لسنوات طويلة، اعتاد أهالي منطقة الرمة، التابعة لمديرية المخا غرب محافظة تعز، المرور في طرق تحفها واحات خضراء، ومزارع مترامية الأطراف، لكن ميليشيا الحوثي، التي تبعت آثاراهم، وتوغلت بألغامها وحقدها وسط قراهم الآمنة، جعلت الحال غير الحال، وباتت طرق الرمة مؤطرة بحجارة طليت باللون الأبيض، وضعها المواطنون وفرق الهندسة بالقوات المشتركة لتحذير المارة من تجاوزها، فخلفها تماماً يكمن الموت مدفوناً تحت الأرض، التي كانت يوماً حقولاً خضراء تزهو بالحياة، وقد غدت الآن حقول ألغام تنذر بالهلاك، كأن لسان حالها يقول: من هنا مرت الميليشيا.

منطقة الرمة، ذات الطبيعة الخصبة، التي تصل مساحتها إلى 20 كيلومتراً مربعاً، تحوي أكثر من 250 مزرعة، وتشتهر بزراعة البصل، حيث يتم تصديره إلى الأسواق المحلية ودول الجوار، في مواسم معينة، وحول هذه المزارع نشأت تجمعات سكانية لأسر المزارعين ورعاة المواشي، وقد ظل السكان يعيشون حياة طبيعية هادئة في ذلك الريف النائي، حتى داهمتهم ميليشيا الحوثي في عام 2014، فحولت سلامهم إلى خوف، ولم تغادر إلا وقد جعلت منطقتهم أكثر مكان موبوء بالألغام في مديرية المخا، وبشكل كثيف وعشوائي، حسب إفادات خبراء نزع الألغام.

عودة مأساوية

في منتصف 2017، حررت القوات المشتركة بالساحل الغربي، منطقة الرمة من قبضة جماعة الحوثي، التي كانت قد هجّرت أهاليها بالقوة.

وبعد التحرير مباشرة، فضل أغلب السكان العودة إلى الديار، مهما كلفهم الأمر، وما إن بدؤوا بالوصول إلى منازلهم، حتى توالت حوادث الانفجارات والموت بألغام الميليشيا، لتكون النتيجة عشرات الضحايا من المدنيين، الذين دفعوا فاتورة باهظة من أرواحهم ومزارعهم ومواشيهم، إذ حرصت الميليشيا على إفقادهم لذة الإفلات من سطوتها وظلمها، وانتقمت منهم بطريقة وحشية، فلم تبقِ شبراً من بلادهم، إلا وفخخته وحولته إلى مشروع مأساة قادمة.

لكنها رغم كل شيء، تبقى أرضهم التي لم يعرفوا سواها، كما يقول المزارع معين علي عبد الله (40 عاماً)، في حديثه للبيان، والذي فقد طفله وثلاثة من أبناء أخيه، لا يزيد عمر أكبرهم على عشر سنوات، بلغم أرضي، وضعته الميليشيا جوار بيتهم.

ويضيف معين: بعد تحرير منطقتنا، تركنا مخيمات النزوح، وعدنا بشوق ولهفة لممارسة حياتنا من جديد، مثلما كنا قبل قدوم الميليشيا، ولكن الواقع كان مختلفاً تماماً، فقد تحولت بلدتنا إلى حقل ألغام كبير، وكل يوم كان يقع حادث انفجار في مكان ما، فكان لا يكاد يمر يوم، دون أن يموت شخص أو شخصان أو أكثر، وكل واحد كان ينتظر دوره، لكننا فضلنا البقاء، وعدم المغادرة مرة أخرى، وعدنا للعمل في المزارع، التي تم نزع الألغام منها، لتوفير لقمة عيشنا.

كان معين يحدثني عن قصته المأساوية، بينما هو منكب على عمله في قلع شتلات البصل، صمت قليلاً، وسرح في تأمل المساحات الخضراء، والسحب الموشكة على الهطول، وبدت ملامح الحزن ظاهرة على قسمات وجهه المتعب، مسح عرق جبينه، وأردف بصوت تخنقه العبرات:

لماذا أغادر قريتي الآن، لم يعد لدي ما أخسره، فقد أخذوا مني كل شيء، قتلوا أطفالي بلغم جبان، ابني وثلاثة من أبناء أخي، كنت قد تركتهم يومها في البيت، وذهبت إلى مدينة المخا، وعندما عدت، كانت هناك أربع جثث صغيرة تنتظرني، ما زلت غير مصدق ولا مستوعب لما حدث، وعزائي أن بقي لي طفل وحيد، خرج من الحادث حياً بشظايا في الساق والصدر، تؤلمه، وتكتم أنفاسه من حين لآخر.