«أمريكا لن تغادر منطقة الشرق الأوسط»، هذا ما أكده وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في تصريحات إعلامية منتصف شهر يناير الجاري، جدد خلالها التأكيد على التزامات واشنطن تجاه المنطقة، رغم الانسحاب الأمريكي المزمع من سوريا، وما أثير بعده من قراءات وتفسيرات مختلفة عن دور واشنطن في المنطقة، إلا أن ذلك التأكيد لا ينفي وجود «تكتيكات أمريكية» مغايرة على الأرض في ضوء الاستراتيجية التي تتبعها الولايات المتحدة حالياً في الشرق الأوسط، والمُحدّدة في ملفي (دحر داعش، ومواجهة إيران)، تفرض معطيات جديدة على طاولة المعادلات السياسية والأمنية بالمنطقة ككل.

وفي ضوء تلك المعطيات فإن جُملة من التساؤلات تطرح نفسها على الساحتين الإقليمية والدولية، يعزّزها غموض الكثير من اتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية في ضوء تضارب بعض مواقف وتصريحات إدارة الرئيس دونالد ترامب.. من بين تلك التساؤلات ما يتعلق بحظوظ قوى إقليمية ودولية في الحضور بالمنطقة، ومن يكون له النصيب الأوفر في ملء ما قد يسببه الانسحاب الأمريكي من فراغ، ومدى إمكانية أن تجد إيران متنفساً لها يخفف الضغط عنهاـ بعد عام من الضغوط الهائلة بعد العقوبات الأمريكية - في ضوء الانسحاب الأمريكي من سوريا، وكذا تساؤلات بشأن الأطماع التركية، فضلاً عن دور روسيا كلاعب رئيسي.

بين أوباما وترامب

وبخلاف ما يتردد بشأن استراتيجية أمريكية ترامبية مغايرة تماماً عن استراتيجية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إزاء ملفات الشرق الأوسط، يعتقد بعض المحللين بأنه في قراءة عميقة للواقع، فثمة تشابه واسع بين الاستراتيجيتين.

ويفند أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية توفيق اكليمندوس، في حديث لـ«البيان» عبر الهاتف من باريس، طبيعة الموقف الأمريكي من ملفات الشرق الأوسط، بتشكيكه ابتداءً في فكرة «الانسحاب الكامل» واستبعاده لها.

ويشير اكليمندوس إلى أن مسألة الانسحاب الأمريكي من المنطقة مطروحة منذ عهد أوباما، وحتى اللحظة لم تنجح واشنطن في تنفيذ هذا الانسحاب، بخاصة في ظل التهديدات والمشكلات المصاحبة لتبعاته، وما يعبر عن ذلك أيضاً أن إدارة ترامب «متقلبة ومن الصعب تحديد موقفها». لكن في تصوره فإن «واشنطن تسعى إلى إشراك دول المنطقة الحليفة، أو دفع الدول العربية الفاعلة لأن تنظم نفسها وتنسق مع بعضها البعض»، وعليه «لن يحدث انسحاب كامل لأمريكا بالمعنى الحرفي»، على اعتبار أن «قراءة متأنية للواقع وملفات المنطقة تكشف بوضوح عن أن كلفة الانسحاب الكامل ستكون صعبة ومرتفعة جداً ولها تبعات خطيرة»، وبالتالي «افترض أن الانسحاب سيكون نسبياً».

الروس - وفق التصور الذي يُقدمه اكليمندوس- ليست لديهم القدرة وحتى الرغبة في أن يحلّوا محل الولايات المتحدة كقوة مهيمنة أو مؤثرة على الشرق الأوسط، في حين أن الأوروبيين لديهم ثلاث أولويات: (قضية الهجرة، ومكافحة الإرهاب، والسوق أو المصالح الاقتصادية). كما أن قدرة أوروبا على التدخلات العسكرية يمكن وصفها بـ «الضعيفة نسبياً»، وقطعاً لن تحل محل النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط.

بينما تركيا التي «لديها طموحات كبيرة اضطرت لتخفيضها في أطر التعامل مع الملف الكردي، موقفها أضعف من تصريحاتها وطموحاتها، وتواجه أزمة اقتصادية وهناك حالة عدم ثقة دولية فيها».

