الملف السياسي : فى الاحتفال الذى استضافته العاصمة الجزائرية مؤخرا للتوقيع على اتفاق السلام الشامل بين اريتريا واثيوبيا, دعا الرئيس الاريترى أسياسي أفورقى شعبى البلدين الى الابتهاج بهذا الاتفاق الذى ينهى قتالا ضاريا استمر عامين ونصف العام. لكن الرئيس أفورقى الذى بدا خطابه متفائلا لم يشر الى كيفية دفع شعبى البلدين اللذين خاضا أشرس حرب حدودية شهدتها القارة السوداء وراح ضحيتها مئات الالاف, الى طى صفحة الالام المضنية, ومانجم عنها من مآس انسانية, ليعيشوا لحظة البهجة! فعلى الرغم من المشاهد التى نقلتها الفضائيات والتى علت فيها الابتسامات وجهى الخصمين اللدودين ميليس زيناوى رئيس وزراء اثيوبيا, واسياسي أفورقى رئيس دولة اريتريا, ووجوه الضيوف الشهود على الاتفاق, الا أن ملابسات الواقع تؤكد ان سلاما نهائيا بين دولتين كأثيوبيا وأريتريا يبدو مستبعدا, حتى وان كان المداد الذى وقعت به الاتفاقية قد باركته الولايات المتحدة والأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الافريقية. ولعل ماأعلنه ميليس زيناوى بنفسه عشية توقيع الاتفاق, من انه لايمكن تصور قيام علاقة حسن جوار أو توقعها فى ظل الحكومة الحالية فى اريتريا واعادة تأكيده بوضوح انه لابد من حدوث تغييرات كبيرة للوضع فى اريتريا, وان توقيع اتفاق الجزائر ليس يعنى بالضرورة تطبيع العلاقات هذه التصريحات تشير الى ان العداء كامن, وان جذوة الصراع وان توارت قليلا, الا ان أقل هبوب لرياح عابرة يمكن ان تجعلها تستعر مرة أخرى, معرضة منطقة القرن الافريقى من الهدوء الى دمار شاسع. ثمة حقائق لايمكن تجاهلها عند استعراض الوضع المعقد فى القرن الافريقى, والذى ازداد تعقيدا بعد اندلاع القتال بين أثيوبيا واريتريا, أول تلك الحقائق, ان هذا الصراع الذى تم بمثل هذا العنف, بين حليفين, شاركا معا فى الاطاحة بنظام الكولونيل منغستو هايلى ماريام الذى حكم أديس أبابا عقب التخلص من الامبراطور هيلاسلاسى, من غير الممكن اهالة التراب على اسبابه مرة واحدة, دون الأخذ بالاعتبار سنوات طويلة منذ العداء المستعر بين الشعبين, حتى وان كان الطرفان الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا بقيادة أسياسى أفورقى و جبهة تحرير اقليم التيغراى التى قادها ولا يزال ميليس زيناوى قد تحالفا معا لاسقاط هايلى ماريام, على الرغم من ان هناك فارقا شاسعا بين الطرح النهائى لكلتا الجبهتين, فبينما كان هدف الجبهة التى قادها أفورقى هو استقلال اريتريا بعيدا عن السيطرة الاثيوبية, فان الهدف الذي كانت أعلنته جبهة زيناوى لم يزد عن تحرير اقليم التيغراى الاثيوبى الذى تقطنه أقلية من السكان ينتمون الى تلك القومية الصغيرة التى تشكل الى جانب قوميات أخرى اكبر مايطلق عليه بالفسيفساء الأثيوبية. لكن الانهيار المفاجىء لنظام منغستو الماركسى الذى جاء فى أعقاب تفتت الاتحاد السوفييتي السابق, أعطى أفورقى