بيان الاربعاء : لم تكن سوريا لتبدأ علاقاتها الجديدة في عهدها الجديد مع تركيا بالخلاف مع اسرائيل, فوفق مصادر التقت بنائب الرئيس السوري في انقرة, ذكر خدام ان سوريا لا تريد البدء من القضايا السلبية, بل ينبغي البدء بالايجابيات ثم تنطلق منها دمشق الى السلبيات بشكل خاص. والواقع ان زيارة خدام رغم انها مرتبة منذ وقت وتخضع لجدول ترتيب اللقاءات بموجب لجان شكلت لصياغة اعلان المبادىء, جاءت في ظرف مهم لسوريا وتركيا, وهي خطوة تحسب لدمشق في طريق اصلاح اوضاعها بالمنطقة لمواجهة التحدي الاسرائيلي, فلا يجوز ان تبقى جبهاتها مفتوحة على الجميع. اللقاء السوري التركي في انقره الذي سبقه زيارة وفد تركي لسوريا في مارس لهذا العام يمهد لاغلاق ملفات ساخنة ظلت مفتوحة بين البلدين مع تعقيدات الحلول والاوضاع في المنطقة. فما هي الملفات الساخنة وكيف توصل الطرفان الى حلها؟ يمكن اجمال الملفات الساخنة بين تركيا وسوريا بسبعة على الاقل مازالت تشكل قضايا مهمة وعالقة منذ انفصال سوريا عن الدولة العثمانية وهي بلا ترتيب: 1 ـ ملف لواء الاسكندرونة. 2 ـ ملف المياه (الفرات, دجله, العاصي, مشروع غابة الاناضول). 3 ــ الملف الامني (حزب العمال الكردستاني). 4 ـ ملف ضريح سليمان شاه (وهو احد اجداد العثمانيين ويعتبر ضريحه مسمار جحا التركي ــ في الاراضي السورية, فقد كان سليمان شاه قد غرق مع ابنه اثناء نزهة على الفرات قرب احدى القلاع السورية القديمة في القرن الخامس عشر ونقل الجثمان في السبعينيات بعد تعرضه لخطر الغرق بمياه بحيرة الاسد الى الحدود السورية ــ التركية, واصرت تركيا حينها على ابقائه بالاراضي السورية وتقوم حتى الآن سرية عسكرية تركيا بحمايته. 5 ــ ملف التهريب والتجارة (ويبلغ حجم التجارة غير المشروعة بين الطرفين اكثر من 500 مليون دولار سنويا). 6 ـ ملف الموقف من القضية القبرصية واليونان. 7 ـ ملف الحلف مع اسرائيل. ويبدو ان سوريا في الوقت الراهن وفي اطار نظرتها الجديدة للعلاقات الاقليمية قد ارتضت مؤقتا تجميد ملف الاسكندرونة مقابل ملف المياه. الاسكندرونه والمياه في أواخر العهد العثماني عانت العلاقات السورية ـ التركية من فتور, ورغم انه كان يمتد الى مراحل موغلة في تاريخ المنطقة, الا انه بدا واضحا في مرحلة التصادم العربي التركي, فقد اتسمت بلاد الشام بحساسيات خاصة نتيجة سياسة البطش التي اتبعها ولاة العثمانيين خلال سنوات الحرب العالمية الاولى. خلفت تلك الممارسات ترسبات عميقة في نفوس الشعبين التركي والسوري وجدت ما يغذيها في الملابسات التي احاطت بعملية تشكل الدول الحديثة في المنطقة على انقاض الامبراطورية العثمانية التي تفككت في نهاية الحرب. ولواء الاسكندرونة واحد من هذه المشاكل, فقد سلخته تركيا من الاراضي السورية في عهد الانتداب الفرنسي, وفي ظروف الاصطفاف الاقليمي لدول المنطقة ضمن اطر النظام الدولي الذي نشأ في اعقاب الحرب العالمية الثانية وجدت حالة التنافر بين البلدين ما يغذيها. شكلت العلاقة المميزة بين سوريا والاتحاد السوفييتي