بيان الاربعاء ـ شمال العراق من الحكم الذاتي إلى الإدارة المشتركة، سيناريوهان يحددان مستقبل العلاقات بين بغداد والأكراد

لا تزال للقضية الكردية أهميتها القصوى بالنسبة إلى مجمل الأوضاع السياسية العراقية وآفاق تطورها بما في ذلك شكل الدولة ونظامها الحاكم الذي يرتبط حتمًا بعلاقة الإقليم الكردستاني في الشمال بالسلطة المركزية ببغداد. على الرغم من استقرار الوضع في المنطقة الكردية خلال السنوات العشر الماضية، يتفق كل المراقبين على استثنائية هذا الوضع وعدم إمكانية استمراره إلى الأبد وأن الفترة الماضية ما هي إلا مرحلة انتقالية ستؤدي بالضرورة إلى وضع مغاير في الشمال يعتمد إقراره بشكل كبير على بغداد وما تضعه من سياسات قد تدفع إما إلى إقامة علاقة فيدرالية بين الإقليم الشمالي والحكومة المركزية أو إلى حكم ذاتي من جديد، أو قد تدفع إلى سيطرة كاملة على المنطقة الكردية مع علاقات عداء بين الطرفين. وقد شهدت القضية الكردية محطات كثيرة أفرزت الوضع القائم، لعل أبرزها ما شهده عام 1970 عندما توصلت الحكومة العراقية والأحزاب الكردية إلى اتفاقية منحت الأكراد حكمًا ذاتيًا واسعًا وضمنت لهم التعيين في عدد من المناصب الوزارية والعليا، إضافة إلى جعل اللغة الكردية لغة التعليم الأولى في المناطق ذات الأغلبية الكردية. جاءت هذه الاتفاقية مفاجأة للعالم الخارجي الذي لم يتوقع تسوية النزاع الطويل بين الحكومة والأكراد بما تضمنه من اتهامات متبادلة بين الطرفين ومظاهر توتر عدة زعزعت استقرار الدولة، هذه الاتفاقية وصفها صدام حسين-الذي كان نائبًا لرئيس الجمهورية-آنذاك بأنها «تسوية كاملة وحقيقية وثابتة وسياسية ودستورية تؤكد الأخوة الدائمة بين العرب والأكراد». بعد تلك الاتفاقية تفاوتت مواقف القيادة العراقية من الأكراد بين مهادنتها وتقديم المكاسب لهم، وبين قمع حركاتهم بشدة وقسوة كما كان في عهد حسن البكر وصدام حسين الذي ألغى فعليًا ما تم التوصل إليه عام1970. وفي ظل تراخي قبضة النظام العراقي إثر هزيمته في حرب الخليج الثانية وانسحاب قواته من الأراضي الكويتية، وجدت الفصائل الكردية التي كانت قد وحدت حركاتها في «مؤتمر كولون» يناير 1990 الفرصة سانحة للقيام بانتفاضة مارس 1991 في مدن دهوك والسلمانية وأربيل وهي الانتفاضة التي استطاعت القوات العراقية قمعها بسهولة غير أن التحالف الدولي مدعومًا بالقرار 688 الصادر عن مجلس الأمن في 15 إبريل 1991 قام بتشكيل قوة لإعادة الاستقرار وإنهاء القمع الذي يتعرض له الأكراد في شمال العراق، وقد مكثت هذه القوة حتى يوليو 1991 ومع انسحابها أعلنت إنشاء منطقة آمنة شمال خط 36 شمالاً بحظر طيران الطائرات العسكرية العراقية فوقها. وفي هذا السياق بدأت مفاوضات مكثفة بين الحكومة العراقية والحزبين الكرديين الأساسيين وهما الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البرزاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني، وقد أثمرت هذه المفاوضات عن التوصل لما سمي ببيان 11 آذار الذي نظم العلاقة