لم تكن أغنية المطرب الشعبي شعبان عبدالرحيم (أنا بكره اسرائيل) هي فقط المعبرة عن رفض الضمير والوجدان المصري لعدو الأمس، الذي لم تفلح كل اتفاقات السلام في تغيير فكرة راسخة، سواء في أوساط المثقفين والنخبة.. أو الطبقات الدنيا في قاع المجتمع، إنه أيضا عدو اليوم والغد. ثم لماذا تتغير الفكرة وشاشات التلفاز تعرض على مدار الساعة وحشية وهمجية وعنصرية هذا العدو المغتصب؟! واقعة صغيرة أخرى جرت مؤخراً في القاهرة، لكنها شديدة الدلالة على رسوخ الرفض الشعبي للتطبيع مع العدو الاسرائيلي، عندما سرت شائعة بين العامة وبسطاء الناس، الذي يبتاعون احتياجاتهم الشخصية من باعة الأرصفة والأسواق الرخيصة، عن وجود (حزام جلدي) فاخر الشكل والصنعة، ويباع بثمن زهيد، لكنه (صناعة اسرائيلية).. ويحوي مواد مشعة تصيب الرجال الذين يرتدونه بالعقم.. ورغم مبادرة السلطات المعنية لنفي الشائعة، بعد أن قامت هيئة الطاقة الذرية المصرية بفحصه جيدا.. وأثبتت خلوه من أية عناصر مشعة، إلا أن حالة الذعر التي أصابت الناس.. وانفضاضهم السريع عن شراء الحزام الفاخر، بعد الاقبال الشديد عليه في البداية، يعطي مؤشرا جليا عن (عمق) كراهية العدو التي عبر عنها شعبان عبدالرحيم، وتوقع الغدر منه في أية لحظة، حتى ولو كانت هناك معاهدة سلام معه! وهم كوبنهاجن! ولكن.. ماذا عن (النخبة) المصرية، وموقفها من قضية التطبيع؟.. واقعة (شطب) الكاتب المسرحي علي سالم من عضوية اتحاد كتاب مصر، منذ أيام قليلة، كانت مناسبة حقيقية للتعرف على موقف هذه النخبة، التي نشط نفر قليل منها خلال الأعوام الخمسة الماضية يدعون الى ضرورة (تقبل الآخر) الذي يقصدون به هنا (اسرائيل) بالطبع، ويبشرون بوهم العلاقات الطبيعية معه، ويشددون على أهمية الحوار مع (قوى السلام) داخل المجتمع الاسرائيلي.. هذا (النفر) الذي عبر عن نفسه بما يسمى (تحالف كوبنهاجن) علا صوته لدرجة تخيل الكثيرون معها أنهم استطاعوا خلق (رأي عام) مؤيد لمواقفهم، على الأقل في أوساط المثقفين والمهنيين والأكاديميين. لكن حالة (الارتياح الشديد) التي سادت نفس هذه الأوساط، في أعقاب قرار فصل علي سالم أحد أهم وأبرز رموز التطبيع الثقافي مع اسرائيل على الساحة المصرية، كشفت بوضوح شديد عن أن كل محاولات (لوبي كوبنهاجن) إنما كانت مثل (الزبد الذي يذهب جفاء) أو كالحرث في الماء، وأن قاعدة مقاومة التطبيع ما زالت صلبة للغاية، شعبيا ونخبويا. «البيان» سألت رئيس اتحاد كتاب مصر الأديب (فاروق خورشيد) عن مغزى توقيت قرار الفصل، فأوضح أن القرار غير مرتبط بدلالات زمنية محددة.. لكنه جاء تنفيذا لقرار الجمعية العمومية لاتحاد الكتاب التي انعقدت عام 1995 ثم جددته الجمعية العمومية الأخيرة (في شهر مارس الماضي) برفض التطبيع بكافة أشكاله وصوره مع اسرائيل. وأضاف.. مجلس ادارة الاتحاد الحالي، الذي أتت به الانتخابات الأخيرة، غالبيته العظمى معادون للتطبيع.. وأصروا مع أول جلسة للمجلس الجديد في ابريل الماضي على تفعيل هذا القرار، وحولنا أمر علي سالم الى