منذ منتصف الخمسينيات عامل ضغط لحجم الطموحات الاقليمية التركية وحد من قدراتها على الاستفادة من مزية انخراطها ضمن معسكر الحلف الاطلسي المناهض للنظام الشيوعي, مقابل ذلك جاء الاعتراف التركي باسرائيل عام 1949 ليزيد عمق الخلافات بينهما واصرار سوريا على انتزاع حقوقها من دولة كانت تعدها محتلة تشيد حليفتها اسرائيل. وبسبب هذا الاصرار السوري لعبت تركيا دورا في الترويج لمشاريع الاحلاف الغربية التي طرحت في المنطقة خلال مرحلة الخمسينيات وعارضتها سوريا بحماسة كبيرة وهو ما وضع البلدين في مواجهة سياسية كادت ان تتحول الى صدام عسكري واسع لعب هاجسه دورا اساسيا وفق مصادر كثيرة في تشريع اعلان الوحدة المصرية ـ السورية عام 1958. اما تقسيم المياه, فان الخلافات التي اشرنا اليها اسهمت في تعميق تفاعلات الازمة المفتوحة التي سيطرت على مسيرة العلاقات السورية ـ التركية خلال العقدين الماضيين. ويذكر باحثون ان هذه الخلافات نجمت بشكل اساسي عن لجوء تركيا الى محاولة استخدام مياه دجلة والفرات اللذين ينبعان من اراضيها ويشكلان عصب المياه في كل من سوريا والعراق, وتوظيفها كورقة ضغط في معركة التنافس التي تدور منذ ذلك الوقت بين الدول الثلاث. والتنافس بين البلدان الثلاثة بهدف الاستحواذ على مركز فاعل ضمن النظام الاقليمي القائم في المنطقة وقد بات معروفا ان الجانبين السوري والعراقي بذلا محاولات عديدة لتوقيع اتفاق نهائي بين الدول الثلاث حول تقاسم المياه. وتذكر الوثائق والمصادر ان رئيس الوزراء التركي آنذاك توركوت أوزال توصل عام 1987 الى توقيع بروتوكول اولي, وافقت تركيا بموجبه على ضمان تدفق مياه نهر الفرات نحو الاراضي السورية بمعدل 500 متر مكعب في الثانية, لكن هذا الاتفاق تعرض لاختراقات كثيرة من جانب تركيا اعلن المسئولون فيها لاكثر من مرة ان هذا البروتوكول هو اتفاق مؤقت وليس تعهدا ملزما. زاد الوضع تعقيدا بدء تركيا بتنفيذ مشروع (غابة الاناضول) الذي يقضي باقامة 17 سدا على نهر الفرات و 4 سدود على نهر دجلة اضافة الى 19 محطة لتوليد الطاقة الكهربائية وهو يهدد بحدوث انخفاض كبير في تدفق مياه نهري دجلة والفرات نحو الاراضي السورية والعراقية, وتعطيل قسم هام من مشاريع الري والطاقة في البلدين اضافة الى اضرار بيئية اخرى يمكن ان تصيب الاراضي الزراعية فيهما بالملوحة والتلوث. اوجلان وقبرص والمياه الملوثة عمدت الحكومات التركية خلال العقدين الماضيين الى تبرير سياستها العدائية تجاه سوريا عبر اصرارها على تحميل سوريا مسئولية العمليات المسلحة التي قام بها حزب العمال الكردستاني في مناطق جنوب شرق الاناضول. فالحزب كان يطمح وينادي باقامة دولة كردية مستقلة, وقد اوشك هذا الموضوع ان يثير صداما مسلحا بين تركيا وسوريا في اعقاب ازمة عاصفة اسفرت عن اخراج عبدالله اوجلان من سوريا عام 1998 وما اعقبها من تطورات انتهت بتمكن الحكومة التركية من القاء القبض على اوجلان بعد اختطافه من مقر السفارة اليونانية في كينيا. لقد ادركت سوريا انه لا موجب لفتح ثغرة