على مدى عقد من الزمن، جرى التهليل في الولايات المتحدة لثورة النفط الصخري باعتبارها الضامن لأمن الطاقة في البلاد، لكن كما أظهر النقص النفطي الحاد الذي اجتاح ولايتي تكساس ولويزيانا في أعقاب إعصار هارفي، فإن الولايات المتحدة لا تزال تعتمد بقوة على سواحل تلك الولايات لتكرير النفط الخام وتحويله لبنزين وديزل وغيرها من المنتجات النفطية. بالتالي، يبدو أن أمن الطاقة الحقيقي لا يزال بعيداً عن متناول الولايات المتحدة.

وفي مواجهة تحديات خاصة بكل دولة في قطاع الطاقة، سوف تستجيب كل منها لمفهوم أمن الطاقة بطريقة مختلفة قليلا بناء على أولوياتها. وفيما يعيد التقدم التكنولوجي تشكيل بنية أسواق الطاقة العالمية في القرن الواحد والعشرين، فإن أولويات المنتجين والمستهلكين في العالم ستتغير بلا شك.

تثبيت الأسعار وتسهيل اللوجستيات

من جانبها، ركزت الولايات المتحدة سياستها في مجال الطاقة تقليدياً على هدف الاكتفاء الذاتي، ولفترة طويلة على فكرة تقليص اعتماد البلاد على منتجي الشرق الأوسط. لكن هذا الاعتقاد عفا عليه الزمن إلى حد كبير. فإمدادات الطاقة الأميركية هي آمنة، وتعد البلاد مورداً صافياً للفحم، ومن المتوقع أن تصبح مورداً صافياً للغاز الطبيعي بنهاية العام. وعلى الرغم من استمرارها في استيراد حوالي 8 ملايين برميل من النفط يومياً، إلا أن سوق النفط الدولي أصبح أكثر مرونة، بحيث يمكن للولايات المتحدة مواجهة أي نقص في الإمدادات من أحد المنتجين باعتماد مصدر إنتاج آخر. حتى في أسوأ سيناريو ممكن، يمكنها تخفيف حدة النقص لبعض الوقت بالاستفادة من احتياطها الاستراتيجي من البترول.

وبدلاً من الحفاظ على إمكانية وصولها إلى النفط، أصبحت الولايات المتحدة أكثر اهتماماً بحماية نفسها من تبدل الأسعار في السوق بشكل أعم. ففي النهاية، من شأن تراجع حاد في إنتاج النفط في الشرق الأوسط أن يدفع أسعار الطاقة صعوداً في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة. كما من شأن توقف الشحن لفترة طويلة من الشرق الأوسط أن يثير الفوضى بين اقتصادات آسيا بتقييد إمدادات الطاقة إليها، مع ما يترتب على ذلك من عواقب ستنتشر عبر الاقتصاد العالمي.

بالتالي، تعد استراتيجية الطاقة الأميركية في الخارج مجرد امتداد لضرورة أوسع نطاقاً لإبقاء الممرات البحرية العالمية مفتوحة. وكما أوضح كل من إعصار كاترينا وهارفي، فإن التهديدات الأكبر قد تأتي من الداخل.

فطام الإمدادات الروسية

وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، تواجه أوروبا مشكلة خاصة بها، فبالنسبة إلى القارة، لا يوجد بديل عن الغاز الطبيعي الروسي. ومما يزيد الأوضاع سوءاً، افتقار معظم دول أوروبا الوسطى والشرقية للبنية التحتية المادية المطلوبة لجلب الإمدادات من منتجين غير روسيا، وهو قصور تجلى في العقد الأول من القرن، عندما قطعت روسيا مرتين تدفق الغاز الطبيعي لأوروبا كوسيلة لتحقيق غايات سياسية. وبالتالي، تدور سياسة الطاقة في أوروبا حول مدى قدرة روسيا على استخدام إمدادات الطاقة كسلاح سياسي، وعدم قدرة القارة على وقف ذلك.