تساؤلات

ويبدو أن الولايات المتحدةــ على الأقل في خطابها الرسمي - تخلت عن التزاماتها السابقة تجاه قضايا المنطقة، لكن المحلل السياسي التركي محمد زاهد غول يعتقد بأن «الحضور الأمريكي في المنطقة لن يتأثر كثيراً، ولا يمكننا أن نتحدث عن انسحاب تام»، وهو يتفق بذلك مع ما طرحه الدكتور اكليمندوس في قراءته للأوراق المتناثرة الراهنة التي تفرزها السياسات الأمريكية بالمنطقة.

ويقول غول في السياق ذاته إنه ليس من الضروري أن يعني انسحاب القوات الأمريكية أن واشنطن لن تعود للمنطقة مرة أخرى؛ ذلك أنها موجودة بالفعل في العراق وبشكل أكبر مما كانت عليه، ولها قواعد في المنطقة وفي تركيا».

وفي خطٍ متوازٍ مع الغموض الدائر حول الانسحاب الأمريكي وطبيعة الدور الذي ستلعبه واشنطن في ضوء ذلك، تثور تساؤلات حول فرص قوى إقليمية ودولية في الإرث الأمريكي، ابتداءً من الدور الأوروبي الذي يصفه غول بأنه «الدور الأضعف في الوقت الراهن؛ بسبب العوامل الاقتصادية والسياسية التي تمر بها القارة العجوز»، وحتى الدورين الروسي والتركي كجزء رئيسي من التجاذبات السياسية القائمة.

أصحاب الدور

أوروبا ــ وفق تلك القراءة ــ تأثيرها في ضوء الظروف التي تشهدها «لم يعد كما كان عليه في السابق بالمنطقة»، ويمكن أن يقال إن الفاعلين الإقليميين (تركيا وإيران ودولاً عربية بخاصة المملكة العربية السعودية) هم أصحاب الدور البارز أكثر في الشرق الأوسط، أكثر بكثير من الدور الذي كانت تلعبه أوروبا في السابق.

ويشير في السياق ذاته إلى أن الدور الروسي يتعاظم بشكل كبير، وكذا الدور التركي، لكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك بشكل مدروس، على اعتبار أن «تركيا يتعاظم دورها مستفيدة من تراجع أدوار عربية أو دور إيران أو بالاستفادة من الانسحاب الأمريكي الذي قد يعطي الأتراك مساحة للعب دور بارز»، في تقدير غول.

وتعتبر تلك المعطيات شارحة لمدى إمكانية كل طرف من الأطراف الفاعلة في تحمل الإرث الأمريكي بالمنطقة.

وفي سوريا على سبيل المثال كان نطاق الوجود الأمريكي يتجاوز نسبة الـ 20 في المئة من الجغرافية السورية، هذا الفراغ «لا يمكن لأي طرف من الأطراف المذكورة ــ في ضوء تلك المعطيات ــ سده، والطرف الأصيل الذي يجب عليه ملء ذلك الفراغ هي الحكومة السورية باعتباره صاحب المشروعية الدولية حتى هذه اللحظة، لكن في ظل الظروف التي تعيشها الحكومة السورية بعد سبع سنوات من الحرب فإن «الأطراف الخمسة (أمريكا وروسيا وتركيا وإيران وإسرائيل) قد تتفق في إطار تبادل المصالح أو في إطار تبادل ما يتعلق بالإرث الأمريكي في المنطقة، أو أن الخلافات البينية بين هذه الدول هي التي ستطفو على السطح بشكل بارز»، على حد قوله.

فيما يعتبر أن إيران و«داعش» قد يكونا الأكثر استفادة إذا حدث الانسحاب الأمريكي خلال فترة قصيرة».

الموقف الإيراني

وفي ضوء غموض التوجه الأمريكي نسبياً فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، فإن واشنطن في الوقت ذاته واضحة إلى حدٍ كبيرٍ في استراتيجيتها الجديدة بخصوص التعامل مع إيران، فقد ألغت الاتفاق النووي في مايو الماضي وفرضت حزمتين من العقوبات على طهران (الأولى في أغسطس الماضي والثانية في نوفمبر) كما تحشد لمؤتمرٍ دولي ينعقد في العاصمة البولندية وارسو ضد إيران فبراير المقبلة، ذلك بموازاة تحليلات يعتقد أصحابها بأن الانسحاب الأمريكي من سوريا ــ ولو كان متدرجاً - قد يعطي مساحة لإيران لملء الفراغ هناك، وهذا ما يتحدث بشأنه الخبير في الشؤون الإيرانية الدكتور نبيل العتوم، الذي يقول لـ«البيان» إن الانسحاب المتدرج لأمريكا من الملف السوري ربما يعطي مجالاً أو هامشاً لإيران لممارسة ما يسمى باستراتيجية ملء الفراغ بحثاً عن مزيد من المكاسب الميدانية على الأرض ولتحسين شروط تفاوضها مع واشنطن ومع الغرب عموماً.