بين الجانبين وأعطى الحقوق السياسية والثقافية التاريخية للأكراد، إلا أن الحكومة العراقية ما لبثت أن نقضت هذا الاتفاق سريعًا وانسحبت بضغط دولي من منطقة الشمال عسكريًا وسياسيًا من خلال سحب موظفيها المدنيين من المنطقة. الادارة المشتركة وبعد انسحاب الحكومة المركزية بدأ الحزبان الكرديان تجربة الإدارة المشتركة لإقليم كردستان العراق بعد أن أصبح للإقليم 13% من عوائد النفط العراقي وفقًا للقرارات الدولية وفي إطار برنامج النفط مقابل الغذاء، ونتيجة لتفاقم الخلاف بين القيادتين الكرديتين انقسمت الإدارة الكردية عام 1994 إلى فرعين يتولى أحدهما مسعود البارازاني الذي أقام إدارة لحزبه «الديمقراطي الكردستاني» في محافظة دهوك وأربيل ويتولى الفرع الآخر للإدارة جلال الطالباني الذي يطور إدارة مماثلة لحزبه «الاتحاد الوطني» في محافظة السليمانية. ومنذ ذلك الحين والعلاقة بين بغداد والقيادات الكردية يشوبها الغموض والتذبذب بل التناقض أحيانًا، ففي حين تستمر الحكومة العراقية في سياسة التهجير وتعريب المناطق الكردية الواقعة تحت سيطرتها وخاصة منطقة كركوك، تواصل كذلك محاولة إعادة مد الجسور مع الحزبين الكرديين فتدعوهما إلى «التوقف عن الخضوع للتأثير الأمريكي» والعودة إلى «الحكومة الشرعية»، وهي في ذلك تقدم كثيرًا من المساعدات الاقتصادية لمنطقة كردستان كان أحدها ثلاثة ملايين كتاب مدرسي أرسلت منذ أسابيع قليلة إلى تلاميذ شمال العراق، هذا خلاف توفير الحكومة العراقية احتياجات الأكراد من الوقود وكل مشتقات النفط. في هذا السياق جاءت دعوة صدام حسين للحوار مع الأكراد في منتصف يوليو الماضي لتمثل في نظر كثيرين منعطفًا جديدًا في سياسة بغداد تجاه الأكراد. وقد جاءت هذه الدعوة في احتفال بثته قناة العراق الفضائية حضره أعضاء مجلس قيادة الثورة والقيادة القطرية لحزب البعث الحاكم جرى خلاله تقليد صدام حسين «وشاح الجهاد وترس الجهاد لتحرير فلسطين وتاجها القدس» من قبل المجلس التشريعي لمنطقة كردستان للحكم الذاتي وهو مجلس شكلته الحكومة العراقية ومقره بغداد، وقد دعا صدام حسين في كلمته الأكراد إلى إجراء حوار مع الحكومة المركزية «توطئة لعودة الأمور إلى نصابها» في إشارة واضحة إلى عودة كردستان لنظام الحكم الذاتي في نطاق الدولة العراقية». وقد رأى البعض أن دعوة صدام حسين لم تجئ في إطار رغبة فعلية في حل ما بقى من المسائل العالقة حلاً سلميًا مقنعًا بل جاءت تمهيدًا لاجتياح عسكري تخطط له بغداد من خلال تسجيل نقطة على الجانب الكردي بحيث يبدو في صورة من يرفض الحوار ويتهرب من المسئولية، فإذا ما لجأت الحكومة العراقية إلى القوة لإخضاع المترددين لإرادتها ظهر الحق في جانبها وبدا الأكراد في هيئة المخطئين، ومما يدلل على ذلك تزامن الدعوة الحكومية مع حشد قوات عسكرية عراقية على الحدود مع كردستان. في مقابل هذا الرأي، يؤكد آخرون أن الهدف من الدعوة هو الاجتياح السياسي لا العسكري، ذلك أن بغداد تريد العودة إلى هذه المنطقة الخارجة عن سيطرتها منذ عشرات السنوات