لمشاهدة الغرافيك بالحجم الطبيعي اضغط هنا
اعتمدت جميع الأطراف السورية التدخل الأجنبي سلاحاً رئيسياً في رهانها لربح الحرب ضد الأطراف الأخرى، وشجع دعم الدول الأجنبية الأطراف السورية المتنازعة على التطرف في المواقف، كما أسهم في قتل روح الحوار أو البحث عن حلول سياسية تفاوضية، وكانت نتيجة ذلك تجذير الانقسام بين القوى السورية، قبل التخلي المفاجئ عن دعمها وتركها لمصيرها، من دون قدرة على الحسم العسكري أو التفاهم السياسي.
تشريح موجز، قدّمه المفكر السوري الدكتور برهان غليون، لواقع التدخلات الخارجية في الملف السوري منذ بدء الأزمة، سواء تلك التدخلات الداعمة للحكومة السورية، أو تلك الداعمة للمعارضة المسلحة وأطراف أخرى، والتي حوّلت المشهد السوري إلى ملعبٍ للصراعات الدولية».
وهذه الحالة نفسها التي عبّر عنها المفكر السوري د.رياض نعسان أغا، في حديثه مع «البيان»، واعتبر أن «سوريا صارت بيتاً منهوباً بلا أسوار، ما دعا كل من هبَّ ودبَّ إلى أن يتدخل في شؤونها سياسياً أو عسكرياً». وقال إن تلك الحالة «لن تنتهي إلا حين يقرر مجلس الأمن تنفيذ قراره 2254 وتبدأ مرحلة حكم انتقالي».
أمريكا وتركيا
جاء التحوّل الأخير في الموقف الأمريكي، والذي قاد إلى ضوء أخضر لتركيا لتنفيذ عدوان عسكري شمالي سوريا أخيراً، ضمن تلك التحوّلات الفاصلة التي يشهدها الملف السوري، والتي تقود إلى سيناريوهات مفتوحة، تتأثر بها الأطراف المختلفة، وليس فقط الطرف الكردي، وتنعكس على المسار السياسي برمته، وحتى على العلاقات الداخلية المتشابكة والعلاقات الدولية والإقليمية، بين الدول المنخرطة في الملف السوري، بداية من تركيا والولايات المتحدة وحتى روسيا وإيران، والأطراف الداخلية الممثلة في الحكومة السورية، والمعارضة وبمختلف توجهاتها، وحتى الأكراد.
العدوان التركي جاء ليحقق جملة من الأهداف التي كانت تسعى إليها تركيا، بما عزز موقف أنقرة كلاعب رئيسي وطرف فاعل بالملف السوري عقب غزوها للشمال السوري. ويؤكد الباحث في الشأن التركي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، كرم سعيد، في تصريحات لـ «البيان» أن أنقرة حققت من العدوان بعض المكاسب في ضوء التحوّل الأخير في الموقف الأمريكي، بما «ينعكس على مسار العلاقات بين الدول المنخرطة في الملف السوري، وحتى على صعيد احتمال إعادة صياغة العلاقة بين أنقرة والحكومة السورية في دمشق، برعاية روسية»، طبقاً لسعيد، الذي يشير إلى أنه من بين الأمور التي تسهم أيضاً في تغيير المعطيات التالية في الملف السوري احتمالية أن تعيد روسيا صياغة المجال الجوي السوري.
ويؤكد سعيد: «هناك قلق حقيقي من أن تؤثر تلك التطورات (على الأرض) على المسار السياسي». لكن في الوقت ذاته فإن التفاهمات الروسية التركية بشكل خاص تحت مظلة الأستانة لدعم المسار السياسي، قد تدفع بدورها اللجنة الدستورية، باعتبارها المسار الوحيد الآن.
الدور الروسي
وأمام هذا التدخّل التركي المُتنامي والمدفوع بأطماع تاريخية معروفة في الشمال السوري، لا يُمكن تجاهل أثر التفاهمات والتحولات الجديد، دون الدور الروسي، باعتباره طرفاً رئيسياً ومؤثراً في المشهد السوري، وأمام تلك التحوّلات والتفاهمات الأمريكية التركيّة التي تمت.