لكنّه في الوقت ذاته يعتقد بأن «الانسحاب الأمريكي من الملف السوري لا يعني انسحاب واشنطن من المنطقة، ذلك في إطار إعادة انتشار القوات الأمريكية في العراق، كما أثيرت أنباء بأن واشنطن قدمت لبغداد قائمة بـ67 ميليشيا تتبع لإيران يجب تجميدها، وربما يأتي هذا لتجريد إيران من مخالبها وعناصر ميليشياتها من القوة، وربما ذلك يخدم الاستراتيجية الأمريكية الطامحة إلى تحجيم النفوذ الإيراني المتعاظم في سوريا والعراق، بمعنى أن المتغير الأول هو الانسحاب المتدرج للقوات الأمريكية من سوريا ثم الأمر الثاني إعادة انتشار القوات في العراق».

وفي ضوء الاستراتيجية الأمريكية للتعامل مع طهران، جاءت جولة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في المنطقة ــ في تصور العتوم - من أجل بناء استراتيجية شاملة تعتمد على الحلفاء الإقليميين من أجل تضييق الخناق على إيران (...) وتهدف واشنطن إلى إرسال رسائل إلى إيران بأن الخيارات أمام الأخيرة ضيقة ولا مجال إلا الجلوس على طاولة المفاوضات لفتح حوار مباشر.

وفي ضوء ذلك فإن مؤتمر وارسو الذي من المقرر أن ينعقد في 13 و14 فبراير المقبل يشكل «حشداً للضغوط الإقليمية والدولية باتجاه بناء تحالف لمواجهة النفوذ الإيراني؛ على اعتبار أن الولايات المتحدة بدأت ما يسمى باستراتيجية الحلفاء لمواجهة النفوذ الإيراني المتعاظم في المنطقة.. هذا التحالف سيقود فعلياً إلى بناء استراتيجية خاصة لمواجهة إيران وسوف يحد من نفوذها»، كما يقول العتوم.

اضطراب مفتعل

قراءات أخرى للموقف الأمريكي في سوريا بشكل خاص والمنطقة عموماً يعتقد أصحابها بأن «الغموض» الذي يحوم حول السياسة الخارجية الأمريكية أو الاضطراب الذي تبدو عليه، هو اضطراب مفتعل وجزء من الاستراتيجية نفسها، وهذا الرأي يميل إليه الوزير السوري السابق الدكتور رياض نعسان آغا، والذي يعتقد بأن«الانسحاب الذي أعلن عنه ترامب هو مشهد من حرب التصريحات، وهو موضوع رمزي وليس ذا قيمة عسكرية؛ لأن الرمز هو العلم الأمريكي المرفوع في القاعدة العسكرية، أما القوات الأمريكية فهي تحيط بالمنطقة من كردستان العراق إلى تركيا إلى البحر المتوسط إلى كل القواعد الأمريكية المنتشرة في المنطقة».

إذن المضمون سياسي وليس عسكرياً، وفيه رسالة للأكراد أولاً، ثم رسالة للأتراك، وفيه تطمين لإيران والحكومة السورية، وفتح لأبواب الاحتمالات، ولاسيما حين أبدى ترامب عدم اهتمامه بالمنطقة وقال إنها «صحراء ودمار». وفي تغريدة ثانية قال لأردوغان «سوريا لك»، وهذا عبث سياسي، وفي يوم واحد هدد تركيا بحرب اقتصادية صباحاً، ثم وعدها مساءً بتعاون اقتصادي كبير، هذا يعبر عن حالة اضطراب مفتعلة؛ ليعكس اضطراباً على سياسات المنطقة كلها، وفق الوزير السوري السابق.

أما سؤال (من يملأ الفراغ الذي تخلفه أمريكا في سوريا بشكل خاص؟) فهو- في تصور آغا الذي طرحه في حديثه لـ«البيان» - حالة افتراضية، لأن المنطقة ليست فراغاً، فهي منطقة سورية مأهولة بالسكان وأهلها أصحابها، وستبقى سورية خالصة، وأي سيطرة عليها من الخارج ستبقى مؤقتة، فالعرب والأكراد والحكومة والمعارضة معاً سوريون وهم يعيشون مرحلة تحولات مرحلية دموية، لكن الثوابت ستعيد الأرض لأصحابها بالضرورة، ولن تكون أرضاً روسية أو أمريكية أو إيرانية أو تركية أو فرنسية بالتأكيد.