وقد عملت بروكسل على توحيد سوق الغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي للحد من النفوذ الروسي على أعضائها فرادى. وأعطت الكتلة القارية أولوية لبناء خطوط أنابيب نفط مترابطة عبر أوروبا، حتى تتمكن دولها من تبادل الغاز بسهولة. وحفزت أيضا إنشاء أسواق آنية إقليمية فيه، فضلاً عن إنشاء مرافق تخزين يمكن فيها بناء احتياطيات. ودعماً لهذه الإجراءات، مررت بروكسل تشريعات لربط السوق الأوروبي بشكل أوثق، من بينها قانون يمنع «غازبروم» من تملك أنابيب أوروبية تشحن الغاز الطبيعي للقارة. تلك المساعي قوضت قدرة روسيا على التلاعب بإمدادات الطاقة لزبائن أوروبيين محددين، حتى مع احتفاظها بالقدرة على التأثير بواردات الغاز الطبيعي إلى القارة ككل.

وعلى الرغم من هذا التقدم، إلا أن اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية يبقى مصدر خلاف مستمر بين أعضاء الاتحاد الأوروبي. وخلافاً للعديد من أقرانهم في أوروبا الشرقية، تتمتع دول أوروبا الغربية بطرق أخرى غير روسيا للوصول إلى إمدادات الطاقة.

كثيرون، على سبيل المثال، مرتبطون بسوق الغاز الطبيعي في شمال أفريقيا، وبالبنية التحتية لأنابيب النفط في بحر الشمال أو أنهم أقاموا محطات للغاز الطبيعي المسال. ونتيجة لذلك، تلك البلدان هي أكثر قلقاً من استخدام موسكو للغاز الطبيعي كسلاح سياسي في أوروبا الشرقية، وقدرتها على تقويض وحدة القارة، مما هم متخوفون من حجم الغاز الطبيعي الروسي المستورد إقليميا. وتثير مشاريع أنابيب النفط الرامية على تجاوز أوروبا الشرقية مثل «نورد ستريم22»، القلق العميق لبلدان مثل بولندا وأوكرانيا وسلوفاكيا لهذا السبب تحديداً. مع بناء تلك الأنابيب، يمكن لروسيا بسهولة أن توقف تدفق الإمدادات إلى دول أوروبا الشرقية، من دون التسبب بضرر هام لأوروبا الغربية في سياق ذلك.

وفيما مصادر الغاز الطبيعي في صميم مخاوف الطاقة في أوروبا، أصبحت القارة رائدة في تصور مفهوم أمن الطاقة خارج حجم المعروض وحده. وإلى جانب سعيها لإيجاد سوق موحد للغاز الطبيعي، عملت على بناء سوق كهرباء موحدة، كما انتقل العديد من الدول الأوربية إلى مكانة رائدة في تبني مصادر الطاقة المتجددة، وحظر مركبات الوقود الأحفوري.

إبقاء نقاط الاختناق مفتوحة

مثل أوروبا الشرقية، تعتمد الصين واليابان بكثافة على الواردات لتلبية احتياجاتهما من الطاقة. ويشكل هذان البلدان الآن أكبر صافي مستورد للنفط في العالم وثالث أكبر مستورد له، فيما يتبادلان المراتب في صافي استيرادهما للغاز الطبيعي. ولأن البلدين لا يمكنهما الأمل في الدفع باقتصادهما بالكامل على أنظف أنواع الوقود الأحفوري، فقد أوليا أهمية كبيرة لمصادر الطاقة البديلة مثل الرياح والطاقة الشمسية والطاقة المائية، وفي بعض الأحيان الطاقة النووية.

مخاوفهما مرتبطة باضطراب الامدادات الذي من المرجح أن يأتي في أعالي البحار، فيما أكثر نقاط الاختناق البحرية إثارة للقلق تقع بالقرب من جنوب شرق آسيا، بما في ذلك مضيق ملقا.

على مدى عقود، اعتبرت الصين اعتمادها على الشحن البحري العالمي بمثابة ضعف شديد أمام القوة البحرية المتفوقة للولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. سياسات الطاقة لبكين بالتالي مرتبطة بشكل وثيق بالاستراتيجية الأمنية الأوسع نطاقاً في تعزيز قدراتها البحرية، من أجل حماية نقاط الاختناق ولتوسيع امتدادها لبحر الصين الجنوبي.