«ولا يخفى على أحد أن هناك توافقات روسية-تركية في العديد من الأمور في الملف السوري (..) هذه التوافقات لا تعني تطابق وجهات النظر، ولكن فقط تأتي في إطار الشد والجذب بين كل من الموقف الروسي والأمريكي تجاه تركيا»، طبقاً لما يؤكده المحاضر والباحث في معهد العلاقات الدولية بجامعة لوباتشيفسكي الحكومية الروسية، الدكتور عمرو الديب، في تصريحات لـ «البيان».
الشد والجذب بين الجانبين يأتي في خطٍ متوازٍ مع تلك التفاهمات التركيّة الأمريكية. وطبقاً للديب، فإنه «بالنسبة للعلاقات التركية-الأمريكية فيما يخص الشمال السوري، ليس هناك اختلافات كبيرة، فواشنطن اختارت أنقرة بصفتها الحليف الاستراتيجي لها، وبصفتها الجيش رقم 2 في حلف شمال الأطلسي «ناتو» من حيث العدد بعد الولايات المتحدة، ذلك أن تركيا أيضاً عمود مهم من ضمن أعمدة حلف الناتو، ولا يمكن للأمريكان أن يختاروا حلفاءهم الأكراد ويتركوا تركيا».
أما بالنسبة لروسيا - طبقاً لتحليل الديب - فهناك رغبة منها في «إبعاد تركيا عن الولايات المتحدة وحلف الناتو عن طريق التقاربات العديدة معها، رغم إسقاط تركيا لطائرة روسية، وبالرغم من مقتل السفير الروسي على أراضيها.. فباعت روسيا منظومة إس 400 لأنقرة، من أجل تعكير العلاقات التركية مع الناتو وواشنطن، إلا أن ذلك لم يحدث حتى الآن، فالولايات المتحدة لا يمكن لها الاستغناء عن تركيا».
تلك التحوّلات، لا يعتقد الديب بأنها سيكون لها أثر إيجابي على الملف السوري، وقال: «تلك التفاهمات تؤثر بشكل سلبي على الملف السوري، فنحن الآن أمام حقيقة أن الأراضي السورية قُسمت، ولو أن هناك تأكيدات من جانب القيادة التركية بأن الجيش التركي سينسحب من الشمال بعد الحصول على تأكيدات من روسيا وسوريا بعدم السماح بإقامة أي فيدرالية مع الأكراد.. أعتقد أنه لن يحدث أي انسحاب تركي في المستقبل القريب بسبب عدم احترام أردوغان لأي اتفاقيات تمت على المسرح السوري. وفيما يخص الولايات المتحدة فيكفيها أنها تسيطر على مثلث الحدود العراقي السوري الأردني، وتركت الأكراد يواجهون مصيرهم».
الحكومة السورية
بموازاة ذلك، فإن تواصل الدعم الروسي للحكومة السورية، سياسياً وعسكرياً، يُنذر بحفاظ السلطات السورية على قدمٍ ثابتة في التفاهمات والتحوّلات التي يشهدها الملف السوري، مع تأكيد دمشق أنها ماضية في بسط هيمنتها على كل شبر من أراضي الدولة السورية.
«الأوضاع على الأرض هي الحاكم الرئيسي لأي تفاهمات سياسية هادفة لحل الأزمة»، طبقاً لما يؤكده اللواء السابق بالجيش المصري، السيد خضر، رئيس جمعية الصداقة المصرية السورية، لدى حديثه مع «البيان»، والذي قال إن «اللجنة الدستورية التي تم تشكيلها أخيراً هي المسار السياسي الوحيد الحالي الذي يُمكن السير فيه بشكل عملي»، معتبراً أن «هذا المسار حتماً ما يتأثر بالتجاذبات والأوضاع على الأرض.. وكلما نجحت الدولة السورية في تحرير الأرض، وكلما دُحرت الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية، كان ذلك بمثابة عامل داعم للعملية السياسية».
وتابع: «الدولة السورية عازمة بشكل قاطع على مواصلة التقدم، وتحرير ما تبقى من أراضٍ»، وذلك في تقديره هو المحك الرئيسي والمؤثر على مسار العملية السياسية، والحل السياسي. وإذا ما تم ربط ذلك التحليل بما ذهبت إليه قراءات أخرى وتكهنات أخرى - على غرار ما تحدث بشأنه الباحث كرم سعيد لـ «البيان» - بخصوص احتمالية وجود مقاربة جديدة فيما يتعلق بالعلاقات بين أنقرة ودمشق ، برعاية موسكو، يكون ذلك أحد السيناريوهات الدافعة باتجاه الحل.