الشئون القانونية بالاتحاد التي بحثت في كتابات (سالم) المؤيدة صراحة للتطبيع، وكذلك زياراته المتكررة للكيان الصهيوني، ورفعت تقريرا بذلك الى مجلس الادارة، الذي اتخذ قرار الشطب. حرية رأي!! علي سالم من جانبه استقبل القرار باستخفاف واضح، وقال لـ «البيان» أن المفارقة هنا تتمثل في أن مجلس ادارة الاتحاد، المنوط به مهمة أساسية هي حماية حق الكتاب من اعضائه في التعبير عن آرائهم وأفكارهم، هو نفسه الذي يفصل عضوا منتميا اليه بسبب آرائه المؤيدة للسلام بين العرب واسرائيل والتي يروج لها علنا في كتاباته، كما يقول، عن إيمان واقتناع. لكن (خورشيد) يرد على هذا الكلام بقوله، أن قرار اتحاد الكتاب لم يدين (سالم) بسبب آرائه أو معتقداته، فهو (حر أن يقول أن يكتب أو يفعل ما يشاء، ولكن خارج الاتحاد). موضحا أن قرار الشطب جاء بسبب إصرار علي سالم على مخالفة اجماع كتاب وأدباء مصر، وقرارات جمعياتهم العمومية، لكنه لا يعني أن هناك أي قيود على حريته أو نشاطه الابداعي. وأكد رئيس الاتحاد أن العدول عن هذا القرار مرهون بتقديم سالم لاعتذار واضح، وضمانات وتعهدات كافية بعدم مخالفة قرارات الجمعية العمومية. نائب رئيس اتحاد الكتاب المؤلف المسرحي والروائي محمد السيد عيد كان أكثر وضوحا وتحديدا، عندما أكد أن مجلس الادارة الحالي أخذ على عاتقه الوقوف بحزم ضد محاولات بعض الأعضاء للتطبيع الأدبي والثقافي مع اسرائيل، سواء بزيارتها، أو اللقاء مع أدباء وكتاب من الكيان الصهيوني، أو الترخيص لدور نشر اسرائيلية بترجمة أعمال ابداعية مصرية. ويضيف: قمنا بعمل مراجعة لمواقف المطبعين، وتبين لنا أن مجلس الادارة السابق أرسل انذارات واستفسارات لمن تحوم حولهم الشبهات، وهؤلاء جميعا قاموا بالرد والايضاح لمجلس الادارة . أما علي سالم فهو الوحيد الذي لم يرد.. ولم يحضر للتحقيق معه، اضافة لكتابه عن زياراته لاسرائيل.. ومقالاته المنشورة التي ينادي فيها بالتطبيع، فاتخذنا قرارانا بشطبه.. ليكون مؤشرا ونذيرا لكل من يفكر في خرق قرارات الجمعية العمومية. وأكد عيد على ارتباط وثيق بين القرار وما يجري على أرض فلسطين، من قمع وحشي اسرائيلي لانتفاضة شعب أعزل يقاوم الاحتلال.. ويناضل ويقدم الشهداء لاستعادة حقوقه وأرضه، وقال: (في ظل الذي يحدث، يجب ألا يكون هناك تهاون مع المطبعين). الروائي المعروف ابراهيم عبدالمجيد أثنى كثيرا على قرار مجلس ادارة اتحاد الكتاب، وهو كان عضوا سابقا فيه، مؤكدا أن هذا القرار تأخر كثيرا، وهو صحيح، ولا غبار عليه، لأنه يأتي منسجما مع قرارات الجمعية العمومية للاتحاد لكنه كما قال كان يفضل أن يسبقه تحقيق مع العضو المشطوب، كذلك يحتاج الأمر من مجلس الادارة التنبيه لكل المطبعين. وملاحقتهم ومحاصرتهم بقرارات مماثلة. نرفض الهزيمة الثقافية موقف اتحاد كتاب مصر ليس نشازا، كما أنه لم يحرز السبق في ملاحقة المطبعين بين النخبة المصرية، إذ أن الاتحاد العام للنقابات الفنية كان اتخذ موقفا مماثلا، منذ عدة سنوات، وبادر بشطب علي سالم نفسه من عضوية نقابة المهن التمثيلية، وتلاه بفصل المخرج الراحل حسام الدين مصطفى من نقابة السينمائيين، عقابا له على زيارة اسرائيل بصحبة سالم، وتصريحاته المتكررة بأهمية اقامة علاقات سينمائية معها، وهو ما اعتبره الاتحاد دعوة صريحة للتطبيع. ويقول رئيس الاتحاد الفنان (السيد راضي): نحن كفنانين نرفض أي شكل من أشكال التعامل مع هذه الدولة المعتدية الارهابية، والتي تقيم (مجزرة) لذبح شعب عربي شقيق، وأعلنا موقفنا هذا في كل المحافل والمهرجانات الفنية الدولية، واتخذنا قرارا بأن أي فنان كبر شأنه أو صغر يزور اسرائيل، أو حتى يتعامل معها، يقدم للتحقيق، للنظر في أمر فصله من عضوية نقابته الفنية، وبالتالي يحرم من العمل، وهو ما فعلناه مع حسام الدين مصطفى، الذي منع بموجب قرار فصله من العمل في السينما، فلجأ بعد وساطة من البعض، وتقديمه اعتذاراً للاتحاد للعمل في التليفزيون. ويضيف راضي: نعلم أن الهزيمة الثقافية هي أبشع أنواع الهزائم، ومصر لم تهزم ثقافيا طوال تاريخها.. ولن يستطيع كيان عنصري، لا تاريخ له ولا ثقافة، أن يهزمها.. أو حتى يخترقها. وهذا هو رأي كل الفنانين والمثقفين في مصر. الصحفيون سباقون اجماع الجمعيات العمومية للنقابات المهنية المصرية على رفض التطبيع، واتخاذها قرارات بمحاسبة المطبعين، تأديبيا، لم تفلح أية محاولات (كوبنهاجنية) في اختراقه، وإن سعت كثيرا للالتفاف عليه بطرق ملتوية كثيرة، منها مثلا سفر بعض أعضاء تلك النقابات الى اسرائيل، أو حتى الى دول أجنبية أخرى للقاء مع اسرائيليين، في تكتم شديد.. وسرية مطلقة، خوفا من تطبيق عقوبات التأديب عليهم. وقائمة النقابات المعادية للتطبيع، والتي تتخذ موقفا صارما تجاهه، تتصدرها (نقابة الصحفيين) التي تنبهت منذ وقت مبكر للغاية، وعقب توقيع مصر معاهدة السلام مع اسرائيل، الى خطورة محاولات اختراق العقل والنخبة المصرية.. فأصدرت جمعيتها العمومية عام 1981 قرارا يحظر على الصحفيين من أعضاء النقابة (ممارسة التطبيع النقابي مع العدو الاسرائيلي)، وظلت الجمعيات العمومية المتعاقبة العادية والطارئة تشدد، من ذلك الحين، على هذا القرار.. بل وأضافت اليه عام 1991 حظر (التطبيع الشخصي والمهني) أيضا. القائمة تشمل أيضا نقابات المحامين والأطباء والصيادلة والتجاريين والمهندسين والمهن الرياضية، وانضمت اليها الغرف التجارية.. وحتى الأندية التي رفضت سفر فرقها الرياضية المختلفة للعب في اسرائيل. كذلك، فإن موقف الاتحاد العام لعمال مصر واضحا منذ البداية في شأن قضية التطبيع، فحظره على أعضائه تماما.. سواء على مستوى زيارات الوفود المتبادلة، أو العلاقات النقابية والشخصية المباشرة. السكرتير العام لنقابة الصحفيين المصرية (يحيي قلاش) أكد أن موضوع التطبيع هو القاسم المشترك في كل الجمعيات العمومية للنقابة، منذ 1981 وحتى الآن، وهو موضوع يتسم بحساسية خاصة بين جموع الصحفيين، الذين يستنفرون ضد أي محاولة لخرقه.. أو الالتفاف عليه. موضحا أن هذه (الحساسية) جعلت مجلس النقابة يوجه عقوبة (لفت النظر) الى