مبنى متداعٍ ومغلّف كعلبة بشعار «متحف لذاكرة الحرب».. مبنى بركات أو «البيت الأصفر» عند تقاطع محلّتَي السوديكو وبشارة الخوري في قلب بيروت.. وفي الأسماء تكمن الحكاية التي تختصر معاني الحرب الأهليّة وتداعياتها المدمّرة على اللبنانيين، والتي هي برمزيتها كانت بين أضلعه، فتركت بصماتها الواضحة عليه وجعلت منه شاهداً وتذكاراً، أي مكاناً للحفاظ على الذاكرة:
ذاكرة المدينة بحلوها ومرّها.. أما تفاصيله، فتبدو كأنها تعانق زمن الحرب، وترفض الخروج إلى الحياة مجدّداً. وأخيراً رفعت الستارة عنه، معلنةً انتهاء أعمال البناء والتأهيل والترميم لمتحف «ذاكرة بيروت»، أو ذاكرة الحرب الأهليّة اللبنانية. أما الافتتاح الرسمي أمام الجمهور، فسيكون في شهر سبتمبر المقبل.
يومها، كان هذا المكان أحد أسخن المحاوِر التي فصلت بين شطرَي العاصمة اللبنانية على مدى 15 عاماً (1975- 1990)، وشكّل موقعه نقطة فصل حربيّة، حيث ارتفعت السواتر الترابيّة ونبت شجر الخروَع واستوطنت الكلاب «الداشِرة».. وسقط أبرياء كثيرون لم يتسنَّ لهم أن يحسبوا حساباً للقنّاص القابع في الداخل، والذي كان بالنسبة إليهم «آخر الدنيا»!
نجاة من الهدم
وبين الأمس واليوم، لا يزال المبنى على حاله، بعدما «نجا» من الهدم على رغم موقعه الاستراتيجي تجارياً وتمّ تصنيفه في خانة المباني الأثريّة، وسط حركة العمران النشيطة التي تحيط به في محلّة «السوديكو» وصولاً إلى وسط بيروت التجاري..
ولا يمكن للعابرين تجاهله، إذ يبدو المشهد سريالياً.. ينتصب «منخوراً» بالرصاص والقذائف، ويسمح لكل من يدخله أن يطلّ من الفتحات التي استخدمها القنّاصة، والمنتشرة في الطبقتين الثانية والثالثة، أو أن يتمترس خلف أكياس الرمل التي احتمى وراءها المقاتلون.
وفي انتظار افتتاحه رسمياً في سبتمبر المقبل، تجدر الإشارة إلى أن الطابق الأرضي مما بات يعرف بـ«بيت بيروت» سيحتوي على مكتبة وكافتيريا ومحل لبيع التذكارات.
أما في الطابق الأول، فستُخصّص زاوية منه لذكرى القنّاصين والحروب، في جانبها الإنساني، أي من دون أسماء ولا تواريخ. وسيُخصّص الطابق الثاني لتطوّر بيروت العمراني والاجتماعي ابتداء من القرن التاسع عشر. أما الطابق الثالث، فستزال غرفه كلّها ليكون مساحة واسعة للفنون، على أن يتحوّل سطح البيت إلى مطعم يساهم في تأمين دخل للمشروع.
متحف للذاكرة
هو المرسوم رقم 10362 الصادر بتاريخ 26 يونيو 2003 الذي قضى باستملاكه من بلدية بيروت وتحويله إلى متحف وملتقى ثقافي وفنّي وحضاري ومكان لحفظ الأبحاث والدراسات التي تتناول مدينة بيروت عبر التاريخ، ومكتب التنظيم المدني لبلدية بيروت.
ومواقف للسيارات تحت أرض العقار، وإقامة مبنى على المساحة الباقية منه غير المبنيّة، تُخصّص لاستعمالات بلدية متنوعة لتقديم خدمات للمواطنين ذات طابع اجتماعي وثقافي. وكان من المفترض أن ينتهي العمل بعد ثماني سنوات من صدور المرسوم، أي خلال العام 2011.. لكن المفهوم التراثي لـ«المبنى الأصفر» ذي الطابع العمراني المميّز لا يشبه غيره في بيروت.
فالمبنى الذي ينتمي إلى المرحلة الانتقالية بعد بيوت الحجر ذات الطبقتين، وهي حقبة «المباني الصفراء» مع سقف عالٍ وتوزيع مرتكز على البهو الرئيس، واستعمال الإسمنت المسلّح كمادة أساسية في هياكل البناء، استمد لقبه من لون حجارته التي أحضِرت من بلدة دير القمر المشهورة بعمارتها التراثية في منطقة الشوف (جبل لبنان)..
وشيِّد فوق الدكاكين من ثلاث طبقات تزيّنها أعمدة جميلة وقناطر مزخرفة و«درابزون» مشغول، خلال عقد العشرينات من القرن الماضي، ويتميّز بـ«متكأ الفراغ»، جسر ممدود في الهواء وملتفّ كحزام حول الأعمدة، فيربط شرق البناء بغربه ويمحو الحدود بين الجهات.. علماً أنه شيِّد على مرحلتين:
بنى المهندس اللبناني الشهير يوسف أفتيموس الطابق الأرضي (الدكاكين) والطابق الأول في العام 1924، ثم أتمّ المهندس فؤاد قزح الطابقين الثاني والثالث في العام 1932، ما جعل المبنى يحوز إجازة «أجمل مبنى سكني في بيروت»، وفق تأكيد نجل صاحبَي المبنى، نقولا وفكتوريا بركات، والذي قال لـ«البيان» في اتصال هاتفي: «دفعوا ليرة ذهبية مقابل كل قطعة حجر منقوشة».