علاقة اليسار الماركسي بعبدالناصر واحدة من الصفحات التي تغرى في الحديث والبحث.. فهناك من فصائل هذا اليسار من يرى ان ثورة يوليو اجهضت حركة التحرر الوطني الديمقراطي الذي كان يسير بمعدلات ستسفر في النهاية عن ثورة شعبية, ويختار هؤلاء اطلاق مصطلح انقلاب على الحدث التاريخي الكبير يوم 23 يوليو 1952, ويتعاملون في ذلك مع الحدث وكأنه صورة فوتوغرافية تم التقاطها في لحظة ما ثم انتهى مفعولها.. اما الفصائل الاخرى من اليسار الماركسي فترى ان ما قام به عبدالناصر كان ثورة حقيقية استكملت حلقاتها بمعاركها بعد ذلك على صعيد الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية.. وبقدر ما تتبارى التيارات السياسية مثل الاخوان المسلمين في اثبات ان عبدالناصر كان عضوا فيها او منتميا لها يتبارى ايضا اليسار الماركسي وخصوصا تنظيم حدتو في اثبات ان عبدالناصر كان عضوا فيه, ولان عبدالناصر وحده هو الذي يملك الحقيقة في ذلك, ولانه لم يكتب مذكراته فان رجل الشارع العادي لم يعد يشغله هذا, فقد اعتبره ابنا بارا له فرج عنه وعمل له, وعاش ببوصلة اوجاعه وسهر على تضميدها.. ولان اسرار التاريخ تغرى الواقعين على شفراتها, فهذا التحقيق يقيّم علاقة اليسار الماركسي بثورة يوليو وقائدها جمال عبدالناصر. د. رفعت السعيد امين عام حزب التجمع يقول ان علاقة اليسار بالثورة بدأت قبل قيامها سواء بمشاركة عدد من مناضلي اليسار مثل خالد محيى الدين ويوسف صديق وغيره في تأسيس تنظيم الضباط الاحرار اوانضمام مجموعة كبيرة من الضباط الشيوعيين في تنظيم (حدتو) بقرار من التنظيم وكانوا يمثلون ثلث الضباط الاحرار. او بالدور الفكري الذي لعبه الضباط الشيوعيين وعلى تسهيل المثال فقد كان خالد محيى الدين يحرر منشورات الضباط ويشرف على طباعتها في بعض الاحيان.. وهو الذي حرر برنامج الضباط الاحرار المسمى اهداف الضباط الاحرار ويتضح دور اليسار في بعض التعبيرات الواردة في هذه الاهداف او في البيانات التي كانت تصدر عن قيادة الثورة مثل الاستعمار الانجلو امريكي وهذا تعبير كان يستعمله الشيوعيون دائما ومثل الهجوم الشديد على الاقطاع. وعندما قامت الثورة لعب اليسار دورا رئيسيا فيها.. فمن المعلوم ان خالد محيى الدين بقيادته لسلاح الفرسان لعب دورا أساسيا في الثورة.. اما يوسف صديق باستيلائه على مقر هيئة اركان حرب الجيش واعتقاله لقيادتها فلعب دوراً حاسما في انجاح الثورة.. اما فيما يخص السؤال هل كان عبدالناصر يرتاب من اليسار!.. فالاجابة نعم.. والكلام للدكتور رفعت فلقد كان يخشى من اي قوى منظمة خارج سيطرته وكان يعتبر ان هذه القوى بالضرورة عدوا له.. وحتى عندما قويت سلطته وفرض سيطرته على الحكم كاملا, كان يعتبر ان قيام الشيوعيين بتأسيس تنظيم (حدتو) جريمة. وهناك قصة شهيرة يوم ان قام جمال عبدالناصر بتأميم القناة.. قام شاب شيوعي بعمل منشور وتوزيعه يؤيد فيه هذا الحدث العظيم فتم القبض عليه وحبسه وحكم عليه بثماني سنوات تم تخفيضها الى ثلاث سنوات لان الشاب كان عمره 17 سنة.. ومما زاد ريبة عبدالناصر تجاه الشيوعيين انه اكتشف ان اليسار له وجود في اماكن كثيرة داخل الجيش.. فخاف منهم ان يتحولوا في ظرف ما الى قوة ضده.. كما اعتقل عبدالناصر ضابط لاسلكي الطائرة الملكية الخاضعة مع قائدها خوفا من أن يساهموا في تهريب الملك.. فتقدمت منظمة (حدتو) وكانت علاقتها في ذلك الحين بعبدالناصر قوية تطلب الافراج عنهما لانهما اعضاء فيها.. وعندما علم عبدالناصر بذلك خاف ان يكون ضابط اللاسلكي وقائد الطائرة الخاصة به من الشيوعيين ايضا ولقد دهش عبدالناصر عندما اكتشف دور اليسار وسط المثقفين.. فعندها اصدر احمد حمروش مجلة التحرير بدأ يستعين بعدد من كبار المثقفين والكتاب والمحررين والرسامين وكانوا كلهم من اليسار.. وتأثرت علاقة الشيوعيين بثورة يوليو سلبا وايجابا.. اما عن السلب فلقد كان اليسار ضحية لثورة يوليو فأوضح عمق الديمقراطية والثورة.. فلقد ايد الثورة وشارك فيها ودافع عنها ضد هجمات الرجعية والاستعمار لكن الثورة سجينة وعذبته.. وظل يدافع عنها شريطة ان تكون ديمقراطية ومن هنا اثبت اليسار الوجه الكريه للناصرية.. ولكنه اثر بالايجاب في فكر ثورة يوليو.. وبمراجعة بسيطة للميثاق نجده يحمل كثيرا من بصمات الفكر الماركسي المصاغ بصياغات ناصرية. الكاتب اليساري احمد شرف يرى ان هناك مستويين لعلاقة اليسار بالثورة.. المستوى الاول مستوى عضوى بمعنى انه كان هناك عناصر يسارية منظمة داخل تنظيمات يسارية في بنية تنظيم الضباط الاحرار.. وهذا في حد ذاته يشكل دورا كبيرا سواء في التحركات التي حدثت ليلة 23 يوليو 52, او في صياغة البيانات المرتبطة بتنظيم الضباط الاحرار.. ومن امثال هؤلاء خالد محيى الدين, يوسف صديق, احمد حمروش, اما المستوى الثاني فهو علاقة تنظيمات اليسار وموقفهم من ثورة يوليو.. وقد انقسموا الى تيارين رئيسيين.. التيار الاول ايد الثورة منذ اللحظة الاولى وهو التيار الذي كان له رجال فيها.. والتيار الثاني عارضها من قبيل انه يراها انقلابا عسكريا وهي في الغالب تصب في طاحونة العرس الفاشية والعملاء الامريكان.. وظل الموقف يتأرجح بين هذين التيارين مرتبطا بالاحداث ذاتها.. وعلى سبيل المثال في احداث العمال بكفر الدوار التي اعدم فيها (خميس والبقرى) زاد اتجاه المعارضة, ايضا اثناء المباحثات مع امريكا من اجل صفقات السلاح زاد الاتجاه المعارض.. اما عندما أصدرت الثورة قوانين الاصلاح الزراعي زاد الاتجاه المؤيد.. اي انهم اتخذوا موقفا براجماتيا ليس مبنيا على قناعات فكرية, ولكنه اخذ بعد ذلك صورة ايديولوجية ولكنه ايضا خضع في البداية للمواقف العملية, وارتبط بالوقائع البراجماتية لان الثورة لم تكن تدعى انها تملك ايديولوجية.. وخرج يوسف الصديق عام 1953 من مجلس قيادة الثورة محتجا على بعض الاجراءات المتعلقة بالطبيعة الديمقراطية وبالتحديد حادث خميس والبقرى وقد اختلف خالد محيى الدين ايضا مع قيادة الثورة بعد ما يسمى بقضية مارس الشهيرة.. وهذا ما يؤكد طبيعة العلاقة العملي الذي كان يغلب على الطابع الايديولوجي وقد اثر الشيوعيون في ثورة يوليو حيث حددوا لها في البداية الاطار الايديولوجي واجندة العمل الوطني بالاضافة الى صياغة بياناتها ولقد تراوحت العلاقة بين اليسار والثورة ما بين التأييد والمعارضة الى ان انتقلت الى التأييد الكامل بعد تأميم القناة سنة 1956.. وبدا هناك بعض التحفظات فقط على قضية الوحدة مع سوريا وعلى اثرها وجهت لطمة كبرى لكافة القوى اليسارية وايداعهم في السجون سنة 1958.. وكانت تحفظاتهم على نهج الوحدة (طريقة الوحدة المسلوقة).. وكان لهذه الاحداث اثر سلبي على بعثرة قوات الثورة وجهودها التي كان يمكن ان تزيد الملف الثوري تماسكا.. فدخلت الثورة في خصومات اوسع واعرض مما تتطلبه الظروف الموضوعية التي يمكنها قضايا النضال الوطني والقومي. ويقول شرف.. انا لا اريد ان ابتزل او اختزل ما قدمه عبدالناصر لليسار ذلك ان عبدالناصر زعامة وطنية شارك في تعميق نهج الثورة الوطنية (الديمقراطية) واقصد هنا المعنى الاجتماعي والاقتصادي للديمقراطية من تحرير لقوى طبقية ووضعهم على سطح المجتمع.. من الفقراء والعمال والفلاحين.. فمم لاشك فيه ان اوضاع هذه الطبقات تحسنت كثيرا في العهد الناصري, هذا عن الجانب الموضوعي وعلى صعيد اخر, فقد حسم عبدالناصر قضية الاشتراكية بقوله ان الاشتراكية العلمية