مستقبل أكراد سوريا
التفاهمات الأخيرة أيضاً والتحوّلات بالموقفين التركي والأمريكي، كانت لها تداعيات مباشرة على أكراد سوريا، ومستقبلهم في ضوء نتائج العدوان الأخير، وتخلي الولايات المتحدة عنهم عملياً لصالح تفاهمات مع الأتراك. ويفند المفكر السوري، رياض نعسان أغا، موقف الأكراد في ظل تلك المستجدات الطارئة على الملف السوري، بالإشارة إلى أن «الولايات المتحدة لن تساعدهم في مشروعهم في المنطقة، وكذلك روسيا لن تخسر تركيا أو تخسر السلطة السورية من أجل إقليم كردي، كذلك إيران لن تدعم المشروع الكردي، لأنه سيمتد إلى إيران بوصفها المهد الكردي تاريخياً، وهذا ما حقق توافقاً (سورياً روسيا أمريكياً وإيرانياً) على العملية التركية، مع تفاوت إعلان المواقف، بحسب نعسان آغا.
وقال: «كان صعباً على الولايات المتحدة أن تضحي بعلاقاتها النوعية مع تركيا (وهي عضو في الناتو) لإرضاء بعض الأكراد، وقد قبلت تركيا بوقف إطلاق النار مقابل الانسحاب الكردي الذي ضمنته الولايات المتحدة إلى مواقع محددة ضمن توسعة مساحة اتفاق أضنة القديم بين تركيا وسوريا. ومن الواضح - طبقاً لأغا - أن الشعب السوري في غالبيته يرفض اقتطاف أي جزء من الأرض السورية، وكذلك السلطة في سوريا لا تقبل بذلك.
وأمام تلك التحوّلات المتواترة، فإن الملف السوري يظل مفتوحاً على جميع السيناريوهات، في سياق الصراع بين القوى الدولية والإقليمية، ومدى التقارب أو التباعد في وجهات النظر، وما يشكله ذلك من تداعيات مباشرة على السوريين في غيبة أي طرف سوري عن تحديد المسار والمصير.
تقويض جهود واشنطن
سلطت المستشارة السياسية، والكاتبة السورية الأمريكية، مرح بقاعي، الضوء على مسألة اعتبار أن الانسحاب الأمريكي من سوريا، وإعطاء واشنطن الضوء الأخضر لدخول الأتراك، بوصفه «تخلياً غير أخلاقي عن الحلفاء»، طبقاً لتعبير مشرعين أمريكيين، بعد أن دان الكونغرس الأمريكي قرار الرئيس دونالد ترامب، بسحب القوات، والتخلي عن حلفاء واشنطن المحليين الذين قاتلوا من أجل دحر تنظيم داعش الإرهابي.
وعن تداعيات ذلك التحوّل الأمريكي على الوضع في الشمال السوري تحديداً، تشير إلى أنه - طبقاً لمشرعين أمريكيين - من شأنه تقويض الجهود التي بذلتها واشنطن سابقاً في مكافحة الإرهاب، بعد أن تركت الساحة إلى تركيا، وعقب أن حلت الفوضى في تلك المناطق التي يتم فيها احتجاز آلاف الدواعش.
روسيا وأمريكا وبينهما تركيا
في خضم التحوّلات التي يشهدها الملف السوري، يعتقد المحلل السياسي الكردي، إبراهيم كابان، أن هناك «صراعاً أمريكياً روسياً حول مسألة التدخل التركي في سوريا»، وأن هناك «محاولة لإرضاء الطرف التركي في اقتطاع جزء من سوريا وإلحاقه بالدولة التركيّة (..) ما يعطي تركيا مساحة للتحرك»، مستشهداً في السياق ذاته بما حدث من قبل في مدن عفرين وإعزاز والباب وجرابلس، وأخيراً ما حدث شمال سوريا، من خلال التحوّل الأمريكي، الذي سمح لتركيا بالتوغل في المنطقة الممتدة من رأس العين وتل أبيض، لكنّه في الوقت ذاته رجح أن تراجع الإدارة الأمريكية موقفها، وأن تكون هنالك تحولات جديدة على المدى القصير.