركزي، الذي تعتبر مصداقيته في إدارة السياسة النقدية مهمة ليس فقط للاقتصاد الأمريكي، ولكن في الأسواق العالمية التي تتابع قراراته.