وزيناوى فرصتهما التاريخية, وقد انتهزها زيناوى الذى كان يمتلك تنظيما قويا وكوادر مدربة تدريبا عاليا ساهم فى تأهيلها الاريتريون أنفسهم الذين كانت لديهم مراكز تدريبية ذات مستوى عال وخبرة قتالية اكتسبوها خلال 30 عاما من القتال ضد النفوذ الاثيوبى الذى فرض على بلادهم والذى ألحقها تماما بالمظلة الامبراطورية لهيلاسلاسى ومن بعده نظام هايلى ماريام العسكرى. عندما خرج الحليفان منتصرين اثر السقوط الذريع للنظام الماركسى, جاء وقت اقتسام الغنائم, وهو الامر الذى استطاع أفورقى معه بحنكة من انتزاع ميناء عصب من السيطرة الاثيوبية, وقد وافق زيناوى وجبهته الصاعدة توا الى السلطة على التنازل عن هذا الميناء المهم للغاية لبلده الى جانب ميناء مصوع, وهو الامر الذى حرم أثيوبيا من أى اطلالة على البحر, لتصبح منذ استقلال اريتريا دولة مغلقة, لكن اتفاق التنازل عن الميناءين كان مرتبطا بموافقة اريترية على السماح لأديس أبابا باستخدامهما, مقابل تحصيل أسمرة للعائدات الجمركية التى لم تزد فى معظم الأحوال عن 5.1 فى المئة, وقد ألغيت تماما فيما بعد الأمر الذي ساهم فى تشكيل الغضب الأريترى ثم العداء فالحرب. ولعل قبول زيناوى عودة الميناءين للسيطرة الاريترية, وقبول منح اريتريا الاستقلال, بالاضافة الى قيام أسمرة باصدار عملة نقدية خاصة بها, وفك الارتباط بالعملة الاثيوبية البر كان كل ذلك وراء اشعال تلك الجولات الثلاث من الحرب الدموية الشرسة التى شهدتها منطقة القرن الافريقى خلال السنتين ونصف, والتى اشتعلت معها الجبهة الاريترية الاثيوبية الممتدة نحو 1200 كيلو متر اعتبارا من شهر مايو عام ,1998 الى ان نجحت وساطة جزائرية دؤوبة فى التمهيد لتوصل الطرفين الى اتفاق هدنة, وهو الاتفاق الذى تم التوقيع النهائى عليه فى الثانى عشر من الشهر الجارى. مايدفع المراقب لمجريات الصراع فى منطقة القرن الافريقى الى الاعتقاد بان العوامل المسببة لاندلاع النزاع مرة أخرى ما زالت كامنة, هو ان الاتفاق الاخير لم يحسم عدة قضايا معلقة على الرغم من ان هذا الاتفاق قد شهد تنازلا من كلا الطرفين فى نقطتين اعتبرتا جوهريتين وشديدتى الحساسية, اذا اثيوبيا مثلا وافقت على ان يكون ترسيم الحدود بين البلدين وفقا لتلك الحدود الموروثة من عهد الاستعمار, وهو فى الاساس مطلب اريتري ظلت أسمرة تنادى به دون أن تجد أذانا صاغية من أديس أبابا, التى كان مطلبها هو اللجوء الى التحكيم الدولى مخالفة بذلك قرارا كان قد اتخذته منظمة الوحدة الافريقية ودعت بموجبه الى عدم المساس بالحدود التى تركها الاستعمار عند رحيله عن القارة السوداء. ولكن فى المقابل فان اتفاقية الجزائر التى ارتضاها الطرفان قد أجبرت اريتريا على اقتطاع مساحة تصل الى 25 كيلو مترا من عمق أراضيها لاقامة منطقة أمنية بين البلدين تتمركز فيها قوة دولية يصل عدد أفرادها الى 4200 جندى بدأت طلائعها بالفعل بالوصول الى أسمرة قبل