مع حلول الذكرى الثالثة لغزو العراق، تفرد الصحافة الأميركية مساحات واسعة لإلقاء الضوء على تفاصيل »مسكوت عنها« في يوميات الغزو.
وفي هذا الإطار يكشف صحافيان مشهوران هما مايكل غوردون وبيرنارد ترينور أحدث كتاب عن الغزو بعنوان »كوبرا« القصة الداخلية لغزو واحتلال العراق« نشرت صحيفة »انترناشيونال هيرالدتريبيون« مقتطفات منه، تضمنت تفاصيل مثيرة من خلافات حادة نشبت بين أبرز القادة العسكريين الأميركيين للغزو، خصوصاً حول جدوى التقدم لإسقاط العاصمة بغداد قبل حسم بؤر المقاومة التي أرقت مضاجع قوات الغزو في الجنوب.
ويقرر الصحافيان كيف أن تشكيلات »فدائيي صدام« التي اعتبرها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد والجنرال تومي فرانكس قائد القيادة المركزيةالأميركية، »مطباً صغيراً« في الطريق إلى بغداد، تحولت فيما بعد وأسست لمقاومة ما زالت عصية على قوات الاحتلال حتى اليوم بعد مرور 3 أعوام.
والآن إلى مقتطفات مما جاء في كتاب الصحافيين في الهيرالدتريبيون:
كانت حرب العراق في أسبوعها الأول فقط، عندما هدد الجنرال تومي فرانكس بطرد القائد الميداني للجيش الأميركي.
منذ اليوم الأول للاحتلال، في مارس 2003، كانت القوات الأميركية قد اشتبكت مع آلاف المقاتلين غير النظاميين من فدائيي صدام. وكان الجنرال وليام ووليس، الذي كان يقود الفرقة الخامسة للجيش باتجاه بغداد، قد اخبر مراسلين صحافيين بأن جنوده يجب ان يؤخروا تقدمهم إلى العاصمة العراقية لكبح تهديد الفدائيين في الخطوط الخلفية.
وسرعان ما اتصل فرانكس باللفتنانت جنرال ديفيد مكيرنان رئيس قوات التحالف البرية، ليحذره من انه ربما يعفي ووليس من مهامه. وتم تفادي هذا الإجراء بعدما طار مكيرنان على وجه السرعة للقاء فرانكس، لكن الحادثة كشفت عن الاختلافات العميقة داخل صفوف القيادة الأميركية العليا حول التهديد العسكري العراقي وما يلزم لهزيمته.
وكان لذلك الخلاف، الذي تحدث عنه ضباط رفيعو المستوى، تبعات مستديمة. فالشراسة غير المتوقعة التي أظهرها الفدائيون في معارك الناصرية والسماوة والنجف وغيرها من البلدات الواقعة على الطريق إلى بغداد، كانت بمثابة مؤشر مبكر على ان »العدو« لم يكن الحرس الجمهوري فقط.
وكانت قوات فدائيي صدام شبه العسكرية كثيرة العدد حسنة التسليح موزعة في أنحاء العراق ومصممة كما كان يبدو على القتال حتي الموت. لكن بينما قدر العديد من الضباط الأميركيين الميدانيين بأن تكون وحدات الفدائيين عدواً عنيداً شرساً فإن فرانكس ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد لم يريا فيها سوى »مطب« صغير على الطريق إلى بغداد.
والآن مضت ثلاثة أعوام وما زال العراق مستعصياً على قوات الاحتلال التي لم تستطع إخضاعه إلى الآن. وبينما كانت نتيجة الزحف إلى بغداد واضحة، فان الكيفية التي اتخذت فيها بعض القرارات الأساسية في الحرب والظروف التي أحاطت ببعض الأحداث الهامة فيها لا تزال مجهولة إلى حد بعيد.
ومن بين هذه القرارات والأحداث:
بعد معركة الناصرية الدموية، التي كانت أولى المعارك الكبرى في الحرب، حذر ضابط استخبارات عسكرية تابع لمشاة البحرية الأميركية، من ان الفدائيين سيستمرون في شن الهجمات بعد سقوط بغداد لان القوات الأميركية لم تتعرض لأعداد كبيرة منهم في زحفها السريع إلى العاصمة.
بدلاً من إرسال المزيد من الجنود لترسيخ الاستقرار في البلد بعد سقوط بغداد، قام رامسفيلد وفرانكس بإلغاء نشر فرقة الدبابات الأولى، وكان مكيرنان مستاء من هذا القرار الذي اتخذ في وقت كان يتعين على القوات الأميركية التعامل مع حالة من الفوضى العارمة في العراق.
وهذا التوصيف لعملية صنع القرار داخل القيادة الأميركية مبني على مقابلات مع عشرات الضباط العسكريين والمسؤولين الحكوميين، وطلب بعضهم عدم الكشف عن أسمائهم لأنهم تحدثوا عن مشاورات داخلية حساسة غير مصرح لهم بمناقشتها في العلن.
وفيما كانت قوات التحالف بقيادة أميركية تستعد لغزو العراق، لم تكن الاستخبارات الأميركية تتوقع وقوع معارك كبيرة في جنوب العراق.
وأبلغ مسؤولو الـ»سي آي ايه« القيادة الأميركية العسكرية ان القبائل المناوئة لصدام ربما تحمي أمن أحد الجسور الحيوية على نهر الفرات، وقد توفر أيضاً أشكالاً أخرى من الدعم، ولم يكن أحد يتوقع بروز مقاومة شرسة إلى ان بدأت وحدات الجيش ومشاة البحرية في تطويق بغداد.
لكن منذ البداية وجد جنود قوات التحالف أنفسهم في مواجهة قوات الفدائيين ومقاتلي حزب البعث غير النظاميين. تم تشكيل قوات الفدائيين في منتصف التسعينات لإخماد أية ثورة شيعية.
وكان أفراد هذه القوات مسلحين بقاذفات »آر بي جي« المحمولة على الكتف، إضافة إلى الأسلحة الصغيرة، وكانوا يرتدون ثياباً مدنية ويتمركزون في جنوب العراق، وفي الواقع فإن أول جندي أميركي يقتل في الحرب سقط بنيران مقاتل عراقي غير نظامي.
معركة الناصرية، كتب ضابط الاستخبارات اللفتنانت كولونيل جوزيف أبوداكا، رسالة سرية مفادها ان خطر الفدائيين سيستمر، وفي ذلك الوقت كان الكثير منهم قد لاذ إلى البلدات الصغيرة التي تعرج عليها القوات الأميركية في غمرة اندفاعها المحموم إلى بغداد.
وقارن الكولونيل الفدائيين بقوات التمرّد في كولومبيا ونيكارغوا والسلفادور. وحذر أنه ما لم يتعقبهم الجنود الأميركيون بالقوة، فإن العدو سيواصل هجماته بعد سقوط بغداد، معيقاً بذلك الجهود لإرساء الاستقرار في العراق.
وفي مقرات قيادة الحرب البرّية، كانت هناك مخاوف متنامية بشأن الفدائيين أيضاً. وفي 28 مارس، طار مكيرنان إلى حقل الجليبة الجوي ليجتمع على عجالة مع قادة فرق الجيش ومشاة البحرية.
وفي ذلك الاجتماع قال الجنرال ووليس بأن جنوده استطاعوا احتواء القوات العراقية غير النظامية، لكنه أشار إلى أن السيطرة الأميركية عليهم ضعيفة. وكان الفدائيون ينتقلون بين مدينتي السماوة والنجف. وقال ووليس إنه لا يعرف حتى كم واحداً منهم يوجد هناك.
ومن جانبه عبّر الجنرال جيمس كونواي، القائد الميداني الأعلى لمشاة البحرية في العراق عن إعجابه بشراسة المقاتلين العراقيين، وقال إن المقاومة أقوى مما كان يتوقع.
وخلص مكيرنان إلى أن الولايات المتحدة تواجه مركزين للجاذبية الحرس الجمهوري، المرتكز قرب بغداد، والفدائيين. وقرر تعليق الزحف نحو العاصمة لعدة أيام مع الاستمرار في الغارات الجوية ومجابهة الفدائيين.
ورأى أنه عندها فقط ستكون الظروف مهيأة لبدء الهجوم النهائي على بغداد للإطاحة بصدام حسين: لكنه عندما عاد إلى مقراته في الكويت سمع عن غضب القيادة العليا من التعليقات التي أدلى بها الجنرال ووليس للصحافة.
وكان ووليس قد قال في تصريحاته لصحيفتي تايمز وواشنطن بوست: »إن العدو الذي نقاتله هنا مختلف قليلاً عن شكل العدو الذي تدربنا على قتاله في تمارين المناورات العسكرية، وذلك بسبب هذه القوات غير النظامية. وكنا نعرف بوجودهم، لكننا لم نكن نعرف كيف سيقاتلون«.
وعندما سئل ما إذا كان هذا القتال سيزيد فرص إطالة الحرب لمدة أطول مما كان متوقعاً أجاب: »بدأت المؤشرات توحي بهذا فعلاً«. بالنسبة للجنرال فرانكس كانت هذه التصريحات بمثابة تصويت على عدم الثقة بخطته للحرب، التي كانت تعتمد على السرعة الخاطفة. حتى انه أخبر رامسفيلد بأن قواته يمكن أن تستولي على بغداد خلال بضعة أسابيع.
وفي واشنطن استقبلت تصريحات ووليس بحماسة من قبل المنتقدين باعتبارها دليلاً على ان رامسفيلد لم يرسل أعداداً كافية من الجنود إلى العراق. وقبل ذلك التاريخ بحوالي سنة، كان رامسفيلد قد سخر من خطة الحرب الأولية التي دعت إلى إرسال ما لا يقل عن 380 ألف جندي، وضغط على القيادة المركزية للقوات المسلحة لاستخدام عدد أقل من الجنود ونشرهم بشكل أسرع.
وفي مؤتمر صحافي بوزارة الدفاع أنكر وزير الدفاع لعب أي دور في صياغة خطة الحرب. وقال: »لم تكن خطتي. انها خطة الجنرال فرانكس، وتم تطويرها على مدار فترة زمنية«. وكان فرانكس مصمما على دفع قادته الميدانيين للمضي قدما إلى بغداد وطار إلى مقر قيادة مكيرنان في الكويت في 31 مارس حيث وجه له انتقادات قاسية.
واشتكى فرانكس بأنه لم يكن أحد يقاتل في الحرب سوى القوات الخاصة والبريطانيين. وسأل فرانكس في ذلك الاجتماع ما إذا كانت فرقة المشاة الثالثة قد خاضت اشتباكات حقيقية بالمدفعية وحذر من الإحراج الذي سيلحق بهم إذا فشلوا.
وكان الجزء الأكثر إثارة في ذلك الاجتماع عندما أشار فرانكس إلى أنه غير مستعد لإبطاء تقدم الجيش بسبب مخاوف الضباط المفرطين في حرصهم على إبقاء الخسائر البشرية في أدنى حد ممكن، مع أن أحداً لم يثر موضوع الخسائر البشرية.
وبعد انتهاء الجلسة اقترب مكيرنان من نائبه وصديقه البريطاني الميجور جنرال البيرت وايتلي وطلب منه »التكتم على ما دار في الاجتماع وكأنه لم يحدث«.
وقال جاك كين، وهو جنرال متقاعد خدم كقائم بأعمال رئيس الأركان في صيف 2003: »لقد فوجئنا بالتمرد البعثي، ولم تكن لدينا خطة جاهزة للتعامل مع هذا السيناريو الذي كان يتطلب المزيد من قوات الشرطة العسكرية ووحدات الشؤون المدنية والمحققين والمترجمين والوحدات الخاصة.
وأضاف: »لو كنا قد خططنا سلفاً لإمكانية حدوث تمرد، لقمنا على الأرجح بنشر فرقة الدبابات الأولى ولكانت قد ساعدتنا في المرحلة الأولية من الاحتلال. لكن لم يكن هذا مجرد خطأ استخباراتي بل كان أيضاً فشلنا نحن كقادة عسكريين«.
ترجمة علي محمد