قطاع غزة منطقة مساحتها ضئيلة، لكنّها تعج بحكايات التاريخ وبصماته التي تؤكد ثراءها بالحضارات، وما زالت المناطق الأثرية التي تعود لقرون مضت شاهدة على حكاية التاريخ في هذه البقعة من الأرض.
ولا شك أن اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي المتكررة، على غزة تطال كل شيء فلا تسلم منها الأماكن الأثرية. ويتقاطع مع هذه الاعتداءات غياب الاهتمام من جانب الجهات المعنية، وربما ضعف الإمكانات، ما أثّر بالسلب على السياحة والآثار في القطاع.
الإعلامي فادي الحسني، من غزة، يؤكد في بحث ميداني أن الاستهتار بالمناطق الأثريّة في غزّة بلغ أقصى مداه، بتخصيص حكومة غزّة منطقة أثريّة تدعى «تلّ السكن»، شمالي مدينة الزهراء وسط القطاع، من أجل إقامة أبراج سكنيّة لموظّفيها، تعويضاً عن مستحقّاتهم الماليّة المتأخّرة منذ عام 2015.
ولم تمنع المناشدات التي وجّهتها جهات محلّيّة ودوليّة مثل «اليونسكو»، ووزارة السياحة والآثار في رام الله، ووقفات احتجاجيّة، مواصلة أعمال التجريف في الموقع، التي أتت على 20 دونماً منه.
يقول الحسيني في بحثه إن غزّة شهدت عام 1998 مشروعاً للتنقيب عن الآثار بجهود وزارة السياحة والآثار آنذاك، وبمساعدة بعثة فرنسيّة قادها خبير الآثار الفرنسيّ جان باتيست، المسؤول عن التنقيب في غزّة بموجب اتّفاقيّة وقّعها الرئيس الفلسطينيّ الراحل، ياسر عرفات، مع الرئيس الفرنسيّ الأسبق، جاك شيراك، عام 1994.
وقد اكتشف خلال هذا المشروع عدد من المواقع الأثريّة، كان من أبرزها «تلّ السكن» الذي يشهد على حضارة تعود للعصر البرونزيّ الأوّل، أي قبل خمسة آلاف عام. غير أنّ أعمال التنقيب توقّفت عقب اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، خمس سنوات متتالية، لتُستأنف بعد الانسحاب الإسرائيليّ من القطاع عام 2005، وما لبث أن استمرّت عامين آخرين، حتّى توقّفت بفرض الحصار على غزّة. ومنذ ذلك الحين، لم تحظ المواقع الأثريّة المكتشفة، أو حتّى المغمورة، باهتمام الجهات الرسميّة، لتوقّف البعثة الفرنسيّة عن زيارة تلك المواقع، ولضعف الإمكانات المتاحة محلياً، على الرغم من وجود وزارة سياحة وآثار من مسؤوليّتها أداء هذا الدور.
ويرى عديدٌ من الخبراء أن الحصار المفروض على غزة انعكس بالسلب على تلك الآثار وحال دون إقبال آلاف المواطنين والخبراء الدوليين على زيارتها، ما أدى إلى تضاؤل أعداد الوافدين إليها.
مسؤولية دولية
ووفقاً لـ«وكالة الرأي الفلسطينية» فإن آثار غزة ترتبط بفترات تاريخية مضت، من العصر الكنعاني مروراً بالعصر العثماني؛ ومنها ما إلى بداية الاستعمار البريطاني، ومن أشهرها قصر الباشا والمسجد العمري الواقعان في البلدة القديمة بغزة. وثمّة قصر الباشا الذي يعود للفترة المملوكية، وكان مقراً لنائب غزة في العصرين المملوكي والعثماني، أما أثناء الانتداب البريطاني فكان مركزاً للشرطة، وقد أقام نابليون فيه ثلاث ليالٍ، أثناء عودته بعد هزيمته في عكا سنة 1799م.
كما يعد دير القديس «هيلاريون» الذي يعود للعصر البيزنطي من أهم الأديرة الأثرية في فلسطين، وهو عبارة عن تلة أثرية عثر فيها على أرضية فسيفسائية أثناء تسوية الرمال، وفي هذا الموقع تكوينات معمارية خاصة بكنيسة ذات النظام البازيليكي ذي الثلاثة أروقة.
ومن المناطق الأثرية «الكنيسة البيزنطية» في جباليا، التي تعود للفترة الزمنية 408م، وهي - وفقاً لوكالة الرأي- تعد من أهم الكنائس في بلاد الشام، وتشتمل على عناصر معمارية متكاملة، وتحتوي على أرضيات فسيفسائية ملونة تصور الحياة الطبيعية في غزة، وأخرى تقع في مخيم النصيرات، حيث زارها العديد من الشخصيات المسيحية الغربية.
ومن بين المناطق الأخرى مقام الخضر، الذي يقع وسط مدينة دير البلح، وكان عبارة عن مسجد وفيه محراب، يحتوي على ثلاث قباب وساحة، ومن تحته المزار، وفيه قبر صغير من الغرب إلى الشرق، وهناك بلاطة مكتوب عليها باللغة اليونانية، وبلاطة أخرى عليها أثر صليب.