بالوسائل السلمية مستغلة في ذلك الفراغ السياسي في المنطقة الشمالية والناتج عن توتر علاقة القيادتين الكرديتين الذي تعدى اختلاف تصورات الجانبين حول مستقبل الإقليم وعلاقته ببغداد أو القوى الإقليمية والدولية ليدور حول مسألة السيطرة على عوائد نفط منفذ «إبراهيم خليل» الواقع في الإقليم، إضافة لخلافات الزعامتين على اقتسام عوائد الترانزيت ومقاعد البرلمان ومواقع الإدارة. اجتياح سياسي أم عسكري وسواء كانت الوسيلة سلمية أو عسكرية فإن إعادة بغداد سيطرتها على المنطقة الشمالية الآمنة من شأنه تحقيق عدد من الأهداف التي طالما تطلعت إليها من بينها دعم النظام الحاكم، واكتمال سيادته على كل الأراضي العراقية، والسيطرة كذلك على الموارد النفطية التي خصصتها الأمم المتحدة لإقليم كردستان، إلا أن الأهم من ذلك هو تحقيق الأهداف التالية: 1 ـ التصدي للنفوذ التركي المتزايد في المنطقة الشمالية، ومحاولات أنقرة المستمرة التوسع في الاتفاق القائم بينها وبين بغداد عام 1985 الذي يسمح للدولتين التوغل حتى عمق 17 كيلو مترًا في الطرف الآخر لملاحقة «المتمردين والخارجين على القانون في إشارة للحركات الكردية العراقية والتركية، هذا خلاف اتجاه تركيا نحو تفعيل دور الأقلية التركمانية في شمال العراق ووقوفها خلف تسليحهم ومن ثم جعلهم عنصرًا أساسيًا في ترتيبات المنطقة السياسية والأمنية كقوات فصل الحزبين الكرديين الديمقراطي والوطني في كل معركة تحدث بينهما، الأمر الذي اتضحت خطورته في المطالب الانفصالية الحالية للتركمان الذين باتوا يطالبون بالحصول على منطقة كركوك الغنية بالنفط باعتبارها العاصمة المستقبلية للإدارة التركمانية لكونها تحتضن تاريخيًا أكثرية تركمانية مطلقة. 2 ـ فصل الطرف الكردي عن الجبهة المعارضة للحكومة العراقية بالخارج، والتي طالما أعلنت رفضها مبدأ الحوار مع النظام العراقي الحالي وتؤكد سعيها للإطاحة به كهدف أساسي لها. ويمكن القول بأن تحقيق بغداد هذا الهدف قد بات مؤكدًا في حال قبول الأكراد هذه الدعوة للحوار نظرًا لما أسفر عنه اجتماع فصائل المعارضة العاملة في العاصمة البريطانية لمناقشة دعوة الرئيس العراقي، حيث عبر أكثر من طرف معارض عن قلقه من إمكانية قبول هذه الدعوة مؤكدين خسارة الأكراد لدعم المعارضة العراقية في حال الموافقة على مبدأ الحوار. 3 ـ لعل أهم أهداف بغداد فيما يخص دعوة الحوار تلك هو التخلص من الدور الأمريكي-البريطاني في المنطقة الآمنة شمال العراق ووقف الحظر الجوي عليها، فمما لاشك فيه أن بغداد ترى في المنطقة الكردية الآمنة الشوكة التي ما انفكت تؤلم جوانبها، فمن أجل حماية المنطقة وسكانها من اعتداءات الحكومة العراقية تتولى الطائرات الأمريكية والبريطانية المنطلقة من تركيا مراقبة الأجواء العراقية، الأمر الذي يمثل ضغطًا وتحجيمًا لسلطة بغداد، فإذا ما استجابت الأحزاب الكردية لدعوة الحوار ورجعت ثانية تحت سيطرة النظام العراقي فلن يعود هناك سبب لبقاء مناطق الحظر الجوي. هذا الهدف ضمته الحكومة العراقية صراحة في دعوة