اليمن.. القبلية وتحرير الاقتصاد أضعفا أصحاب الدخل المحدود

ت + ت - الحجم الطبيعي

عاش اليمن في ظل معطيات اقتصادية واجتماعية وديموغرافية وحضرية أثرت على حجم ودور الطبقة الوسطى في الحياة العامة بعض تلك المعطيات بنيوية دائمة وبعضها طارئة ما أدى إلى اضعاف مساهمة الطبقة اليمنية الوسطى في التحولات السياسية والتنموية والاقتصادية والاجتماعية.

فمع أن حقبة الأربعينات والخمسينات والستينات كانت قد شهدت تبلور مشاريع حضرية ومدنية ربما بدافع الرغبة والتطلع إلى التغيير في المجتمع اليمني على غرار المجتمعات المتقدمة آنذاك لكن ذلك التطلع سرعان ما تراجع لصالح هيمنة البنى الاجتماعية والتقليدية القبيلة، الأسرة، العشيرة لاسيما خلال الثلاثة العقود الأخيرة التي عرفت عودة قوية للروح القبلية وتغيرات اقتصادية جوهرية أثرت على مستويات الدخل نتيجة لتراجع الدولة عن دورها الحمائي منذ العام ‬1995 عندما انطلقت سياسات الإصلاحات الاقتصادية والمالية وفق منظور المؤسسات المالية والدولية «البنك الدولي ــ صندوق النقد الدولي» وتلك السياسات التي طبقتها الحكومات المتعاقبة أدت إلى تقلص دور الدولة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية بجملة من الإجراءات والتدابير تمثلت في الحد من فرص العمل، وتحرير الأسعار، ورفع الدعم عن المواد الغذائية الاستهلاكية الأساسية وتقليص النفقات على الخدمات، وتعويم العملة منذ العام ‬1996 م، وهو ما أدى إلى تراجع مداخيل اليمنيين، نتيجة لتأكل القيمة الحقيقية لثرواتهم وممتلكاتهم بشكل أدى إلى انحدار التصنيف الطبقي لكثير من أفراد المجتمع خاصة منهم أفراد الفئة التي كانوا يصنفون ضمن الطبقة الوسطى قياسا بمستوى الدخل الذي كان في الثمانينيات القرن الماضي متوسط دخل الموظف حينها كان (‬0005 ريال يمني) وهو ما كان يساوي أكثر من ألف دولار (الدولار حينها كان يساوي ‬4,5 ريال يمني) أما اليوم فإن متوسط الأجر الشهري للموظف في القطاعين الحكومي أو الخاص حوالي‬30 ألف ريال يعادل حاليا فقط ‬139 دولار لأن الدولار يساوي حاليا (‬215 ريال يمني ) وهذا مؤشر على مدى التأثير الذي لحق بالطبقة الوسطى التي أنحدر الجزء الأكبر منها إلى الطبقة الدنيا وهو ما تؤكده الأرقام المتصاعدة لنسبة الفقر في اليمن التي بلغت ‬41 ٪ العام ‬2000 وارتفعت حاليا إلى حوالي ‬48 ٪ الأمر الذي أثر على حجم وفاعلية الطبقة الوسطى.

ويقدم الباحث السوسيولوجي الدكتور أحمد القصير المتخصص في دراسة المجتمع اليمني أسبابا عميقة لضعف الطبقة الوسطى في اليمن وفي دراسة له حول ضعف الطبقة الوسطى لذاتها قدمها لمركز سبأ للدراسات الإستراتيجية وستصدر ضمن مؤلف جماعي يذهب إلى القول «إننا أمام إشكالية تقع على أكثر من مستوى. فمن جانب نحن أمام ما يمكن تسميته بضعف الثقل النسبي للطبقة الوسطى وهامشية ثقافتها في المجتمع علاوة على ضعف وعيها بذاتها. وبالمقابل تسود على سطح المجتمع ثقافة محافظة وأنماط سلوك تقليدية لا تنتمي إلى المجتمع الحديث» وحسب دراسة القصير ضعف الوعي الذاتي للطبقة المتوسطة ترتب عليه : عجزها في واقع الأمرعن نشر ثقافتها على نطاق واسع.