وقد قامت ببناء أكبر عدد ممكن من سلاسل التوريد البرية لفتح أبوابها لمصادر أخرى من الطاقة من آسيا الوسطى وروسيا. ولدى اليابان العديد من المخاوف البحرية نفسها كما الصين، لكن ردها كان مختلفاً تماماً. وفي سبيل مواجهة أوجه القصور، شكلت طوكيو تحالفاً وثيقاً مع الوصي الرئيسي على الأمن البحري الدولي، الولايات المتحدة. وعززت صناعة الطاقة النووية المحلية. ونظراً لمخاوف اليابانيين من انهيار نووي، أصبحت طوكيو أكثر اعتمادا حتى على مصادر الطاقة الأجنبية. ومع نمو القوة البحرية للصين، ازدادت شكوك اليابان بشأن قدرة الولايات المتحدة على إبقاء ممرات الشحن الإقليمية مفتوحة.

هذا التفسير الحديث لأمن الطاقة، الذي يعتبر ميزة المرونة في سلاسل التوريد حجر الزاوية فيه، يصبح شائعاً على نحو متزايد في عالم اليوم المعولم، فيما يؤدي صعود الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية والطرق الجديدة في تخزين الطاقة الى إعادة تشكيل مفهوم أمن الطاقة في السنوات المقبلة.

ومع انتقال انتباه العالم بعيداً عن الوقود الأحفوري، ستحتل المواد الأولية مثل الليثيوم الصدارة. لكن البلدان لن تحتاج بالضرورة إلى الوصول المستمر الى تلك السلعة كما تفعل مع النفط، ويمكنها تيسير أوضاعها بوصول متقطع إلى مصادر جديدة لهذه المادة أو إعادة تدويرها.

فجر عصر جديد

من شأن التكنولوجيا الحديثة أن توجه انتباه الدول من سلاسل العرض ما وراء حدودها إلى تلك التي بداخلها. وستغير الطاقة المتجددة والتكنولوجيا بشكل جوهري الطريقة التي تعمل فيها شبكات الكهرباء الوطنية والإقليمية، بحيث يصبح تحديث تلك الشبكات ميزة محددة لسياسات الطاقة المستقبلية. ومع استمرار التغيير في مصادر الطاقة العالمية، سيتغير أيضا تعريف العالم لأمن الطاقة.

تقليص مستويات الاعتماد على الوقود الأحفوري والطاقة النووية بالتركيز على توفير الطاقة وإدخال مصادر متجددة، وتأسيس نظام لشراء مصادر الطاقة من دول أخرى بثبات وبكلفة متدنية، واتباع «نهج طويل الأمد لأمن الطاقة في حقبة من أسعار النفط الخام المتدنية»، عبر تسهيل الاستثمار الدولي في مشاريع بالمنبع.

الكتاب الأبيض للطاقة ــ اليابان 2016

اتفق المجلس والبرلمان الأوروبيان حول تشريع لأمن إمدادات الغاز في 2017، يشمل إدخال مبدأ تضامني في حال حدوث أزمة حادة، وتعاون إقليمي أكبر لتسهيل التقييم المشترك للمخاطر وتطوير اتفاقية حول تدابير مشتركة وقائية وطارئة، والمزيد من الشفافية حيث تبلغ شركات الغاز الوطنية عن العقود طويلة الأمد.

الموقع الإلكتروني للمفوضية الأوروبية

استجابة مختلفة

بالنسبة الى هيئة الطاقة الدولية، يشير مصطلح «أمن الطاقة» إلى «توافر مصادر الطاقة دون انقطاع بأسعار معقولة». لكن حتى هذا التفسير البسيط يطرح أسئلة أكثر مما يجيب عليها: فما هو السعر المعقول، وما هي المقايضة بين القدرة على تحمل التكاليف وموثوقية الإمدادات. وفي مواجهة التحديات التي تختلف من دولة الى أخرى في قطاع الطاقة، فإن كل دولة سوف تجيب على تلك الأسئلة بطريقة مختلفة قليلاً بناء على أولوياتها.

يتوقع تقرير الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية بشأن الطاقة، استمرار بناء أنظمة كهربائية لتقليص الاعتماد على النفط، واستبدال النفط المستورد. ويدرج تسييل الفحم، والسيارات الكهربائية ونقل الغاز الطبيعي المسال كبدائل تقلص المستوردات. ولبكين خطة طموحة بـ 50 تريليون دولار لإيجاد شبكة كهرباء دولية تدمج طاقتي الرياح والشمس.

مركز «برث يو أس آسيا سنتر» في استراليا