واحدة ولكن هناك تطبيقات مختلفة لها ومن ثم نحن بصدد تطبيق عربي للاشتراكية العلمية وكان لهذا اثر كبير على جعل الثقافة الاشتراكية متاحة بأعرض الوسائل بل ساهمت الدولة في اصدار ما يسمى بسلسلة الكتب الخضراء وكانت تتكلم عن اصول الاشتراكية وهذا ايضا كان مساعدة كبيرة للماركسية فقد كانوا يتسخوا الكتب الماركسية قبل الثورة على دفاتر ورق لف السجائر البقرة كما افسح لهم عبدالناصر بعد خروجهم من المعتقلات (64 ـ 65) مجالا خصبا للعب دور قيادي في الثقافة المصرية وببساطة شديدة ان العلاقة بين عبدالناصر والشيوعيين كانت موضوعية لانه كان زعيما وطنيا عظيما وربما اعظم زعماء مصر الوطنيين ولكنه اختر نهجا شخصيا في تقييمه للاحداث.. فلقد كان دائما ابن تجربته الشخصية. اما ابراهيم البدراوي ممثل الشيوعيين فيؤكد على مشاركة اليسار الماركسي من خلال الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) في بناء تنظيم الضباط الاحرار.. وهذه كانت بداية طيبة ولكن اخذت علاقة اليسار بثورة يوليو تتأرجح ما بين التأييد الشديد من بعض فصائل الشيوعيين والرفض الشديد ايضا من الفصائل الاخرى. ولاشك ان حالة الانقسامية في الحركة الشيوعية المصرية التي ظهرت في البدايات الاولى لبنائها في الاربعينات قد لعبت دورا سلبيا في علاقة الشيوعيين بثورة يوليو وقد وصل الامر بالشيوعيين في عام 1958 الى حد الصدام الشديد مع السلطة والذي ادى الى اعتقال كافة كوادر التنظيمات المختلفة وهكذا.. ثم قرار الشيوعيين بحل تنظيماتهم بدءا بحركة حدتو التي بدأت الحل بهدف الاندماج في تنظيمات الثورة وهذا يعنى فقدان البوصلة الذي ادى الى صدام يعقبه تخل كامل عن المنبر المستقل للطبقة العاملة وكان قرار حدتو بالحل هو السبب الضاغط على باقي المنظمات كي تحل نفسها.. واعتقد ان العلاقة بهذا الشكل بين الشيوعيين وبين ثورة 23 يوليو لم تكن علاقة سوية بين كلا الطرفين خاصة بالنسبة لأجهزة امن السلطة التي لعبت دورا شديد السلبية في هذه المرحلة.. ولم يستطع الشيوعيون الا بعد اعادة بناء الحركة الشيوعية مرة اخرى منذ نهاية الستينات وبداية السبعينات ان يقدموا تقييما موضوعيا لثورة 23 يوليو التي اعتبروها اهم حلقة من حلقات الثورة الوطنية الديمقراطية في مصر.. هذا التذبذب في العلاقة المتبادلة وعدم الثقة بين الشيوعيين وعبدالناصر لم تساعد اطلاقا على الوصول من كلا الجانبين لموقف مبدئي يحكم هذه العلاقة خاصة ان البلاد كانت لاتزال تخوض معاركها الوطنية ضد محاولات الامبريالية لفرض سيطرتها على مصر.. وكان من الممكن العمل على بناء جبهة وطنية ديمقراطية لتستطيع ان تحشد الجماهير من خلال حركتها المستقلة لتطوير الثورة.. ولكن هذا لم يحدث وكانت المسؤولية تقع على كلا الطرفين.. ولاشك ان ذلك الوضع قد اضر ضررا بالغا بمسيرة الثورة وما واجهها من انتكاسات سواء بفعل العامل الخارجي مباشرة وهو العدوان او بفعل الثورة المضادة التي قادها السادات كعامل داخلي مترابط في نفس الوقت مع العامل الخارجي.. التأرجح الشديد في العلاقة بين الشيوعيين والثورة ادى في النهاية الى قيامهم بحل تنظيماتهم.. وكانت هذه خطيئة كبرى تتحمل منظمة حدتو المسؤولية الرئيسية عنها.. وهنا حدثت مأساة واقصاء الغالبية الساحقة من الشيوعيين عن المراكز المؤثرة.. ولا نستطيع ان نعتبر ان المكاسب التي حققها بعض الشيوعيين الذين وضعوا في بعض المواقع هو مكسب للشيوعيين لانهم كانوا قد نقدوا تنظيماتهم بشكل نهائي.. ولكن ما يمكن ان نعتبره كان مكسبا للثورة وليس للشيوعيين هو امكانيات طرح الادب الماركسي في المجتمع واقامة عدد محدد من المنابر الاعلامية التي امكن من خلالها طرح الفكر الماركسي.