لا يبدو أن نظرة روسيا إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، بحدود مجموعة جنود بالمئات، أرسلتهم إلى هناك بعد ثلاثة أيام من بدء هجوم تشنه ثلاث مجموعات مسلّحة، تعتبره السلطات «محاولة انقلاب»، قبل أقل من أسبوع على انتخابات رئاسية وتشريعية.
المتحدث باسم حكومة أفريقيا الوسطى، إنجي ماكسيم كازاغي، قال لوكالة فرانس برس، إن روسيا أرسلت مئات من الرجال من القوات النظامية، ومعدات ثقيلة، في إطار اتفاق تعاون ثنائي. لكن الوجود الروسي في هذه الجمهورية، هو جزء من الوجود على مستوى القارة السمراء.
في هذه الجمهورية، تستثمر روسيا في العديد من المشاريع، وضمنها تدريب الجيش، والدبلوماسية مع المجموعات المسلّحة. ففي مطلع عام 2018، وصل خمسة من الضباط العسكريين، و170 من المدربين المدنيين من روسيا إلى بانغي، وقامت موسكو بتسليم أسلحة إلى الجيش الوطني، بعد الحصول على إعفاء من الحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة.
وبسبب قوة النجاح الذي لم تتمكن بعثة الأمم المتحدة (مينوسكا منذ 2014)، من تحقيقه حتى ذلك الحين، تنوي روسيا تسليم أسلحة جديدة، وإرسال 85 مدرباً إضافياً، وفقاً لما تنقل «فرانس برس»، عن مصدر في السفارة الروسية في بانغي.
وساطة واستثمار
فضلاً عن دعم الجيش، تتدخل روسيا في الوساطة المعقدة مع المجموعات المسلّحة، التي تسيطر على غالبية الأراضي. منذ يوليو 2017، يتولى الاتحاد الأفريقي المفاوضات رسمياً. لكن في أواخر أغسطس، جمعت موسكو عند حليفها السوداني في الخرطوم، أربعاً من المجموعات المسلحة الرئيسة، للتوقيع على «إعلان اتفاق».
من الواضح أن مشاركة روسيا في أفريقيا الوسطى، جزء من استراتيجية الكرملين الجيوسياسية والاقتصادية في أفريقيا، والوجود الروسي في بانغي، يعيد إلى الأذهان «سيناريو قديماً جداً»، كما قال تييري فيركولون، الباحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية. وأضاف أن السلطات في أفريقيا الوسطى، كثيراً ما «لجأت إلى قوة أمنية أجنبية، تبدو لها أكثر مصداقية من قواتها»، وذلك مرده «ضعف قاعدتها السياسية، وانقسام قوات الأمن».
مدربون روس
ومنذ وصول المدربين الروس أوائل عام 2018، تم تأسيس العديد من الشركات التي تديرها روسيا في بانغي، بينها «لوباي انفست»، التي حصلت مؤخراً على رخصة التنقيب عن المعادن (في ياوا، غرب)، ورخصة استكشاف التعدين (في باما، غرب). كما تم إنشاء ثلاث شركات أخرى من قبل الروس، إحداها «المجموعة المالية الدولية»، التي «يمكن أن تكون وسيلة استثمار» لشركات أخرى، وفقاً لأحد المراقبين.
من جهة أخرى، تدرس روسيا فرص الاستثمار في إقامة مسالخ وشركات لصناعة المعلبات الغذائية، وفي المجال الزراعي والأخشاب، وفقاً لمصدر مقرب من السفارة الروسية.
ليس فقط في جمهورية أفريقيا الوسطى، ففي اتجاهها نحو أفريقيا، تعتزم روسيا إقامة قواعد عسكرية في خمس دول أفريقية أخرى، هي مصر والسودان وإريتريا وموزمبيق ومدغشقر. من ضمن أهداف موسكو في أفريقيا، ما أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن تحقيق استراتيجية «التحوّل» باتجاه آسيا وأفريقيا، عقب فرض العقوبات الغربية على بلاده، بعد ضمّها شبه جزيرة القرم عام 2014، كما ورد في صحيفة «إندبندنت».
وإزاء الانسحاب الأمريكي التدريجي من دول القارة، وتحوّل التعاون الصيني الأفريقي من مشاريع التنمية، والتركيز على المواقع الاستراتيجية التي تضمن قيام مشروع طريق وحزام الحرير، فإنَّ روسيا ربما وجدت الساحة مناسبةً لتوجّهها، خصوصاً مع الانسحاب الجزئي للقوى الدولية، وفقاً لما كتبت منى عبد الفتاح في الصحيفة.
قمة سوتشي
كانت القمة الروسية الأفريقية المشتركة، في مدينة سوتشي، في أكتوبر 2019، كانت تمهيداً لعودة روسية علنية إلى أفريقيا، إذ أعلنت وزارة الخارجية الروسية في مايو من ذلك العام، تعيين أوليغ أوزيروف، سفيراً فوق العادة، ورئيساً لأمانة منتدى الشراكة الروسية الأفريقية، ليقود التحضير لمنتدى «روسيا-أفريقيا» عام 2022، المكمِّل لأهداف قمة سوتشي.
وحسب عبد الفتاح، لم تغب روسيا عن أفريقيا بالكامل، وإنَّما نشطت في التعاون التجاري مع دول القارة، الذي فاقت قيمته الـ 20 مليار دولار عام 2018. وتمثَّل ذلك في التعاون الثنائي، وتوجه الشركات الروسية نحو قطاعات التعدين والطاقة الأفريقية. كما اشتمل على التعاون العسكري، الذي تمثَّل في الإمدادات العسكرية، وتوريد الأسلحة، وتدريب كوادر القوات المسلحة والشرطة، ووصل إلى توقيع 21 اتفاقية عسكرية، إضافةً إلى اتفاقات لتوليد الطاقة النووية لأغراضٍ سلمية، بين روسيا وبعض الدول الأفريقية، مثل إثيوبيا وأوغندا.
أهم ما يميّز عودة روسيا إلى أفريقيا في هذه الفترة، خلو الاتفاقات ومواثيق التعاون التي وقّعتها، من أي برامج أيديولوجية، مثلما كان يحدث في العهد السوفييتي.
مع ذلك، وحتى الآن، يبقى الوجود العسكري الروسي في أفريقيا، أقل بكثير من الوجود العسكري الأمريكي هناك، فالولايات المتحدة، لها ما لا يقل عن 34 قاعدة عسكرية، وثمة قواعد عسكرية صينية، ولدول أخرى. هذا هو الواقع الحالي، لكنه لا يعني أن موسكو لا تفكر في تغييره لصالحها.