الحوار مع الأكراد حيث وضع شرطًا أساسيًا لبدء هذا الحوار وهو «طرد الأجانب خارج منطقة الحكم الذاتي» على أساس أن «على كل كردي شريف أن يطرد كل أجنبي أينما يجده في منطقة الحكم الذاتي لأن الخلاف والاتفاق بين الطرفين شأن داخلي». ومن الواضح أن الحكومة العراقية باتت ترى أن الوضع بعد عشر سنوات من استقلال كردستان قد تغير بما يسمح لها بالتحرك لفرض إرادتها السياسية-إن لم تفرض سيطرتها المباشرة بالقوة العسكرية-ومن ثم تحقيق أهدافها السابق ذكرها. فالعامل الدولي متمثلاً في الأمم المتحدة أضحت قدرته أقل كثيرًا عن اتخاذ قرار بالتدخل لصالح الأكراد في ظل الفيتو الروسي، ومن ناحية أخرى وفي ظل العجز الأمريكي لمسألة استخدام القوة العسكرية لإسقاط نظام الحكم في العراق أضحى العراق يعتقد بأن واشنطن قد آمنت أخيرًا بأن النظام العراقي الحالي هو الخيار الأقل ضررًا من البديل الشيعي أو الكردي. وبوجه عام لا يمكن أن نفهم سياسية العراق تجاه الأكراد بعيدًا عن الإطار العام للسياسة العراقية الخارجية والتطور اللافت في الملف العراقي داخل الأمم المتحدة، وذلك أن نجاح العراق في تجاوز مشروع العقوبات الذكية بمساعدة عربية قوية ودعم روسي واضح قد أعطاه الثقة بإمكان التحرك على أكثر من صعيد كان قد فشل سابقًا في التحرك بفاعلية عليه وأهمها الصعيد الكردي. يمكن تصور سيناريوهين لمستقبل العلاقة بين الأكراد والحكومة العراقية تأسيسًا على قبول أو رفض الطرف الأول دعوة صدام حسين للحوار. ـ السيناريو الأول: وفيه تقبل الإدارة الكردية بشقيها دعوة بغداد للحوار ومن ثم إعادة جسور العلاقة مرة أخرى معها، ويستند هذا السيناريو على وجود ثلاثة عوامل رئيسة تدفع الأكراد نحو بغداد. أول هذه العوامل المصلحة الاقتصادية المتنامية بين الجانبين؛ فمن الملاحظ نجاح العراق في إعادة ربط المنطقة الكردية بشبكة اقتصادية محورها تهريب النفط بحيث بات الاقتصاد الكردي خاصة في أربيل يعتمد على خطوط النقل التجاري والنفطي التركية عبر كردستان. ويقدر عدنان المفتي وزير المالية في إدارة الطالباني عوائد مرور النفط ومشتقاته يوميًا عبر الأراضي الكردية بنحو 1.25 مليون دولار تذهب جميعها إلى أربيل، كما يؤكد كبار المسئولين في محافظة السليمانية الكردية أن هذه التجارة تشرف عليها شركة مشتركة بين «نجير فان» ابن عم مسعود البارازاني ورئيس وزراء إدارته وقصي نجل الرئيس صدام حسين. ومن الواضح أن المصلحة الاقتصادية مع بغداد قد خلقت شرائح كردية مستفيدة من هذا الوضع يصعب تعويضها عن الإمدادات الحكومية ويتوقع أن تقف بقوة للاتجاه نحو الحكومة المركزية وإعادة دعم العلاقات معها. ثاني هذه العوامل يرتبط بأمل عبر عنه عدد من المسئولين الأكراد بإمكان أن يثمر قبول الأكراد دعوة الحوار مع العراق، استجابة الأخير لشروطهم التي وضعوها لهذا الحوار. الحل السلمي ضرورة جاءت أهم هذه الشروط في بيان أصدره الحزبان الكرديان بصورة مشتركة في السابع والعشرين من يوليو الماضي ردًا على دعوة بغداد حيث شدد الطرفان على «ضرورة الحل السلمي للقضية الكردية في إطار وحدة العراق وسيادته» بشرط تحقيق ما يلي: ـ القبول بالفيدرالية كعلاقة بين إقليم كردستان وباقي العراق وفقًا لقرار البرلمان الكردي عام 1992. ـ ضرورة تهيئة الأجواء المناسبة ومستلزمات الحوار الديمقراطي العلني وبناء عوامل الثقة. ـ وقف سياسة ترحيل وتهجير السكان الأصليين من مناطقهم والكشف عن مصير المعتقلين والمفقودين. إضافة لهذه الشروط حددت بعض القيادات الكردية شروطاً أخرى للحوار وإعادة العلاقات مع بغداد من أهمها ما يلي: 1 ـ وضع حدود واضحة لمنطقة كردستان وحسم المناطق المختلف عليها مثل خانقين وكركوك الغنية بالنفط والتي لا تزال القيادة الكردية تعتبرها منطقة كردية اضطرت للتنازل عنها في اتفاق مارس 1970. 2 ـ توافر ضمانات إقليمية ودولية تضمن الحيلولة دون النكوص عن اتفاق الفيدرالية. 3 ـ استمرار الحصول على جزء معقول من عوائد النفط العراقي حتى بعد رفع العقوبات عن العراق. أما ثالث هذه العوامل وأهمها فتتعلق بضعف ثقة الحزبين الكرديين في الأطراف التي أعلنت سابقًا حمايتها لهم، ومن ثم لجوئهم لقبول الحوار كبديل وحيد في ضوء افتقاد القدرة على مواجهة الحكومة العراقية من دون توافر غطاء إقليمي أو دولي لحمايتهم. فعلى الصعيد الإقليمي يدرك الأكراد جيدًا أنه باستثناء ليبيا لا توجد دولة عربية متعاطفة مع طموحاتهم في تكوين دولة كردية منفصلة عن الحكومة المركزية في بغداد، كما لا ترغب أي من دول الجوار «تركيا وإيران وسوريا» بقيام نموذج كردي متقدم قد يؤلب الأكراد المقيمين بها. أما عن الولايات المتحدة فالأكراد باتوا يخشون تخليها عن حمايتهم إذا ما قرروا رفض دعوة الحوار وإعلان المواجهة مع الحكومة في بغداد خاصة وأن ذكرى تخليها عنهم في انتفاضة 1990 وأيضًا عندما اجتاحت القوات العراقية المنطقة الكردية عام 1996 لا تزال ماثلة في الأذهان. ويعمق من التخوف الكردي أن أقصى ما وعد به البنتاجون الأمريكي القادة الأكراد في آخر لقاء بينهما في 14 يونيو الماضي هو أن واشنطن «لن تسمح لصدام باستخدام الأجواء العراقية للهجوم على الأكراد أو تهديد جيرانه» وهو أمر وإن كان يحمي الأكراد من هجمات جوية للقوات العراقية فلن يحميهم من اجتياح عسكري أرضي. الأهم من ذلك هو خشية الأكراد من أن تقوم الإدارة الأمريكية بمراجعة سياستها تجاه مناطق الحظر الجوي التي تحمي الأكراد بطلعات الاستطلاع الأمريكية والبريطانية في ضوء استمرار هجوم الدفاعات العراقية عليها. السيناريو الثاني: وفيه تحجم الإدارة الكردية عن القبول الفعلي لدعوة الحوار مع بغداد والجلوس على مائدة التفاوض معها، ويعتمد هذا التصور على الركائز التالية: 1ـ تشكك القيادة الكردية في أهداف هذه الدعوة الناتجة عن لغة التهديد الواضحة التي استخدمها الرئيس صدام حسين في الإعلان عنها إضافة إلى طريقة الإعلان ذاتها. فكما أكد أحد الكتاب الأكراد فإن الشعب الكردي يتناقل الدعوة للحوار بكثير من القلق والحذر النابعين من أسلوب الدعوة التي جاءت في قالب استعلائي أشبه بسلوك أب يدعو أبناءه الضالين إلى التوبة في حضرته، وخاصة حين تمت الإشارة إلى الدعوة بـ«أقل الخسائر» الأمر الذي جعلها بمثابة تهديد «للرضوخ» أكثر منه نداء «للتحاور». هذا خلاف عبارات التحدي والتهديد الأخرى ، الذي اعتبر أن «إبقاءه» «الحال الاستثنائية» في شمال العراق يأتي بهدف تمكين المواطن الكردي من التوصل إلى «خياره الحقيقي»، وذلك في تجاهل لحقيقة أن المنطقة الآمنة في شمال العراق خلقها قرار دولي وفي تصوير لقرار السيطرة على كردستان وكأنه في يد الحكومة المركزية. كما اعتبر الرئيس صدام حسين في حديثه أنه صاحب الفضل في الحال الذي وصل إليه الأكراد باعتبار أن «القادة الأكراد كانوا سيسومون شعبهم سوء العقاب لولا خشيتهم من بغداد» واصفًا كردستان بجزء «صغير محتقر» وحالها «حال الابن العاق» الذي يجب أن «يتراجع أو يصلح من نفسه» وكانت لغة التهديد بعد ذلك أكثر وضوحًا بقوله «عندما نعجز عن هذا فلكل حال حال». 2 ـ صعوبة تحقيق الشروط الكردية من خلال الحوار مع بغداد وخاصة ما يتعلق بنظام الفيدرالية كعلاقة بين كردستان وباقي العراق، والجدير بالذكر أن رفض مطلب الفيدرالية لن يقتصر على الحكومة العراقية فقط ذلك أن مجرد ذكر كلمة «فيدرالية» في بيان البرلمان الكردي عام1992 أثار الكثير من الحساسيات عراقيًا وإقليميًا وأثار الشكوك لدى الكثيرين من أن تكون الفيدرالية غطاء لنوايا انفصالية «الأمر الذي اعترضت عليه كل من تركيا وإيران وسوريا في ذلك الوقت، كما اعترضت عليه القوى السياسية العراقية ذات الاتجاهات القومية والإسلامية. 3 ـ اضافة لما سبق الخبرة التاريخية التي تكونت لدى القادة الأكراد وبقية الشعب الكردي والتي تؤكد استحالة الركون إلى تحالف دائم مع الحكومة العراقية التي عادة ما تلجأ إلى إلغاء ما عقدته من اتفاقيات متى رأت الأوضاع مهيأة لذلك، يضاف لذلك قسوة ما تختزنه ذاكرة الأكراد من وقائع دموية سببتها السلطة العراقية المركزية، فوفقًا لرواية الأكراد ذاتهم فقد قتل وفقد 180 ألفًا ودمرت أكثر من 4500 قرية في حملة «الأنفال» من عام 1980-1988 فقط، هذا خلاف ضرب قرية جلايجة بالأسلحة الكيماوية عام 1988 الذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن خمسة آلاف كردي. وأخيرًا يمكن القول بأن حدوث أي من السيناريوهين السابقين أمر تحدده الفترة المقبلة خاصة وأن البيان المشترك للحزبين الكرديين قد فتح الباب أمام كل الاحتمالات حيث تجنب في وقت واحد رفض دعوة الحوار أو قبولها بصورة حاسمة. ففي نفس الوقت الذي شدد فيه على أهمية تحقيق الشروط الخاصة بالفيدرالية ووقف سياسة الترحيل جاء البيان ليناقش ربط القضية الكردية بالمعارضة العراقية أو حتى الإشارة إليها من بعيد، كما أسقط تمامًا العامل الدولي بعدم المطالبة بأي مشاركة أو إشراف دولي لضمان عملية الانتقال الديمقراطي التي يدعو إليها بل تجاهل بدلاً من ذلك كافة قرارات الأمم المتحدة بما فيها القرار 688 الخاص بالحقوق الإنسانية للأكراد. الكويت ـ المركز الدبلوماسي للدراسات الاستراتيجية:

الأكثر مشاركة