يواجه الصحفيون العاملون في بلاط صاحبة الجلالة في الجزائر، وضعاً صعباً، اذ يهددهم الارهاب والجماعات المسلحة بالاغتيال، فيما تلاحقهم المحاكم التابعة للدولة بالسجن والغرامات. ويتذكر الصحفيون الجزائريون اكثر من سبعين من زملائهم سقطوا برصاص وخناجر الارهاب في أحلك سنوات مرت بها البلاد في تاريخها. وكان في مقدمة قافلة من رحلوا الكاتب الصحفي الطاهر جاووت صاحب اسبوعية «القطيعة». وآخرهم برعمان سقطا في لحظة واحدة أثناء تغطيتهما أحداث عنف بين قوات الأمن وعروش القبائل بالعاصمة الجزائر يوم 14 يونيو 2001 وهما محرر بجريدة «البلاد» العربي حميد وأصغر صحفيات «اليوم» نجيمة... والقائمة تبقى مفتوحة لأسماء أخرى ما دام الاستقرار حلما بعيدا في الجزائر بنظر المتتبعين. كان الطاهر يشتغل كغيره من الصحفيين الجزائريين في القطاع العام حين كانت الدولة تحتكر الفعل السياسي ووسائل الإعلام. وكانت مقالاته الأدبية تتسم بالنقد اللاذع للوضع القائم وتنشر ثقافة التسامح والتعدد. ومع أنه مثقف باللغة الفرنسية ويتحدر من أصول بربرية فإنه حرص على ربط علاقاته جيداً مع الكتاب والصحفيين العاملين باللغة العربية. وفي صباح يوم حار من آخر مايو من العام 1993، كان جاووت يتأهب لركوب سيارته الى الشغل حيث فاجأه ثلاثة مسلحين فأطلقوا رصاصات قاتلة على جسمه النحيف استقرت أخطرها في الدماغ فأمهلته أسبوعا قضاه بالمستشفى العسكري في العاصمة ليستسلم بعدها للموت. وبقدر ما كانت الصدمة كبيرة وكان السؤال كبيرا أيضا: لماذا يقتل هؤلاء الطاهر جاووت؟ هو ليس شرطيا وليس عسكريا وليس عاملا في قطاع الحكومة التي تقول الجماعات المسلحة إنها تحاربها لرفع الظلم عن الناس. هو مثقف وصحفي ولا شيء غير ذلك. وتحولت مراسيم دفنه ببلدة أزفون الواقعة على مرتفعات بلاد القبائل للتنديد بالعنف المسلح ضد المدنيين وضد المثقفين. ولم تتأخر الجماعات الإرهابية لتقديم الجواب حين أقدمت بعد أقل من شهر على اغتيال صحفي آخر بالتلفزيون اسمه رابح زناتي بحي الشراربة جنوب العاصمة بعد أدائه زيارة لأقارب هناك. وكان زناتي يقدم تحقيقات مصورة حول التنمية المحلية بولايات وسط البلاد، وهو من المتعاطفين مع جبهة الإنقاذ وعضوا في نقابتها منذ نشأتها كما شارك في الإضراب السياسي الذي أعلنته الجبهة عصيانا مدنيا للضغط على الحكومة بغرض تغيير قانون الانتخابات، لكنه انسحب بعد بداية أعمال العنف وانصرف لمهنته بعيدا عن السياسة. وشهدت تلك الفترة أيضا مقتل عبد الرحمن بن مني من أسبوعية «الجزائر الأحداث» الحكومية وسعد بختاوي وهو صحفي مستقل كان على وشك توقيع عقد مع وكالة الأنباء الكويتية «كونا» ليشتغل لها مراسلا من الجزائر. كان الحزن قد خيم على قطاع الصحافة وكان الخطر يهدد الجميع كون الصحفيين الجزائريين عموما يقطنون أحياء شعبية يسيطر عليها في الغالب مسلحون ولم تكن القوات الحكومية تجرؤ على دخول بعضها خاصة مع حلول الليل. فقد حدث مثلا أن أخرج الإرهابيون خمسة أشخاص من منازلهم بمدينة بوفاريك من بينهم الصحفي ياسر العاقل وذبحوهم كالخرفان وسط الحي ولا أحد اعترض سبيلهم مع أن المكان لا يبعد بأكثر من 500 متر من ثكنة عسكرية ومركز شرطة. وكانت أجهزة الأمن منهمكة في نقل المسئولين وإطارات الدولة إلى إقامات آمنة. لكن الصحفيين تحركوا بقوة مطالبين السلطات بحمايتهم بعد مقتل واحد من ألمع الصحفيين في التلفزيون الجزائري وهو إسماعيل يفصح في أكتوبر من نفس العام حين خرج من منزله بحي باب الزوار الواقع بالضاحية الشرقية للعاصمة. إسماعيل اعترضت سبيله مجموعة من المسلحين بعد خروجه من منزله فطعنوه طعنات قاتلة بخنجر ثم انصرفوا بهدوء. في الصباح انتشر خبر الفاجعة بسرعة فائقة وتحولت قاعات التحرير الى منابر للتعبير عن الغضب وتحرير اللوائح الى السلطات لطلب النجدة. وقبل أن يدفن إسماعيل بمسقط رأسه في القبائل، كان وفد من الصحفيين قد اجتمع بمسئولين في وزارة الاتصال والثقافة مطالبين بإقامات أمنية وتوزيع السلاح على من يحسن استخدامه منهم. فتقرر فتح فندق سياحي بمنطقة سيدي فرج ليلجأ إليه المهددون. لكل قتيل قصته كانت هذه بداية المحنة الكبرى للصحافة الجزائرية... بداية مسلسل اغتيالات واختطافات طالت اثنين وسبعين صحفيا وأكثر من مئة مستخدم آخر في أقسام مساعدة بوسائل الإعلام المختلفة. وكانت السنوات التي تلت عام 1993 أكثر دموية وأكثر فتكا بالصحفيين والفنانين ورجال العلم والمثقفين عموما، وكانت أساليب الاغتيال متنوعة ولكل حادثة قصة وطريقة جديدة. وأصبحت المقابر هي أكثر مجالات اللقاء بينهم تكرارا، فقد سقط عدد كبير من المسئولين والإطارات كان من بينهم مصطفى عبادة مدير التلفزيون الذي قتله شاب من الجماعة عمره سبعة عشر عاما أمام منزله مباشرة بعد نزوله من سيارته واغتيل محمد عبد الرحماني مدير عام يومية المجاهد الحكومية بطريقة المافيا حين أطلقت علية مجموعة النار من سيارة في شارع رئيسي بالعاصمة قرب وزارة التربية فأردته على الفور قتيلا داخل سيارته ولاذت المجموعة بالفرار. وأطلقت مجموعة من المسلحين النار على سعيد مقبل مدير يومية «لوماتان» أكثر الصحف الجزائرية الصادرة بالفرنسية انتشارا، حين كان يتناول وجبة الغذاء في أحد مطاعم حسين داي فغاب أحسن كاتب عمود في الجزائر. وكان العمود الذي نشر له في ذلك اليوم يتحدث عن مهنة الصحافة في زمن الإرهاب وكيف يخفي الصحفي نفسه ويظهر بمظهر من لا يقرأ ولا يكتب لتجنب الموت، لأن الحياة اليوم لمن لا يشكلون خطرا على الظلم وهم فلول الجهل. أما عمر ورتيلان رئيس تحرير أكبر صحف الجزائر اليوم «الخبر» فقد أطلق مسلحون عليه النار يوم 5 أكتوبر 1995 على بعد أمتار من دار الصحافة التي أطلق عليها اسم الطاهر جاووت أول شهداء المهنة يسقط برصاص الإرهاب، ويشاء القدر أن يكون العمود الذي كتبه عمر في ذلك اليوم بعنوان «أيها السلم تجل» ويحكي في مأساة الجزائر وعن أبواب السلم الموجودة فعلا لكن الجميع أخطأ الطريق إليها. وسقط علاوة رئيس تحرير جريدة «لوسوار دالجيري» «مساء الجزائر» مع اثنين من زملائه داخل مقر الجريدة في انفجار سيارة مفخخة بـ 300 كلغ من مادة «تي أن تي» أمام دار الصحافة خلفت في المجموع 17 قتيلا وأكثر من خمسين جريحا من الصحفيين والمارة. وقد أسست الجماعات الإرهابية منظمة متخصصة في اغتيال الصحفيين والفنانين ورجال الثقافة والعلم باسم «الجبهة الإسلامية للجهاد المسلح» وتختصر في كلمة «فداء» أعلنت مسئوليتها عن عدد كبير من تلك الجرائم خاصة في العاصمة. وقد اغتالت صحفية التلفزيون رشيدة حمادي وأختها في مدخل الحي الذي تقطنان به على مرتفعات مدينة الجزائر و محمد الصالح بن عاشور في بلدة بوفاريك ومحمد بوحشاك في البليدة غرب العاصمة كما اعترف إرهابي مسكت به قوات الأمن بقسنطينة بضلوع جيش الإنقاذ في اغتيال الصحفي الرياضي بالمحطة التلفزيونية المحلية مخلوف بوخزر وصحفي إذاعة قسنطينة عبد الحكيم تعكوشت. وتبنى التنظيم نفسه اغتيال عبد العزيز زعيتر الصحفي بجريدة «الجمهورية» الصادرة في مدينة وهران أمام قبر أمه وهو يترحم عليها. أما سعيد إبراهيمي عضو طاقم التحقيقات في التلفزيون فيجهل حتى الآن قاتلوه، وقد أوقف سعيد وهو على الطريق العمومية من الجزائر الى دلس حيث كان ينوي زيارة أقاربه هناك فقتل بالرصاص على الفور كما قتلت زوجته وبقي ابنهما الرضيع يصرخ في وجه القتلة. وهو الشاهد الوحيد على الجريمة. بين فكي كماشة كانت محنة الصحفيين الجزائريين نادرة، فالى جانب من قتلوا أو أصيبوا بعاهات جراء استهدافهم بالسلاح، أجبر المئات منهم على مغادرة البلاد الى أوروبا وكندا والولايات المتحدة وبعض الدول العربية. أما الذين بقوا فعايشوا الرعب لسنوات كما كانوا ضحية متابعات قضائية من الهيئات الرسمية بدعوى القذف. فقد أحصت منظمات جزائرية وأجنبية أكثر من مئتي صحفي ومسئول إعلامي متبوعين قضائيا بمبررات مضحكة ومخجلة في كثير من الأحيان.وكانوا أكثر الفئات الاجتماعية مواجهة لقانون الطوارئ بفعل تعاملهم مع الأحداث، وهذا القانون أساسه حجب ما يجري إلا ما يسمح به القائمون على الشق الأمني من الأزمة. وبدا جليا منذ البداية أن تطبيق قانون الطوارئ بالشكل الذي تم به وحظر نشر الأخبار الأمنية إلا بموافقة الجهات المسئولة يتناقض ومسار حرية الصحافة والحق في الإعلام. فقد وجدت صحفية من جريدة «الوطن» نفسها على مقعد المذنبين بمحكمة العاصمة مع مدير الجريدة ورئيس تحريرها، دون توجيه تهمة محددة، سوى أن الخبر الذي نشرته حول مقتل خمسة من رجال الدرك الوطني بمنطقة الأغواط غرب البلاد في هجوم إرهابي «نشر قبل الأوان»، في إشارة إلى أن الصحفية لم تطلب الإذن بالنشر من الجهات المسئولة. وقد كان هذا المبرر محل سخرية من الصحفيين الأجانب ومنظمات دولية. ويواجه الصحفيون في معظم الأحيان بالمحاكم مدراء مؤسسات فاسدين ومسئولين مؤقتين عينوا على رأس البلديات بعد حل المجالس التي أفرزتها انتخابات يونيو 1990 كون نسبة عالية منها كانت تابعة لجبهة الإنقاذ المحظورة منذ ربيع 1992 وكان معظم هؤلاء المسئولين المؤقتين يحكمون بقانون الطوارئ وعاثوا في الأرض فسادا فنشروا الظلم تحت جنح ظلام مكافحة الإرهاب وأرهقوا المواطن بأعباء إدارية لا حصر لها وأحاطوا أنفسهم بجماعات مدنية مسلحة تقمع أي احتجاج. ولقد أدت الصحافة المستقلة دورا طليعيا في فضح الظلم وكشف الحقائق وإطلاع الرأي العام على ما يجري من تجاوزات في كل البلاد. والنهب المنظم الذي تقوم به جماعات وأفراد على مختلف مستويات السلطة، في غياب أي ردع من أية جهة رسمية. في ذات الوقت الذي تقوم فيه بالإعلام حول فظاعة المجازر التي ترتكبها يوميا الجماعات الإرهابية في حق المدنيين. ولأن القانون المعمول به في معالجة المسائل المتعلقة بالإعلام سن قبل نشوء الصحافة المستقلة ويخضع لروح الاحتكار الرسمي للحقيقة، وظفت دوائر الفساد في مختلف أجهزة السلطة القانون لشن حملات على الصحافة والصحفيين وأرهقتهم بالمتابعات اليومية وأصبح مسئولو الجرائد المستقلة يقضون من الوقت في المحاكم ربما أكثر مما يخصصونه للكتابة أو للتفكير في تطوير خدماتهم للقراء. وأوقفت السلطات العمومية عددا كبيرا من الصحف بعضها بصفة نهائية وبعضها الآخر لمدة معينة وكثيرا ما كانت تلك المدة كافية لإعلان الإفلاس وإنهاء حياة الصحيفة. وقال مسئول جمعية الصحفيين قولا مأثورا وقتها: «إننا محاصرون بين إرهاب يغتال الصحفيين وسلطة تغتال الصحف» وأثار هذا الكلام ضجة كونه يساوي بين الأعمال الإجرامية لكتائب الموت والإجراءات الإدارية والقضائية التي تتخذها السلطة لتجنب انحراف حرية التعبير إلى «حرية الاعتداء على الآخر». لكنه دليل على إحساس عام وسط الصحفيين بأنهم فعلا بين فكي كماشة أحدهما سيف الإرهاب والآخر قرارات المنع. وتعزز هذا الإحساس بعد إحداث تعديلات خاصة في قانون العقوبات الصيف الماضي يضيق على الصحافة ويصادر الحريات ويجعل من كل صحفي في البلاد «مشروع سجين» على حد قول النائب نور الدين بحبوح وزير الفلاحة السابق خلال حضوره احتجاجا صحفيا أمام البرلمان في يونيو الماضي. وفي ظل قوانين تجعل من الصحفي خصما محتملا، تجرأ إرهابي «تائب» يدعى أحمد بن عائشة وكان قائدا عاما لجيش الإنقاذ في الجهة الغربية من الجزائر على رفع دعوى قضائية ضد جريدة «الخبر» لمجرد أن اسمه ورد في مقال مقرونا بعبارة «إرهابي سابق». ولم يستغرب الناس فعل بن عائشة كونه يتمتع الآن بمزايا هامة وفرتها له السلطة لقاء وقفه العمل المسلح، لكن دهشة الجميع كانت من موقف القضاء الذي قبل الدعوى واعتبرها صالحة شكلا ومضمونا. خاصة وأن الجميع يعلم بأن منظمة «الفداء» التابعة لجيش الإنقاذ كانت المسئول عن اغتيال رئيس تحرير «الخبر» عمر ورتيلان. وينتظر أن يجلس عدد من مدراء الصحف المستقلة والصحفيين العاملين بها على مقعد المتهمين بعد دعاوى رفعتها ضدهم وزارة الدفاع مؤخرا من بينهم أشهر رسامي الكاريكاتير في الجزائر علي ديلام و واحد من أحسن كتاب الأعمدة في الصحافة الصادرة بالفرنسية سيد أحمد سميان. وهو بالمناسبة خليفة سعيد مقبل الذي اغتاله الإرهابيون عام 1995.