بنية النظام

وفي السياق ذاته يرى الكاتب الصحفي جمال حسن أن ضعف الطبقة الوسطى يرجع إلى عدة عوامل أبرزها بنية النظام السياسي، الذي قمع إمكانية تكون طبقة وسطى بالمعنى الحقيقي. تقريبا نصف اليمنيين فقراء، وتنتشر الأمية بصورة كبيرة. وكثير من الموظفين، وأصحاب المهن، لا يشكلون مفهوم الطبقة الوسطى بسبب تدني الأجور. عدم تكافؤ الفرص، وحضور الفساد، والقمع السياسي، لا يسمح بتكافؤ الفرص، والتي تحبط أصحاب الكفاءات والقدرات، من الحصول على فرصهم المناسبة، وهذا انعكس بصورة سلبية على توسع الطبقة الوسطى. ويضيف حسن أن الواقع، في اليمن، مازال يعاني من كثير من التشوهات، أثرت على المعنى الطبقي. مثل تأثير المجتمع القبلي،الذي يبقى حاضرا بقوة وواسع الانتشار على حساب المجتمع المدني. كما لا توجد مدن بالمعنى الحقيقي للمدينة العصرية.

عملية التحديث

وهو ما يتسق مع ما يذهب إليه الدكتور القصير الذي يرى أن عملية التحديث في اليمن تعاني في الوقت الراهن من دخول مشايخ القبائل مجالات جديدة وحديثة للنشاط الاقتصادي. وهذا الوضع شكل بدوره قيودا وضغوطا على الطبقة البورجوازية التي لا تنتمي إلى أصول قبلية. ودفع بشكل أو آخر إلى إضعاف الدور الاقتصادي والاجتماعي لهذه الطبقة. نتيجة لدخول عدد من رموز القبائل، أي كبار مشايخها، إلى النشاطات الاقتصادية كرجال أعمال، وبوجه خاص، في مجال الشركات الزراعية والتجارية والبنوك فضلا عن الوكالات التجارية و«ويستند هؤلاء عادة في إدارة ذلك النشاط إلى النفوذ القبلي أكثر من الاستناد إلى القواعد والقوانين الحديثة التي من المفترض أن تنشأ من طبيعة ذلك النشاط وتتلاءم معه» ومثل هذا الوضع ضغوطا على أصحاب الأعمال الذين لا ينتمون إلى أصول قبلية خاصة الذين يعنيهم وجود قواعد منظمة لنشاطهم الاقتصادي كما أنه حد من دخول بعض المواطنين من غير القبائل إلى مجالات الاستثمار ويجعلهم يخشون من استخدام مدخراتهم في أنشطة اقتصادية حديثة الأمر الذي أنعكس سلبا على حجم وفاعلية الطبقة الوسطى، فضلا عن ذلك يورد القصير أسبابا أخرى لضعف الطبقة الوسطى اليمنية منها جولات الصراع التي شهدها ويشهدها المجتمع اليمني وما ترتب عليها من عدم استقرار أفضي دائما إلى هدر إمكانات التطور، أيضا التأميم الذي قام به الثوار بعد ثورة أكتوبر في جنوب البلاد فقد ترتب عليه تقلص الطبقة الوسطى في جنوب البلاد، إلا أن أعضائها الذين لجئوا إلى الشمال لم يعملوا على تشكيل طبقة وسطى لأن عناصر الطبقة الوسطى الوافدة من عدن إلى صنعاء مارست نشاطها في مناخ محافظ لا توجد به قواعد منظمة لذلك النشاط.، وانتقلت إلى بيئة اجتماعية محافظة، تخلو من سمات الحضر أو البندر، ولا تتفق قيمه وسلوكياته مع القيم البورجوازية. وشكل هذا المجتمع بأنماط سلوكه وثقافته المحافظة قيدا وضغوطا على سلوكيات وقيم أبناء الطبقة الوسطى الوافدين من منطقة أخرى من نفس الوطن.

تحولات طارئة

يبدو أن مفهوم الطبقة الوسطى قد طرأ عليه تحولا فلم يعد ذلك الذي يشير إلى مستوى الدخل وامتلاك الثروة والمعرفة والشعور بالانتماء للهوية الجمعية لهذه الفئة وفق ما ترسخ في الأدبيات التي نظرت للصراع الطبقي ولتقسيم الطبقات لأن المعطيات الجديدة أفرزت جيلا جديدا لا يملك الثروة وليس له دخل مرتفع لكن أمامه فرص واسعة للحصول على المعرفة ويتشكل لديه وعي بالانتماء إلى شبكة واسعة من التواصل الاجتماعي يتشكل عبر الشبكة العنكبوتية تواصله الشبه يومي بالعالم ويبحث له عن موقع ذاتي يجسد فيه تطلعاته وآفاقه وهذه معطيات ومحددات جديدة ربما قد تؤثر في معايير التصنيف الطبقي وهذا يعني أنه لابد من إعادة النظر في المحددات التقليدية.

Email