نحو شهرين, على ان تسحب اثيوبيا قواتها الى الأماكن التى كانت فيها قبل مايو 1998 وهو الشهر الذى اندلع فيه القتال. غير النقطة الشائكة الاخرى التى يمكن ان تكون اريتريا قد قبلت بها على مضض, أو على حد قول رئيس الحكومة الاثيوبية ميليس زيناوى بسبب هزيمتها الساحقة هى المتعلقة بالبند الداعى الى ضرورة البحث فى أسباب النزاع والتحرى فى حوادث وقعت فى السادس من مايو 1998 ويوليو وأغسطس ,1997 وهذا البند تحديدا يحمل فى طياته ادانة الى الطرف الاريترى الذى كان البادىء فى الحرب والذى قام باحتلال مناطق واسعة من المناطق الحدودية الاثيوبية, قبل ان تتمكن القوات الاثيوبية من شن هجمات شرسة فى عام 2000 استطاعت بموجبها انتزاع تلك الاراضى, ثم التوغل فى عمق الاراضى الاريترية, واحتلال بعضها وتشريد سكانها. لكن البند المثير حقا هو ذلك المتعلق بالتعويضات, فالاتفاق يدعو الى البحث فى شأن الاضرار الناجمة عن النزاع الحدودى على الافراد والمدن والمؤسسات التى أصابها الدمار بسبب الحرب, محددا مدة ثلاث سنوات كحد أقصى لانجاز أعمال التعويضات, فيما حدد فترة ستة أشهر لمفوضية ترسيم الحدود لانجاز عملية الترسيم منذ أول اجتماع لها على ان تباشر المفوضية أعمالها بعد 15 يوما من تاريخ تشكيلها, والحديث عن التعويضات فى ظل خروج البلدين من جولات حربهما الثلاث منهكين, قد يكون كلاما للاستهلاك فقط, خاصة وان نحو ثلث سكان اريتريا البالغ عددهم نحو ثلاثة ملايين وثمانمئة ألف انسان يعانون بشدة من المجاعة وتستنجد اريتريا بالعالم بين فترة واخرى من أجل مد يد العون لانقاذ هؤلاء من موت محدق, وعلى الجانب الاثيوبى يبدو حجم المعاناة أكبر, اذ ان مالايقل عن عشرة ملايين انسان تكاد المجاعة والحروب تفتك بهم, من بين 58 مليون نسمة يشكلون عدد سكان البلاد ولدرجة تشير معها الانباء التى تخرج من تلك المنطقة الى ان 15 شخصا يسقطون فى اليوم الواحد ضحية للجوع, الامر الذى تصبح معه المطالبة بالتعويضات ضربا من اضاعة الوقت, فى ظل الموارد الشحيحة للبلدين والتى لم تعد تكفى أصلا حاجة شعبيهما. ان مسالة التعويضات ستظل فى كل الاحوال أشبه بقنبلة موقوتة, يمكن ان تتسبب ثانية فى اعادة تفجر الاوضاع, فيما تظل مسألة أخرى هى الخاصة بتوطين اللاجئين عاملا شديد الخطورة فى ظل اتهامات اثيوبية لاريتريا بقتل ابنائها ووضعهم فى معسكرات اعتقال وتجنيدهم اجباريا. الامر الآخر المثير للقلق فى كلا البلدين يتعلق بالوضع الداخلى, ففى أجواء الحرب تترك الفرق المتصارعة فى تلك البلاد التى تضم العديد من الاثنيات خلافاتها مع النظام الحاكم ولو بشكل مؤقت, انتظارا لحسم المعركة الخارجية, ولعل هذا الامر ينطبق تماما على الحالة الاثيوبية وكذلك الحالة الاريترية, فاثيوبيا التى تتشكل من العديد من الاثنيات, يعتبر العديد من مثقفيها ان أقلية التيغراى انتزعت الحكم وانفردت به, مهمشة كافة القوى الاخرى, وهو بالتحديد