اثنين من كبار الصحفيين من مؤسسي (تحالف كوبنهاجن) الشهير، هما: الكاتب الراحل لطفي الخولي.. والدكتور عبدالمنعم سعيد مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بجريدة «الأهرام» واللذان أشعلا الدنيا ضجيجا وحربا ضد النقابة وقتها، لكنها لم تتراجع عن موقفها. كذلك يضيف قلاش فإن نقابة الصحفيين بادرت، منذ بداية الانتفاضة الباسلة، بقيادة حملة مقاطعة المنتجات والبضائع الاسرائيلية والأمريكية في مصر، وهي الحملة التي انضمت اليها نقابات وتجمعات شعبية كثيرة أخرى، ووجدت صدى وتجاوبا هائلين في الشارع المصري. سلاح المقاطعة الصيادلة المصريون قدموا مؤخرا نموذجا رائدا ورائعا، عندما نظموا من خلال نقابتهم حملة واسعة للمقاطعة دعما للانتفاضة الفلسطينية تحت شعار (سلاحهم المقاومة.. وسلاحنا المقاطعة) ركزت فيها النقابة على مقاطعة منتجات شركات الأدوية العالمية والأمريكية منها خاصة التي تدعم اسرائيل، وقررت في هذا الصدد مقاطعة منتجات شركة (لي لي) الأمريكية، بعد تأكدها من أن الشركة ترسل تبرعات مالية ومساعدات طبية وكميات ضخمة من الأدوية لسكان المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وانضمت عدة نقابات عربية أخرى للصيادلة والأطباء لحملة النقابة المصرية، وقررت مقاطعة منتجات نفس الشركة. نقيب الأطباء الدكتور حمدي السيد وهو نفسه رئيس الاتحاد العام لنقابات المهن الطبية أكد أنه لا يوجد طبيب مصري واحد زار اسرائيل، أو أقام علاقات تطبيع مع اسرائيليين. واذا حدث ذلك من أحد الأعضاء، وتأكدت منه النقابة، فإنه سيحال فورا الى لجنة التأديب النقابية، تطبيقا لقرارات الجمعية العمومية للنقابة وللاتحاد، كما أن النقابة أيدت بقوة موقف الصيادلة، في مقاطعتهم لمنتجات شركة (لي لي) الأمريكية للأدوية. موقف (النخبة) المصرية إذن ليس جديدا، وكذلك موقف الشارع.. أو قاع المجتمع، لكن (الانتفاضة الجسورة) في الأرض العربية المحتلة كانت مناسبة مهمة لاعادة تأكيدهما، وفرصة ذهبية أيضا لملاحقة (المجاهرين بالتطبيع) من أمثال علي سالم. موقف رسمي الموقف نفسه أكده، وبعد يوم واحد من قرار شطب (سالم) وزير الثقافة المصري (فاروق حسني).. عندما قال في حفل عشاء ضم جمهرة من المثقفين المصريين يتقدمهم الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، قال إن اسرائيل تسعى باستماتة، طيلة السنوات الماضية، لاقامة علاقات تعاون ثقافي مع المؤسسات الثقافية الرسمية في مصر.. وهو أمر لا نسمح به، مثلما هو موقف المثقفين أنفسهم، لأننا جميعا ندرك أنها وهي الدولة المفلسة ثقافيا، ولا تمتلك أي تاريخ أو منتج ثقافي، تحاول أن (تروج) نفسها عبر المنتج الثقافي المصري المتميز والمتنوع، والذي يحمل عبق حضارة قديمة عرفها تاريخ البشرية، كما أنها في الوقت ذاته تخطط لاختراق (العقل العربي) لتحقيق أهدافها التوسعية والاستعمارية في السيطرة على شعوب المنطقة.. وهذا كما يقول الوزير ما نعيه جيدا، و(سنبذل الغالي قبل الرخيص في التصدي له). القاهرة ـ كرم محمود: