تحاول دول امريكا اللاتينية ان تحمي وجودها بعد ان كثير الحديث عن (العولمة) في الاقتصاد, وتحول العالم الى قرية صغيرة بفضل ثورة تكنولوجيا الاتصالات, خاصة ان هذه المنطقة مع غيرها من مناطق العالم المتخلف كانت اكثر المناطق التي عانت من آثار (الحرب الباردة) تلك الحرب التي اخترعتها الولايات المتحدة الأمريكية لتفرض هيمنتها على مناطق كثيرة من الكرة الأرضية, واستخدمتها في مواجهة محاولات التحرر التي شهدتها فترة الخمسينيات والستينيات من هذا القرن. وبما ان الاقتصاد هو المحرك الاساسي لأي سياسات خارجية في عالمنا المعاصر, قامت في امريكا اللاتينية عدة محاولات لخلق تكتلات اقتصادية تسمح لها بتنمية حقيقية تساعدها على اتباع سياسية مستقلة تجاه المشاكل الاجتماعية, التي تعتبر من اهم مخلفات فترة الحرب الباردة, التي كانت فيها معظم دول امريكا اللاتينية مسرحاً لأقسى المواجهات بين الغرب والشرق, خاصة المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق. بعد قيام عدة تجمعات اقتصادية على عجل, مثل (دول الانديز) , نجحت البرازيل والأرجنتين والاوروجواى والباراجواي عام 1995 في تكوين أول تجمع اقتصادي حقيقي يهدف الى نوع من التكامل الاقتصادي, مع ترك المجال مفتوحاً امام تلك الدول لتمارس سياسات خارجية تمليها عليها توجهاتها الايدولوجية, على الا تتنافي هذه السياسات بقدر الامكان مع تطور التجمع الاقتصادي, الذي اطلقوا عليه اسم (ميركوسور) اي (سوق الجنوب) , هذه السوق لها حجمها الذي يمكنها من القيام كتجمع اقتصادي اقليمي رغم العدد القليل لاعضائها, فالدول الأربع يصل حجم انتاجها الى ما يزيد عن 800 مليار دولار, ويبلغ مجموع سكانها معا اكثر من 200 مليون نسمة. نجاح هذا التجمع خلال فترة قصيرة دفع العديد من الدول المجاورة مثل التشيلي وبوليفيا الى التفكير في الانضمام إليه, وذلك يعود الى انه خلال السنوات الثلاث الماضية نجحت الدول الأربع في الوصول تدريجيا الى نوع من التبادل الاقتصادي ادى الى زيادة حجم التجارة البينية من 500 مليون دولار الى 17 مليار دولار, رغم ان هذا الرقم يعتبر اقل بكثير من تطلعات الدول الاعضاء, خاصة ان هذا التجمع يضم البرازيل التي تعتبر ثامن اكبر اقتصاد في العالم, الا ان المشاكل الداخلية التي تعانيها اضافة الى حجم التضخم السنوى يجعلها تقف في مقدمة الدول التي تعاني من اكبر حجم من الديون, وبالتالي تعثر خطط التنمية فيها. هذا النجاح وضع (ميركوسور) تحت مجهر القوى الكبرى التي تحاول ان تمد خيوطها الاخطبوطية التي تهدف الى السيطرة على اي تجمعات تنافسها في اسواقها التقليدية, مما ادى الى خلق منافسة حادة بين الولايات المتحدة الأمريكية التي وجدت في نجاح (سوق الجنوب) تهديداً لخططها في خلق تجمع اخر يربط كل دول امريكا اللاتينية مجتمعة بها, وذلك من خلال (اتحاد الدول الأمريكية) , لكن تعامل الولايات المتحدة مع هذه المنطقة من منطلق المصلحة الخاصة, أو ما تطلق عليه (المصالح الحيوية) , جعلها ترتكب العديد من الاخطاء التي نبهت قيادات المنطقة السياسية وريثة الانظمة العسكرية التي حكمت بدعم امريكي عقوداً عديدة, وجعلت تلك القيادات تقرر الابتعاد عن اي تشكيلات تقودها الولايات المتحدة, والبحث عن علاقات متوازنة مع قوى اقتصادية أخرى لها حجمها الدولي, كما هو الحال بالنسبة للاتحاد الأوروبي, ومجموعة دول جنوب شرق آسيا. لذلك كان رحلة الرئيس الأمريكي (بيل كلينتون) الأولى التي تمت الى هذه المنطقة خلال الشهر الماضي اقرب الى الفشل منها الى النجاح, لأن الرئيس الأمريكي حاول في كل محطة من محطاته, خاصة البرازيل والأرجنتين - ان يقلل من شأن تكتل (ميركوسور) الاقتصادي, ويحث زعماء تلك الدول للعمل على تطوير التكتل باتجاه تكتل اخر اكبر لخلق تكتل اقليمي تقوده الولايات المتحدة, هذا الأمر تسبب في ان يجد رداً سلبياً مباشراً من جانب الرئيس البرازيلي, الذي يرى ان سياسات امريكا في تلك المنطقة طوال العقود الأخيرة هي السبب الرئيسي في المعاناة الاقتصادية التي تعيشها بلاده الآن وحاول الرئيس الأرجنتين كارلوس منعم ان يكون رده أكثر, ودية, نظراً لعدم مناسبة الخلاف مع اكبر قوة في العالم في وقت تبحث فيه بلاده عن دعم يقوى من سياسة حزبه الداخلية, ويقلل من الاخطار الخارجية على اقتصاد بلاده. واعلنت وقتها مجموعة دول (ميركوسور) انها تفضل مناقشة فكرة اقامة منطقة تبادل تجاري حر تضم كل دول امريكا اللاتينية مع الولايات المتحدة بنوع من الهدوء وعدم التسرع, انتظاراً لما قد تسفر عنه تجربة التجمعات الاقليمية المحدودة التي انتشرت في تلك المنطقة, والتي تبشر بمستقبل طيب. هذا السبب نفسه دفع بعض مناطق امريكا اللاتينية الأخرى الى البحث عن صيغ جديدة لتكوين تكتلات اقتصادية اقليمية تسمح لاعضائها باستقلالية اتخاذ القرار السياسي النابع من الاستقلالية الاقتصادية, فقام تجمع (الانديز) بقيادة البيرو, ومجموعة (المثلث الشمالي) الذي يضم هندوراس والسلفادور وجواتيمالا. اضافة الى وجود المكسيك في التجمع الذي يطلقون عليه اسم (نافتا) الذي تقوده الولايات المتحدة ويضم كندا ايضا, وتجربة المكسيك في هذا التجمع سلبية الى حد كبير مما يفرض على غيرها من دول امركيا اللاتينية التفكير كثيراً قبل الانضمام الى اي تجمع تهيمن عليه الشركات الأمريكية القادرة على تدمير اي مشروعات انمائية ذات اهداف اجتماعية اذا تعارضت مع مصالحها الخاصة, وهي مصالح متعارضة بالضرورة مع الأوضاع الاجتماعية لدول المنطقة, التى تحاول الخروج من نفق الحرب الباردة المظلم, وتتخبط في ماض قريب من الحكم العسكرى والحروب الأهلية, التي لا تزال اثارها بادية ومؤثرة في العلاقات بين الحكومات الديمقراطية الحديثة والمجتمع, لأن تلك الحكومات تحاول التوفيق (التلفيقي) بين ماض دموي, والتطلع الى مستقبل منبت الصلة عن ذلك الماضي, وهو منطق مرفوض من المجتمع الذي يرى في هذه (الحلول التلفيقية) بوابة لعودة العسكر الى السلطة والممارسات الأرهابية التي راح ضحيتها مئات الآلاف, الذين يتم البحث عن بقاياهم في المقابر الجماعية المجهولة. اذا كان الجانب السياسي في الداخل لا يزال معلقا بارادة الاحزاب الحاكمة, فإن ما حققه تجمع (ميركوسور) من الناحية الاقتصادية خلال تلك الفترة القصيرة من عمره قد تكون له آثاره الايجابية على استقلالية القرار السياسي الخارجي, لأن النجاح الاقتصادي وضع دول التجمع في موقف قوى تجاه دول الاتحاد الأوروبي, التي بدأت في اتخاذ خطوات جادة نحو اقامة علاقات متوازنة مع الارجنتين والبرازيل والباراجواي والاورجواي, وتخلت عن رفع شعارات (حقوق الانسان) التي كانت تستخدمها كسلاح سياسي واقتصادي ضد العديد من دول العالم النامي, وهذا التغير في استراتيجية الاتحاد الأوروبي فرضتة (مصالحها الاقتصادية) , التي تتعارض مع المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية في تلك القارة البكر الممتدة, والتي تعتبر سوقا مهمة لأي استثمارات مستقبلية, وكسوق مفتوحة على استعداد لاستهلاك كل ما يلقى إليها. وموافقة الاتحاد الأوروبي قبل ايام من اجتماع رؤساء دول (ميركوسور) على اقامة علاقات متميزة مع دول هذا التجمع دفع بها الى الابطاء في محادثاتها لاقامة منطقة التبادل الحر, في انتظار ان تقدم الولايات المتحدة تسهيلات افضل, لأن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي سيدفع الإدارة الأمريكية الى الاسراع في التخفيف من ضغوطها على دول المنطقة من اجل التوصل الى اتفاق يضمن لها امتيازات في مواجهة الوجود الأوروبي والصادرات الأسيوية الى منطقة امريكا اللاتينية التي اصبحت في وضع افضل بعد الانخفاض الحاد في عملتها الناتج عن الازمة المالية الأخيرة. وانتظاراً لما تقدمة الولايات المتحدة من تنازلات, تم الاتفاق بالفعل بين الدول الاعضاء في (ميركوسور) في اجتماعهم الذي جرى 14 ديسمبر الجاري في (مونتيفيديو) على التقدم بعرض موحد في مباحثات (منطقة التبادل التجارى الحر) , في محاولة لتحسين موقفها التفاوضي والحصول على اتفاق ايجابي يسمح لها بالنمو الاقتصادي والسياسى بعيداً عن هيمنة الولايات المتحدة. اجتماع (مونتفيديو) الأخير الذي قرر نقل قيادة (ميركوسور) خلال الأشهر الستة القادمة الى الأرجنتين, فتح الطريق ايضا الى مواجهة تحديات عديدة, اهمها الانفتاح على دول مجاورة تتطلع الى الانضمام الى هذا التجمع مثل التشيلي وبوليفيا, ومحاولة خلق توازن في التعامل التجارى بين دول السوق من ناحية, وبين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول الآسيوية من ناحية أخرى. لكن المرحلة المقبلة تفرض تحديات جديدة على اعضاء تجمع (ميركوسور) , مطلوب ان يحدد (التجمع) رؤية واضحة لسياسات اعضائه اتجاه دول امريكا اللاتينية الأخرى, وذلك من خلال سياسة خارجية مستقلة نابعة من الاستقلال الاقتصادي الذي تتمتع به, اضافة الى المشروعات المستقبلية التي اعلن الرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم عند تسلمه المسؤولية في نهاية (قمة مونتيفيديو) , واهمها اصدار (جوزا سفر) موحد يضمن حرية تنقل الافراد, والبدء في الاعداد لعملة موحدة للدول الأعضاء على غرار العملة الأوروبية الموحدة, وان كان المراقبون يرون انه من المشروعات التي لا تجد ترحيبا من البرازيل التي تمثل اكثر من 70 في المائة من حجم (ميركوسور) .