بموجب اتفاقية (بريتون وودز) تأسس عام 1944 صندوق النقد الدولي والذي يمثل الضلع النقدي في النظام الرأسمالي العالمي يكمله الضلع المالي والمتمثل بمجموعة البنك الدولي (البنك الدولي, مؤسسة التمويل الدولية, مؤسسة التنمية الدولية) وبقي الضلع التجاري ضعيفاً ولم يساهم في تكملة أضلاع المثلث الاقتصادي الرأسمالي وذلك بسبب الحرب الباردة وإصرار الولايات المتحدة الأمريكية على عدم الالتزام بمؤسسة عالمية تقود حركة التجارة الدولية, الا أنه وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي وبروز التكتلات الاقتصادية العملاقة والصعود الامريكي نحو القيادة العالمية فلقد تم تأسيس الضلع التجاري والمتمثل بمنظمة التجارة العالمية. وهكذا انشئت مؤسسات تابعة للأمم المتحدة تشرف على الاقتصاد العالمي وتهدف الى تحرير النظام النقدي والمالي والتجاري الدولي. كل هذه المنظمات ذات شخصية قانونية مستقلة تلعب الدور الرئيسي في الاشراف والتوجيه, ومعنى ذلك ان هذه المنظمات هي (سلطات فوق القومية) بمعنى ان الدول الاعضاء فيها تتنازل عن جانب من سيادتها الوطنية على شئونها النقدية والمالية والتجارية لصالح هذه المنظمات الدولية, وهي بالتالي تلعب دور الآلية الدولية لتسوية او فض المنازعات وتصحيح الاتجاهات ومحاولة العمل على تقليل الاختلالات والعجوزات ولهذا فان لهذه المنظمات سلطات قانونية وقضائية دولية تمكنها من الفصل في المنازعات وتحديد بعض السياسات في الدول الاعضاء والزامها بالامتثال الى احكامها مع كفالة درجات التقاضي المألوفة. رغم ما تتضمنه هذه المؤسسات واتفاقياتها وشروطها وسياساتها من ايجابيات وسلبيات مثلها مثل اي اتفاقية فان الدول التي تضم اليها سوف تستفيد من المزايا الواردة في اتفاقياتها وموادها القانونية, ذلك ان هذه المنظمات الدولية التي تتحكم وتدير وترأس أكثر من 90% من اجمالي الاقتصاد العالمي, الأمر الذي يعني ان الانضمام اليها اساسي ولا خيار في عدم الانضمام اليها باعتبار ان النظام الاقتصادي الجديد لا يسمح بالانغلاق او الابتعاد عن التداخل والتمازج والتبادل بين دوله, الا ان المطلوب هو اعداد صمامات الامان الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عند الالتزام بسياسات وشروط تلك المؤسسات ودراسة آثارها السلبية واحتمالات تفاقمها بدلا من ابراز الجوانب الايجابية منها فقط. وأهم تلك الاثار السلبية هي المتعلقة بسياسات وبرامج التخصيص وخاصة على القوى العاملة والشرائح والفئات والطبقات الاجتماعية ذات الدخول المتدنية والمحدودة والمتوسطة. لقد اعتمد صندوق النقد والبنك الدوليين على برامج وسياسات تقليدية معروفة اهمها برنامج (التثبيت الاقتصادي) والذي يعتمد على النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة لميزان المدفوعات, ويستند الى تحليل الصلة القائمة بين تراكم الديون ومشكلاتها والتعديلات الضرورية في هيكل الاقتصاد لتعديل ميزان المدفوعات والميزانية العامة للدولة, ويعني الصندوق بهذه المشكلات في أجلها القصير, والوصفة التقليدية للصندوق لتحقيق هذه الغاية تعتمد على التحكم في الطلب الكلي, لذلك تنصح باتباع اجراءات