تتجه القيادة الروسية أكثر فأكثر نحو عزل نفسها عن المجتمع الدولي، الذي تصوره للداخل على أنه عدو متربص، عبر سلوكيات تتحدى هذا المجتمع في الخارج وترفع منسوب المشاعر الشوفينية في الداخل. يريد الكرملين استثمار تركة الرئيس الراحل بوريس يلتسين حتى آخر نقطة، لكنه في الحقيقة لم يفعل الشيء الكثير لمحاربة ظواهر تلك الحقبة السلبية إلا سطحياً فقط. فثروات الأوليغاركيين زادت وباتوا في تحالفٍ متجذر ومصيري أكثر مع الحكم، ونسب التضخم والفساد وترهل الأداء الحكومي لم تختف إن لم تكن استفحلت. والحال، أنه لا يمكن للقيادة الحالية المضي قدماً في استغلال ذكريات الروس حيال ما حصل إبان التسعينات والحفر في أدمغتهم، عبر تسخير وسائل الإعلام وأجهزة الدولة بطاقتها القصوى، إلى ما لا نهاية.

استبدال الأعداء

و«العدو الأصولي» في الشيشان وداغستان، الذي ولج الرئيس الحالي فلاديمير بوتين من خلاله بوابة الكرملين، استُبدل بسرعة بـ«الغرب المتوحش». والحقيقة، أن ذلك تم عبر خطوات مدروسة وممنهجة طيلة العقد الأول من حكم بوتين، والذي ترافق مع مجيء الرئيس الأميركي السابق جورج بوش إلى سدة الحكم، فكان من السهل اعتماده عدواً بسبب خلفيته اليمينية وأجندته المتحفّزة. يذكّر ذلك بالاتهامات التي كانت تساق إلى الغرب بأنه تحول نحو «الخطر الأخضر»، أي الإسلام، بعد زوال «الخطر الأحمر»، أي الشيوعية، إثر نهاية الحرب الباردة.

جيران وطائرة

ومع اكتساب الحراك الداخلي شجاعةً بفضل الثورات الملونة لدى جيران روسيا بين 2004 و2005، كان لزاماً على الكرملين أن يلجأ إلى الخدعة السياسية القديمة باصطناع عدوٍ خارجي تتحتم محاربته. وهكذا، جاءت حرب الأيام الستة في جورجيا قبل ستة أعوام وأفضت إلى تقسيم روسيا جارتها الصغيرة إلى ثلاثة أقسام بدفعها إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا نحو الانفصال. وهكذا أيضاً ما انفكت موسكو تدس أنفها في شؤون جارتها أوكرانيا حتى أوصلتها إلى حافة الحرب الأهلية كما هو حاصل منذ شهور بعدما استشاطت غضباً من إطاحة الأوكرانيين بربيبها فيكتور يانوكوفيتش.

ومؤخراً، فتح الروس جبهة قديمة - جديدة في إقليم ناغورني كاراباخ المتنازع عليه بين حلفائهم الأرمن من جهة والأذربيجانيين من جهة أخرى. لكن أن تصل الأمور إلى درجة الإيعاز بإسقاط طائرة مدنية كنوعٍ من تصفية الحساب مع كييف، فهذا يشي بتطورٍ خطيرٍ لسياسة روسيا الخارجية.

من المؤكد أن استنساخ أساليب معمر القذافي في تنفيذ الاغتيالات بحق الخصوم (مثلما حصل مع ألكسندر ليتفينينكو) واستهداف الركاب في الجو (كما حدث في لوكيربي) لن تنفع الكرملين في شيءٍ على المدى الطويل. وتكرار الحديث عن استطلاعات الرأي التي تظهر ارتفاع شعبية بوتين من قبل رأيه العام لن يحميه من انفجارٍ شعبيٍ ما قد لا يكون وشيكاً. ويبدو، في حقيقة الأمر، أن الروس لم يكن ليكترثوا أساساً بردود الفعل الدولية أو أنهم يتصورون أن مرحلة المواجهة المباشرة الفجة حانت ولا مفر منها.

وعلى أية حال، لا يجب أن يُسأل بوتين عن الأسباب الموجبة لتصرفاته تلك، بل الكرة اليوم في ملعب الغرب المطالب بألا يسمح بتكرار تجربة جماهيرية القذافي ولا عائلة كيم في كوريا الشمالية. على الغرب ألا يسمح بـ«تسمين الوحش» الذي خلقه وألا يترك الورم يتضخم. وتالياً، فإن حل الاحتواء والعقوبات الاقتصادية لا ينفع مع مثل هذه الأنظمة التي تشكل تحدياً أخلاقياً قبل أن يكون سياسياً. فالهرب من المواجهة لن يكون إلا هرباً إلى الأمام. وإن كان الروس اختاروها عبر إسقاط الطائرة الماليزية، فالأجدى بأولئك الراغبين في الغرب أن يحسموا قرارهم.. ويحسموه سريعاً وبشكلٍ فعال.

نداء كاميرون

أكد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون السبت الماضي وجوب ان يعيد حلف شمال الاطلسي النظر في علاقته بروسيا على المدى البعيد وأن يعزز قدرته على التحرك سريعا ضد أي تهديد.

وقال كاميرون إنه ينوي انتهاز فرصة قمة الحلف التي ستعقد بعد شهر ونصف شهر لاتخاذ قرار بشأن سياسة أكثر حزما حيال موسكو لإظهار ان دول الحلف لن تخضع للترهيب.