في جدار امنها مع تركيا وهناك اخرى مثلها في الجولان مع اسرائيل, ففضلت اغلاقها بدبلوماسية كبيرة وحسبت لها وحسمت امرا طالما اقلق حدودها مع تركيا. اما بخصوص القضية القبرصية, فقد بقيت تركيا تنظر بشكل غاضب لعلاقات سوريا الطيبة مع مصر واليونان وقبرص, ويرى المحللون انه لا يعقل ان تكون سوريا مع تركيا في نزاعها مع اليونان والاخيرتين عضوين في الناتو, خاصة وان تركيا تحتل اراضي سورية وتقطع عنها المياه وتهددها باهم مصدر مائي وشريان حيوي وهو نهر الفرات الذي يوفر 70% من احتياجات سوريا المائية. وتذكر دراسات متعددة ان تركيا ادخلت الى حلبة نزاعها مع سوريا كل ما من شأنه ان يعهد لتفجير الصراع بدءا بالمياه, ثم اتهامها بايواء الثوار الاكراد وادعائها بتوقيع اتفاق عسكري مع اليونان, وكان آخرها توقيع الاتفاقيات الثنائية مع اسرائيل واجراء مناورات عسكرية على الحدود السورية لاثارة استفزاز دمشق. عمدت تركيا اضافة لكل ما تقدم بتسريب مياه ملوثة لنهر الفرات مما زاد من ملوحته واحتوائه على مواد ضارة تتشرب بها الاراضي السورية, وهو امر اكدت سوريا انه متعمد للاضرار بزراعتها وحياة سكانها بمشورة اسرائيلية فالمعروف ان اسرائيل تستخدم هذا النوع من الحروب. ورغم ان سوريا عمدت الى معالجة مشكلة المياه للخطورة المدمرة التي تسوقها تركيا للمشاريع الزراعية والاروائية السورية عبر هذا التلوث الا ان الامر لم يعد يحتمل مما دفعها الى البحث عن بدائل لحل هذه المشكلة ربما كان اهمها تجميد ملف الاسكندرونة مؤقتا مقابل المياه كما اسلفنا. ولابد بعد هذا من الاشارة الى ان مساحة تركيا تبلغ 780 الف كيلومتر مربع وعدد سكانها 60 مليون نسمة وناتجها القومي 153 مليار دولار سنويا اما ميزانية دفاعها فتبلغ 7.5 مليارات دولار وفق احصائية 1996. بينما تبلغ مساحة سوريا 186 الف كيلو متر مربع وعدد سكانها 14 مليون نسمة وناتجها القومي 30 مليار دولار سنويا وميزانيتها الدفاعية 8.1 مليار دولار وفق احصاء 1996. وثيقة التفاهم في الزيارة الاخيرة لخدام الى انقره لم يتم التوقيع كما هو معروف على اي وثيقة, لكن الاتفاق تم بين الطرفين على ان يوقع الوزيران التركي والسوري قبل نهاية هذا الشهر على ما يسمى باعلان المبادىء. الاعلان عن الاتفاق على وثيقة اعلان المبادىء كان يسبقه ابداء حسن نية سوري فيما يتعلق باتفاق اضنه في 21 اكتوبر عام 1998 والذي اعلنت بموجبه سوريا عن ايقاف كل انواع الدعم لحزب العمال الكردساتي, وهو امر اعلنت تركيا ان سوريا التزمت به. وكان احد شروط تركيا للتفاهم هو ايقاف كل اشكال الدعم اذ كان مسئوليها قد صرحوا: (لن نبدأ اي اتفاق مع سوريا الا بعد اغلاق الملف الامني). وهو ما تم الاعلان عن اغلاقه بزيارة خدام الاخيرة. وثيقة الاعلان هي في واقع الامر مذكرة عرضت على سوريا قبل اكثر من ثلاثة اشهر لتناقشها وتبدي الرأي بشأنها وتضع عليها شروطها او رؤيتها, لكن اهم مافي المذكرة هو مدخلها الذي يؤكد ان يعلن الطرفان تركيا وسوريا احترامهما للحدود الدولية. وهذا المضمون