معينة منها تخفيض الانفاق الحكومي على التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والدفاع وغيرها وتعديل عرض النقد والائتمان المحلي من خلال التحكم في السيولة النقدية كرفع الفائدة على الودائع المحلية وتخفيض مستويات الاجور الحقيقية سواء بالتخفيض المباشر او بزيادة معدلات البطالة وحراك القوى العاملة, والاعتقاد السائد ان مثل هذه الاجراءات تكبح جماح التضخم, فتزيد القدرة على الاستيراد وتوفر من جانب آخر موارد تسمح بالوفاء بإلتزامات الدين وخدمته. هذه السياسة الاقتصادية المصممة للامد القصير سرعان ما تؤدي الى الركود ونقص الاستثمارات المحلية والخارجية فتبدأ منذئذ (برامج التكييف الهيكلي) التي يرعاها البنك الدولي وتعتمد هذه البرامج على النظرية الاقتصادية في تخفيض وتوزيع الموارد وتتضمن برامج التكييف على تحرير الاسعار وابعاد الدولة عن التدخل في آليات العرض والطلب ونقل الملكية العامة الى القطاع الخاص, ولا يخفي البنك نقده الشديد للبلدان التي يوجد بها قطاع عام قوي, وقد تطورت نظرة الصندوق لهذا الموضوع, فقد كان يركز في البداية على الكفاءة في ادارة وتشغيل المشروعات العامة وتخليصها من الاحتكار الحكومي والمركزي والبيروقراطية ثم انتقلت هذه السياسات الى تأجير المشروعات العامة الى القطاع الخاص مع احتفاظ الدولة بالملكية ثم اتجه الحديث والتحليل الى التخلص من القطاع العام لصالح القطاع الخاص بصورة تامة. يبدو من النظرة الاولية بأن هناك تعارض بين برامج التثبيت الاقتصادي وبرامج التكييف الهيكلي, الا ان المجموعتين من البرامج متكاملتين, وقد ضمنت المؤسستان عدم التعارض في هذه البرامج من خلال ما تسمى بـ (المشروطية المتقاطعة) التي تعني الترابط والتداخل بين شروط كل من المؤسستين. اصلاحات اقتصادية ان الصندوق والبنك الدوليين يعتقدان ان الأزمات الاقتصادية في البلدان النامية نتاج اخطاء السياسات الاقتصادية الكلية, وان تصحيح ذلك لابد ان يكون عن طريق احداث تغييرات جذرية في هذه السياسات حتى ولو كان ذلك على حساب الاهداف الاجتماعية, ويتضح ذلك من ادبيات المؤسستين, اذ تعترف صراحة بالتكلفة الاجتماعية العالمية لتطبيق برامج التثبيت والتكييف الهيكلي, ففي تقرير البنك الدولي حول التنمية لعام 1990 يؤكد انه سوف تشتمل الاصلاحات على وجه التأكيد عمليات تصحيح مؤلمة اذ يتفاقم التضخم والبطالة بازالة الضوابط والكشف عن الخسائر الفعلية لبعض الانشطة, وقد تتصاعد المعارضة السياسية مع هذه التطورات ومع زيادة عدم تكافؤ الدخل, وتؤكد وثائق البنك الدولي أن تدابير التكييف عادة ما تؤدي الى انكماش الناتج والعمالة والاستهلاك, وقد لا يمكن تجنب هذه التكاليف الانتقالية الا انه وبعد انتهاء الصراع البارد وبالتالي انتقاد الدور الايديولوجي لهذه المؤسسات بالنسبة لمواجهة الايديولوجية الاشتراكية ونظرياتها الاقتصادية وتطبيقاتها المعتمدة على مراعاة البعد الاجتماعي لاية سياسة اقتصادية وأهمية القطاع العام والتخطيط وغيرها, وبعد تجارب برامج التخصيص في كثير من دول العالم وخاصة دول امريكا اللاتينية واوروبا الشرقية وأفريقيا أصبحت الكتابات الصادرة عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حول هذه البرامج تشير اكثر فأكثر لما يسمى بـ (التكييف ذو البعد الانساني), بل ان مقاييس سياسية واجتماعية ذات العلاقة بحقوق الانسان قد اقحمت في بنود اعمال اجتماعات الصندوق الدورية, ففي اجتماعات الربيع الخاصة بالبنك الدولي والصندوق بواشنطن عام 1996 تم ادخال معيار (الحكومة الصالحة) كمرجعية للاقتراض بجانب معيار (الحرية الاقتصادية) وهذا المعيار السياسي الاجتماعي الجديد يعني بوجوب ان تتمتع الدول النامية بحكومة صالحة, من مكوناتها الاساسية حقوق العمالة والاطفال والأحداث وحقوق الانسان بشكل عام كالحريات النقابية والمشاركة السياسية, ولقد اصدرت مجموعة الدول الاربع والعشرين الخاصة بالدول النامية في هذه الاجتماعات والتي تشكلت او تآلفت منذ نحو ربع قرن بيانا ختاميا ترفض فيه هذه المعايير, ومن الجدير بالذكر ان هذه المجموعة تمثل مصالح الدول النامية في التفاوض حول المسائل المالية الدولية, ومن الدول العربية المشاركة في هذه المجموعة ذلك العام هي الجزائر, مصر, لبنان, وسوريا, ورغم ان البيان تضمن دعوات ايجابية تخدم مصالح الدول النامية وسياساتها الاقتصادية كمناشدته بتعزيز الشفافية في عمليات المؤسستين وبأن تكون علاقاتهما منصفة وعادلة وغير تمييزية بين الدول الغنية والفقيرة وأيدت المجموعة اجمالا زيادة الحصص التي كانت محتكرة لدى الدول الغنية والناتجة عنها وجود القوة التصويتية لديها, كما دعت الى اعادة النظر في اصوات الدول الاعضاء في صندوق النقد الدولي بغية ضمان سماع اصوات الدول الاصغر في العالم, ودعمت فكرة تخصيص حقوق السحب الخاصة وفكرة توسيع مدى الاقراض الذي يقدمه الصندوق والبنك الدوليين, الا ان البيان الختامي لهذه المجموعة تضمن دعوات سلبية صادرة عن دول نامية فبدلا من ان تعطي مواطنيها الحقوق الناقصة طالبت باهمالها تحت تبرير ان هذه الشروط السياسية غير الجمركية من شأنها ان تعرقل التبادل التجاري الدولي وان تلحق ضرراً بالتنمية الاقتصادية في الدول النامية, وكأن لسان حالهم يقول ان هناك تعارضاً بين التنمية الاقتصادية وبين وجود حقوق ضامنة للعمالة وتشغيل الاطفال وتوفير حقوق الانسان الاخرى, وهذه الدعوة تريد الايهام بأن هناك تعارضاً بين سياسات الحرية الاقتصادية وشروط الحكومة الصالحة. ان الحرية الاقتصادية ومنها برامج التخصيص تعني عدم وجود مراعاة تلك الآثار السلبية التي تفرزها سياسات اعادة هيكلة الاقتصاد وتطبيق برامج المؤسستين وأهمها تراجع فرص التشغيل وبالتالي زيادة البطالة (على الاقل في المدى المتوسط) وزيادة اعباء المعيشة على طبقات اجتماعية محدودة الدخل وما ينتج عن ذلك من حالات عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي, ولهذا فوجود سياسات تهدف الى ازالة او التقليل من الاثار السلبية هي مسألة ضرورية ومهمة ولابد من ادخالها برغبة وقناعة ذاتية قبل ان تكون مفروضة من الخارج, ومن واقع التجارب العالمية للدول التي نفذت سياسات اعادة الهيكلة دون مراعاة لتنفيذ مرجعية الحكومة الصالحة وغيرها من السياسات الرامية الى مراعاة الجوانب الاجتماعية والسياسية قد اكدت