ويتابع آغا: «لا أرى ما يسمى بالإرث الأمريكي كي يرثه الآخرون.. القضية متعلقة ببقاء بشار الأسد (فترة تطول أو تقصر)، وحين تنتهي سيكون الوضع مختلفاً مع جميع المتدخلين، وهذه حقيقة تعرفها كل الأطراف الدولية، ويدركون أن بدء مرحلة جديدة (ما بعد الأسد) تعني انتهاء نفوذهم».

باحثة سورية لـ« البيان  »: الانسحاب غيّر المعادلات السورية

تعتقد المستشار السياسية والباحثة السورية المقيمة في واشنطن مرح البقاعي، في حديث لـ«البيان»، أن «الانسحاب الأمريكي غيّر ويغيّر في المعادلات السورية، وفي نظرة الدول الإقليمية والدولية المنخرطة في العملية السورية.. وقد رأينا ما حدث في الشمال، هناك تطورات سريعة جداً بدءاً من الحديث عن المنطقة الآمنة مروراً بالحديث عن مَن سيشغل ويدير هذه المنطقة وحتى موقف النظام وحلفائه منها مقابل موقف تركيا، وموقف الطرف الثالث وهو الولايات المتحدة التي هي المعنية الأولى بمن سيشغل المنطقة بعد انسحابها، لا سيما أن لديها حلفاء أكراداً».

وتقترح في مسألة إدارة المنطقة الآمنة تواجد قوات عربية، أطلقت عليها «القبّعات الخضر»، لتقوم مقام قوات الفصل في منطقة آمنة تُحدد بطريقة لا تعتدي على أي مكون، بل تضم كل مكونات المجتمع السوري وتحميهم من أي تطور عسكري أو ميداني من الممكن أن يؤذي المدنيين.

وفي السياق، فإن الانسحاب الأمريكي -في تصوّر البقاعي- لن يغير في استراتيجيات واشنطن بالملف السوري، فهو يغير فقط من التكتيك في التحرك على الأرض السورية؛ ذلك أن واشنطن ليست بحاجة لألفي جندي على الأرض السورية من أجل أن تطبق استراتيجيتها في المنطقة عامة وفي سوريا بشكل خاص، هي بحاجة لقوتها السياسية ونفوذها السياسي، علاوةً على أن قواتها موجود في البحر قريباً من السواحل السورية.

أما عن الموقف الروسي في ظل الانسحاب الميداني الأمريكي، فتعتقد المستشارة السياسية أن موسكو «تدير كل الملفات دون استثناء في سوريا، ولديها توافقات معينة مع جميع الأطراف، في مقدمتها الولايات المتحدة.. وأن أي موقف تتخذه روسيا في الملف السوري تحديداً أو تتخذه الولايات المتحدة في الملف نفسه يكون هناك نوع من التوافق المضمر وغير المعلن على الأقل على المبدأ بين القوتين العظميين».

وقد نجحت روسيا في تأمين كل مصالحها في سوريا، بما في ذلك قواعدها التي تبقى فيها لمدة 49 عاماً قابلة للتمديد، إضافة إلى نفوذها السياسي وسلطتها على السلطة الموجودة في دمشق، فضلاً عن وجودها الميداني المنتشر، وتأمين وجودها بمنظومة إس 300 لحماية وجودها.

بينما دول الاتحاد الأوربي -حسب البقاعي- يبدو موقفها ضائعاً بين تغريدات ترامب ومصالح روسيا، وبين النفوذ التركي ومصالحه في سوريا، مردفة: «نحن نعرف أن الاتحاد الأوربي أيّد في البداية مطالب التغيير في سوريا، لكن الاتحاد الآن مواقفه يشوبها الكثير من الغموض والضبابية.. الحقيقة لا توجد استراتيجية أوروبية واضحة في الملف السوري، ربما نجد تصريحات من هنا وهناك، مرة من الرئيس الفرنسي وأخرى من المستشارة الألمانية وثالثة من وزير خارجية بريطانيا، في تصريحات متناقضة ولا تعبر عن جوهر الاتحاد الأوروبي وجوهر استراتيجية قوية ذات منحى ثابت باتجاه الملف السوري للأسف.. ولا أعتقد بأن هناك ما يمكن أن يضيفه الأوربيون حالياً أمام الحشد الكبير بين الدول الكبرى المؤثرة وذات النفوذ في سوريا».