يعني ان تعترف سوريا رسميا بالحدود الدولية. بمعنى ان الاسكندرونة ضمن حدود تركيا وهو يغلق نهائيا ملف المطالبة بالميناء التاريخي. وكانت سوريا قد تهربت من هذا الموضوع عندما حضر الرئيس التركي احمد سيزار في تشييع الرئيس الراحل حافظ الاسد لكن حضور الرئيس التركي كان له اثر كبير في نفوس السوريين وعده المحللون نوعا من الانفراج في نظرة سوريا خاصة بخروج اشارات تركية الى قرب حصول تفاهم والغاء خلافات الماضي. والاتفاق الجديد او الاتفاق الذي يراد له ان يكون شاملا سيوفر لسوريا مقابل اغلاق ملف الاسكندرونة 650 مترا مكعبا في الثانية من المياه وهو اكثر ما كان بروتوكول 1987 قد وعد به (500 متر مكعب في الثانية) الذي وقعها اوزال في حينه .. وبالطبع فانه حسب الاتفاقيات المعقودة فان سوريا تستخدم 40% من هذه المياه وتوفر للعراق 60% منها الامر الذي يسبب انفراجا للبلدين العربيين المتضررين من السياسات السابقة لتركيا. وتجدر الاشارة الى ان مذكرة التفاهم السورية ـ التركية ستكون مذكرة او اتفاقية ثلاثية الاطراف بمعنى (سورية تركية عراقية) فلا موجب لاتفاق ثنائي دون الطرف الثالث لان المصالح مرتبطة ومتشابكة. وفيما يتعلق بالتلوث المائي الذي تتهم سوريا تركيا بممارسته فقد سبق ان اتفق الطرفان في لقاءات سابقة على انتشار لجان فنية مشتركة لمراقبة هذا التلوث ورصده ليتم اقراره ثم معالجته بحيث لا تبقى هناك شوائب تلوث الاتفاق بينهما. وتتطرق المعاهدة ايضا كما يرى المراقبون الى التجارة غير المشروعة وقد ذكر ان خدام اتفق مع المسئولين الاتراك ان يتم بعد التوقيع تشكيل لجان لوضع ارضية لتنفيذ هذه المعاهدة الشاملة والراقية التي ستتعلق بـ (الجمارك, الازدواجية الضريبية, فتح بوابات الحدود, تسهيل التجارة, التعاون السياحي, الرياضة, شئون السياسة, والاقتصاد), بمعنى اتفاقية شاملة واستراتيجية وهو امر تم الاتفاق عليه في كل اللقاءات السابقة التي تمت. وبالنسبة لقضية قبرص فان سوريا لديها نظرة جديدة بما يخص القضايا الاقليمية, فهي ترى ان اليونان تتعاون مع اسرائيل وان جنوب قبرص اصبح مرتعا خصبا للموساد الاسرائيلي, فلماذا تحترم سوريا نزاع اليونانيين على استقلال القبارصة, وهكذا تولدت فكرة ان يدعوا الشعب القبرصي يقرر مصيره دون تدخل او دعم قد لا يجر على سوريا سوى الاذى. نصل بعد هذا الى ان الاتفاق المتوقع توقيعه نهاية هذا العام او مطلع العام المقبل بزيارة الرئيس السوري بشار الاسد تلبية لدعوة (تركية) هو اتفاق استراتيجي ايجابي يضع المنطقة في مناخ الاستقرار السياسي والامني والمائي اضافة للاستقرار الاقتصادي والامني, واذا صدقت تركيا في تطلعها للاتفاق مع سوريا دون ان تسقط في فخ اسرائيل قد تفلح في استعادة علاقاتها بالعرب, وقد تفلح في استعادة دورها الاقليمي, ورغم ان الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن, فقد يكون الامر معكوسا وتحقق تركيا اخيرا استقرارها واستقرار المنطقة انه اتفاق معلق بخيط رفيع يشبه شعرة معاوية فهل تبقى سوريا عليها؟