على أهمية وضرورة مثل هذه المرجعيات التي تهدف الى خلق حالة من الوحدة والتماسك الوطني والتآلف والاتفاق العام بين جميع فئات وطبقات المجتمع والمشاركة الفعلية بتحمل تضحيات الاصلاح الاقتصادي. وهو ما يخدم نجاح سياسات التنمية بدلا من اهمال هذه المرجعية التي أدت نتيجة لهذا الاهمال الى نتائج اجتماعية وسياسية وخيمة وبالتالي الى فشل سياسات الاصلاح الاقتصادي وعدم تمكن هذه الدول من تصحيح ليس فقط في ميزان مدفوعاتها بل ايضا من التخفيف من ازماتها الاقتصادية الاخرى. ان هذا لا يعني مصداقية ممارسات الصندوق والبنك الدوليين وحتى منظمة التجارة العالمية التي تحاول ادراج الحقوق الاساسية للعمال ضمن شروط التجارة الدولية, فازدواجية معاييرهم واضحة وتعاملهم مع كل دولة من الدول النامية وعلى حسب مصالح وسياسات الدول الصناعية المتقدمة وعدم اقدامهم على الضغط على الدول المتقدمة التي تعاني من عجز كبير وتضخم ومشاكل اقتصادية اخرى, الا ان هذا الامر الواضح لا يدعو الدول النامية الى الغاء هذه المرجعيات بدلا من ان تدعو وتعمل على تصحيح اوضاعها الاجتماعية والعمالية والسياسية بما يتلاءم والمفاهيم الحقوقية المطلوبة من جانب وبما يخدم التنمية الاقتصادية في بلدانها من جانب آخر. ان معرفة نتائج سياسات اعادة الهيكلة تحتم علينا كدول نامية التفكير في هذه المرجعيات غير الاقتصادية, ففي اطار عملية اعادة تخصيص الموارد ومنها سياسات التخصيص فان التوجه الانكماشي في المرحلة الاولى منها يكون هو سيد الموقف, فالتحكم في الطلب الكلي ومن ثم في فرص التشغيل واهمال متعمد لعنصر العمل والتخفيف من عبء الاجور والرواتب بخفضها المباشر او خفض القيمة الحقيقية لها او زيادة عرض قوة العمل وبالتالي زيادة معدلات البطالة, وكل ذلك من اجل التخفيف من عجز الميزانيات العامة, ان كل ذلك له آثاره السلبية ليس فقط على القوى العاملة بل ان هذه الآثار تمتد لتصيب قطاعات حساسة في المجتمع, كالتعليم والتدريب والتأمينات الاجتماعية والسكان والخدمات الاجتماعية, كما ان فئة الشباب وحملة المؤهلات وكذلك المرأة سوف يدفعون ثمنا اعلى, وكذلك فئة العاملين في القطاع العام التي سوف تكون هدفا للاستغناء من جراء سياسات التخصيص او تجميد الاجور والرواتب, وفي مثل هذه الظروف فانه يتوقع ان يتضخم القطاع غير المنظم وتزداد مشاكله وقد كانت هذه احدى النتائج البارزة لبرامج التصحيح في القارة الافريقية (للمزيد من المعلومات انظر اصدارات منظمة العمل العربية حول برامج الاصلاح الاقتصادي واعادة الهيكلة وانعكاساتها على مسائل العمل). ان الاهتمام بمرجعية الحكم الصالح وحقوق الانسان والحريات وتقوية المنظمات النقابية ومؤسسات المجتمع المدني ووجود سلطة تشريعية ذات صلاحيات وسلطة قضائية مستقلة وسلطة رابعة تقوي الرأي العام, بجانب مرجعيات وسياسات الحرية الاقتصادية وخلق التناغم والتوافق والتكامل بينهما هو الطريق الامثل لنجاح التنمية واستمراريتها (التنمية المستدامة), وبهذا يمكن القول ان الانسان الذي يعتبر وسيلة للتنمية هو ذاته هدف وغاية هذه التنمية قد اعطى له اعتباره وحقوقه مثلما حددت له واجباته. * كاتب بحريني