ماأصبحت تقول به قوميتا الأمهرا والاورومو وهما القبيلتان اللتان حكمتا اثيوبيا بشكل تقليدى, قبل ان ينتزع الحكم منهما زيناوى وقبيلته التى تمثل وفقا للاحصاءات الاثيوبية أقلية الأقلية, وتصعد القوميتان هذه الأيام حملتهما على التيغراى متهمين النظام الحاكم لزيناوى بانه ارتكب جريمة لاتغتفر, عندما وافق على التنازل عن ميناء عصب لارتريا, تاركا أثيوبيا دون منفذ يطل على البحر الاحمر, بل ان جريمته الكبرى - وفقا للأورومو - هى فى ترك اريتريا تحصل على استقلالها, فى عام 1993. الى جانب ما تثيره القوميات الاخرى حول قيام النظام الاثيوبى الحاكم بتوجيه موارد البلاد لتنمية اقليم التيغراى الذى ينتمى اليه زيناوى والطاقم الذى يساعده فى الحكم, لدرجة ان هذا الاقليم الذى كانت تضربه المجاعة كل عام قبل وصول زيناوى الى الحكم, لم تعد تزوره تلك المجاعة أبدا, فى الوقت الذى انتقلت فيه الى مناطق أخرى, كانت افضل حالا, فأصابتها المعاناة. نفس الوضع ينطبق على اريتريا, التى يواجه فيها النظام الحاكم برئاسة أفورقى, معارضة منظمة تحتضنها السودان وأثيوبيا, فيما تشهد البلاد حالة تململ فى ظل تدهور الاوضاع الاقتصادية, وضيق مساحة الحريات العامة وسط تساؤلات عن الحالة التى وصلت اليها اريتريا التى لم يزد عمر استقلالها وتشكيل كيانها كدولة عن سبع سنوات خاضت خلالها حروبا مع كل جيرانها بدءا من المناوشات المحدودة كما حدث مع جيبوتى والسودان الى الحرب الشاملة كما حدث اخيرا بينها واثيوبيا, وفى ظل توقع مايمكن ان ينجم عن عودة نحو ربع المليون جندى الذين قامت اريتريا بنشرهم على حدودها مع اثيوبيا الى الحياة المدنية بعد توقيع الاتفاق, وعدم وجود أية امكانيات لاستيعاب هؤلاء فى أعمال مدنية, فان الامر قد يشكل عامل ضغط هائل على النظام الحاكم فى أسمرة. واذا كانت الضغوط الداخلية قد تدفع الحكومات فى مناطق عديدة من العالم الثالث الى السعى لنقل مشكلاتها الى خارج أراضيها, والى البحث عن عدو لتحميله وزر أخطاء تلك الحكومات والانظمة, فان المؤشرات تدفع الى الاعتقاد بان اتفاق الجزائر رغم الابتسامات العريضة التى صاحبته, يخفى فى طياته عوامل لادامة عدم الاستقرار وليس العكس, وانه بذلك قد أخفى فى التربة بذور العنف, مانعا لفترة مؤقتة مياه الرى من انباته, دون أن يكون قد سعى لاقتلاعها, مما يعنى ان جولات جديدة من القتال يمكن ان تندلع, و هذا ماعناه ميليس زيناوى بالتحديد حين قال ان اريتريا قبلت مرغمة بالاتفاق, كى تسترد انفاسها ثم تثأر من جديد. ولعل ما قاله زيناوى عشية توجهه الى الجزائر لتوقيع الاتفاق ينطبق ايضا على نظامه, الذى أعلن أكثر من مرة, وعلى لسان زيناوى نفسه, انه يشعر بالندم للسماح لاريتريا بالاستقلال, ولرضوخه لطلب أفورقى الذى ينتمى الى قوميته نفسها التيغراى باقتطاع دولة كانت تشكل منذ قيام الامبراطور هيلاسلاسى بضمها, مجرد اقليم من الاقاليم الاثيوبية.