وعثر في منطقة رفح مؤخراً على أماكن أثرية وقطع نقدية تعود لعصور سابقة وهي عبارة عن بنيان يعود إلى العهد الروماني، وعثر على كنز يضم 1360 قطعة نقدية ذهبية تعود للعصر العثماني في المنطقة ذاتها، وعلى مومياء تعود للعصر اليوناني.
منطقة وصل
وينقل الإعلامي فادي الحسني عن المتخصص في التراث فضل العطل أنه في هذه المدينة التي تعد من الأقدم في العالم، يمكن العثور على آثار تعود إلى 3500 عام قبل الميلاد، وآثار لكل الحقب التي تتالت بعد ذلك، وفقاً للخبير الذي يوضّح أنه مر على هذه المنطقة التي تصل إفريقيا بآسيا، الفراعنة والرومان والبيزنطيون والمسيحيون الأوائل والجيوش الإسلامية. ويوضّح العطل أن «النقود كانت هنا تسك من الذهب أو الفضة»، ويؤكد أن «الشباب يفرحون حين يعلمون أن غزة كانت يوماً ما ثرية».
وعثر مؤخراً في المدينة القديمة على أعمدة رخام وقطع أثرية لكنيسة تعود إلى العهد البيزنطي، خلال قيام جرافات بحفر الأرض تمهيداً لبناء مجمع تجاري.
وقام فنيون من وزارة الآثار والسياحة بنقل الأعمدة والتيجان والقواعد الرخامية المزخرفة، إلى المتحف الوحيد في غزة «قصر الباشا» لتنظيفها وترميمها قبل عرضها.
ويؤكد علماء آثار أن هذه البقايا التي اكتشفت صدفة هي آثار مبنى ديني، كنيسة تعود إلى العصر البيزنطي، وأن كل شيء في المكان يجزم أن المبنى الديني كان كبيراً، ربما كنيسة أو كاتدرائية في عهد الإمبراطور جستينيان الذي اهتم ببناء الكنائس الكبيرة في غزة.
وعثر أيضاً على العديد من الطبقات الأثرية مع الحفريات منها ما يعود إلى العهد البرونزي، وبعض الجثث لحيوانات وفخّاريات وصحون وأوان فخارية مهشمة ربما بفعل الجرافات، وفق الخبراء.
ولم تنجح احتجاجات العديد من المسؤولين والأوساط المسيحية في وقف أعمال البناء في هذا المجمع التجاري الذي سيتكون من 18 طبقة والذي تملكه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية التي تديرها حركة حماس.
ظروف معاكسة
وعلى بعد نحو مئة متر جنوب شرق هذا الموقع تتربع كنيسة «القديس برفيريوس» التي بنيت في القرن الرابع الميلادي ومن الجهة الشرقية يقع المسجد العمري الكبير.
ويؤكد الحسني أن مشاريع الحفاظ على الآثار تتطلب عملاً على المدى الطويل، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل الحصار المفروض على القطاع، عدا عن الحروب المتعاقبة. وفي ظل هذا الواقع المأساوي أهمل التراث وتركزت الجهود على البنى التحتية والمنازل المدمرة.
لذلك فإن باحثي الآثار في غزة الذين يشكون من ضعف الإمكانيات المادية وقلة الأدوات والطواقم للبحث عن الآثار، يناشدون منظمة «اليونسكو» والمنظمات المعنية بالآثار، إنقاذ آثار غزة من الضياع.
توابيت كنعانية مسروقة
ما بين عامي 1972 و1982، قامت دائرة الآثار في الجامعة العبرية بالقدس المحتلة، بالتعاون مع جمعيات أمريكية، بالتنقيب عن الآثار في منطقة دير البلح وسط قطاع غزة، للاشتباه بهذه المنطقة بوجود كنوز كنعانية وحضارية فيها، كونها العاصمة الجنوبية لدولة فلسطين قديماً.
وتمكن علماء الآثار حينها من اكتشاف كميات كبيرة من الآثار، وبسبب هيمنة الاحتلال الإسرائيلي على المنطقة حينها، تم سرقة جميع ما تم اكتشافه ووضع بمتحف «الروكلفر» بالقدس المحتلة، والذي يتواجد فيه العديد من الآثار الفلسطينية والعربية التي تم سرقتها من لبنان وسيناء خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي لتلك البلدان.
وأهم ما تم اكتشافه في هذه المنطقة هي مجموعة من التوابيت الكنعانية، وقدر عددها بخمسين تابوتاً، يعود تاريخها إلى 1200 عام قبل الميلاد، صممت من الفخار الخالص بشكل هندسي رائع، يوحي بالإعجاز المعماري للكنعانيين بتلك الفترة، ويتواجد بكل تابوت جثمان المتوفى حينها، مع بعض الحلوى، ومقتنيات معينة خاصة به، كحلي زوجته، وخاتمه، وأوانٍ خاصة به، وثيابه أيضاً، وكذلك بعض الطعام لاعتقادهم قديماً بأن الميت قد يستيقظ ويجوع تحت التراب.
حيث كان يتم وضع لأجل ذلك في التوابيت بعض من لقاح النخيل ونبتة الميرتل الفلسطينية، لاعتقادهم قديماً بأنه يرد الروح إلى الجسد في الحياة الباقية تحت التراب، كما وجدت في التوابيت عظام للضفادع، والضفادع مقطوعة الرأس هي من الطقوس الجنائزية قديماً عند الكنعانيين.
اقرأ أيضاً: