خلّف اعتقال الرئيس السابق للتشيلي الدكتاتور أوجيستو بينوشيه في احدى المصحات بلندن, بطلب من احد القضاة الاسبان ردود فعل متنوعة, اغلبها مؤيد لهذا الاجراء الذي مهما كانت نتائجه , فهو يشكل رمزا للذاكرة التي لا تريد السقوط في النسيان, وبالتالي انتصارا لحقوق الانسان, وبين مناهض له باعتباره يمس بعض المبادىء القانونية الدولية, وأساس الحصانة الدبلوماسية. وفي الواقع, فإن هذا الحدث المرشح لتطورات سياسية وقانونية, يطرح اشكالات متشابكة ينبغي تأملها والوقوف عندها. لكن قبل ذلك يجدر بنا استعراض بعض المعطيات التي تقربنا من ادراك ملابسات هذه القضية. أولا: من هو الدكتاتور بينوشيه؟ في 11 سبتمبر 1973, قاد الجنرال بينوشيه, الذي كان آنذاك رئيسا للقوات البرية انقلابا ضد نظام الوحدة الشعبية الذي كان يتزعمه سالفادور الليندي, والذي ترك حياته دفاعا عن القصر الرئاسي المحاصر من طرف المتمردين. وقد كان سالفادور الليندي قد وصل الى السلطة عبر انتخابات جرت في سنة 1970. ولم يكن ذلك الانقلاب ممكنا لولا التواطؤ الامريكي المكشوف عبر الشركات متعددة الجنسية, التي رفضت سياسة التأميم التي نهجها الرئيس الراحل, ومنها اساسا, شركة الهاتف والبرق (آي.تي.تي), بمساندة وكالة المخابرات المركزية الامريكية, التي لم تكن تنظر بارتياح الى التحول السياسي في التشيلي, باعتباره قد يشكل بؤرة لتوسيع الانظمة الاشتراكية في القارة الامريكية. ومنذ تسلمه لمقاليد السلطة, فقد نهج الدكتاتور بينوشيه سياسة قمعية ممنهجة افضت الى اغتيال اكثر من ثلاثة آلاف معارض من طرف الشرطة السرية وتعذيب الآلاف من الابرياء, الأمر الذي دفع اكثر من مليون شخص, اي ما يناهز 10% الى الهجرة خوفا من القمع, ومن اشهرهم الشاعر الحاصل على جائزة نوبل للآداب, بابلو نيرودا, وكل ذلك من اجل استئصال جذور الشيوعية, وتطهير البلاد, كما ظل يدعي الدكتاتور بينوشيه, والذي لم يعبر في يوم من الايام عن اسفه عما حدث. غير ان التحولات التي عرفها العالم في نهاية الثمانينات, وتنامي الاتجاهات المعارضة, وإلحاح الولايات المتحدة على اعادة تلميع الصورة في التشيلي, قد دفع بينوشيه الى التخلي عن السلطة, وذلك في ظل دستور 1980 الذي ضمن من خلاله مصالحه, وهو ينص على عدم انتقال قادة الجيش, كما انه يعطيه الامكانية بعد التخلي عن منصبه العسكري, ان يصبح عضوا في مجلس الشيوخ مدى الحياة, وهو الامر الذي يخوله حصانة برلمانية تحول دون متابعته او محاكمته او اعتقاله, بسبب الجرائم التي ارتكبها خلال سنوات حكمه لبلاده, وهو الشرط الذي فرضته الطغمة العسكرية للتخلي عن السلطة للمدنيين, وتسمح بالانتقال الديمقراطي, وذلك حتى لا تتعرض للمحاسبة. في ظل هذه المعطيات, لم يكن من الممكن تحريك هذا الملف داخليا, الا ان القاضي الاسباني كارزون قرر غير ذلك, فهذا القاضي المعروف بنزاهته وشجاعته, اشتهر في اسبانيا بمتابعته سواء للحركة المناهضة للباسك, التي كان يديرها بعض مسؤولي الشرطة, والمعروفة بالجال, أو بمنع جريدة الحركة الانفصالية (ايتا), أو بمتابعة وزير الداخلية في الحكومة الاشتراكية السابقة, لذلك فإن هذه النازلة لا تكتسي فقط طابعا قضائيا, بل طرحت قضايا سياسية مرتبطة بسياسة وسلوكيات مجموعة من الدول. ثانيا: بين المنطق القضائي, والمنطق السياسي لقد ارتكز القاضي بلتزار كارسون بمعية زميله مانويل جارسيا كارتيسون, في مطالبتهما لتسليم الدكتاتور بينوشيه قصد محاكمته على مجموعة من المعطيات المتراكمة لديهما منذ بداية التحقيق في سنة 1996 في شكاوى رفعتها مجموعة من الجمعيات الاسبانية والتشيلية ضد انتهاك حقوق الانسان في عهد الرئيس السابق بينوشيه, ويتعلق الامر باختفاء اكثر من 80 اسبانيا, من بينهم دبلوماسي, تم اغتياله في سنة 1976, وعلاوة على ذلك, يتم التحقيق في الشبكة التي كان يقودها البوليس السري في التشيلي, والتي تضم اجهزة الشرطة في مجموعة من دول امريكا الجنوبية التي كانت خاضعة للدكتاتورية, كما هو الامر بالنسبة للبرازيل والارجنتين والباراجواي الخ, وهي المعروفة بأسم (الكاندور) ومهمتها تصفية المعارضين السياسيين خارج هذه الدول. من الناحية الاتهامية يوجه القضاء الاسباني الى الدكتاتور السابق ثلاث تهم رئيسية, وهي ارتكاب جريمة الابادة, والارهاب والتحريض على التعذيب, وهي كلها جرائم ادانتها المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الانسان, واعتبرتها غير قابلة للتقادم مهما كانت المدة التي مرت على ارتكابها, بوصفها جرائم ضد الانسانية. وبتحريكه لمسطرة المتابعة هذه, فقد اراد القضاء الاسباني ابراز استقلالية عمله الذي ينبغي ان يتم وفق اسس قانونية محضة, علاوة على ذلك, فإنه يريد تبليغ اشارة واضحة مضمونها ان الجريمة السياسية, لاسيما اذا كانت ممنهجة بشكل واسع, لا يمكن ان تبقى دون عقاب مهما كانت الاعتبارات السياسية او الاقتصادية. لكنه في نفس الوقت, فإنه يدرك جيدا ان هذا المطلب يمكن ان يضايق الكثير من الحكومات التي كثيرا ما تنظر الى حقوق الانسان بمنظور انتقائي, يجعلها تعطي الاولوية للمصالح, وللاعتبارات الدبلوماسية. فمن جهة, فإن النيابة العامة الاسبانية لا تساير منطق قاضي التحقيق. فهي تعتبر ان بينوشيه يتمتع بالحصانة الدبلوماسية, الامر الذي يعفيه من المتابعة امام محاكم اجنبية, علاوة على ذلك, اذا ثبت انه ارتكب جرائم ضد الانسانية, فإن المحاكم الاسبانية ليست مختصة بالنظر فيها, بل يعود الاختصاص الى المحاكم التشيلية أو المحكمة الجنائية الدولية. وأخيرا, فإن الادلة التي راكمها قاضي التحقيق ضد الدكتاتور السابق تبقى ضعيفة, ولا تثبت تورط هذا الاخير في الجرائم المراد متابعته من اجلها. ان هذا الموقف يعضد الحكومة المحافظة الاسبانية التي لا تنظر بعين الارتياح الى الاجراء الذي اقدم عليه قاضي التحقيق, لأنه قد يمس بالمصالح الاقتصادية بين الدولتين, خاصة, وأنه يقترن بالقمة الايبرية الامريكية التي كانت منعقدة في البرتغال. ولكنه كذلك قد يثير الاشجان في اسبانيا, وهي الدولة التي عاشت في ظل الدكتاتورية الفرانكوية, ولم تنتقل الى الديمقراطية الا من خلال طي صفحة الماضي دون التساؤل او محاسبة للجرائم البريطانية التي ارتكبت ضد المعارضين للنظام. في نفس الوقت, فإن الحكومة البريطانية تجد نفسها بين المطرقة والسندان: مطرقة استقلال القضاء, وخطابها حول حقوق الانسان, فقد كانت من المتحمسين لانشاء المحكمة الجنائىة الدولية التي تأسست في الماضي, لمحاكمة مجرمي الحرب ولا سيما في يوغسلافيا, حيث ان المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا مازالت تطالب باعتقال أعتى المجرمين وهما كرازيدتش وملافيك, والحكومة البريطانية لا يمكن ان تتنكر بسهولة لدعوتها المستمرة من اجل الدفاع عن حقوق الانسان. في هذا السياق, فقد رفضت الدعاوى التشيلية التي اعتبرت ان الاعتقال هو مخالف لاتفاقية فيينا حول الحصانات الدبلوماسية, اعتبارا الى ان بينوشيه هو حامل لجواز سفر دبلوماسي يمنحه هذه الامتيازات, بالنسبة لبريطانيا, واستنطاقا لاتفاقية فيينا, وكذلك اتفاقية الامم المتحدة لسنة 1969 حول البعثات الخاصة, فإن الحصانة لا تمنح الا من هو معتمد بصفة رسمية لدى دولة اجنبية, وفي حالة بينوشيه, فإنه كان في مهمة خاصة تتعلق باجراء عملية جراحية. وبالتالي لا تنطبق عليه الحصانة الدبلوماسية اكثر من هذا الجدل القانوني, فقد ناهض بعض المحافظين, ومن بينهم الوزيرة الاولى السابقة مارجريت تاتشر اعتقال بينوشيه, اعتبارا للخدمات التي قدمها لبريطانيا في حربها ضد الارجنتين في سنة 1982, والمعروفة بحرب مالفيناس أو المالوين. الأمر الذي سهل العلاقات بين هذا الدكتاتور والمسؤولين البريطانيين, وحسب هؤلاء, فإن تسليم بينوشيه الى العدالة الاسبانية سيؤثر على العلاقات المتميزة بين بريطانيا والتشيلي, اعتبارا لذلك, فإن الحكومة الحالية تجد نفسها في موقف صعب, بين تفضيل المصلحة, أو تكريس النزعة الاخلاقية في السياسة الخارجية. وفي الواقع, اذا كانت هذه القضية تضع في المواجهة التشيلي وبريطانيا واسبانيا كأطراف معنية بشكل مباشر, فإن دولا اخرى لا تحبذ محاكمة الدكتاتور السابق بينوشيه, وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي ظلت تسانده, والتي تتخوف من ان محاكمته ستكشف عن كثير من اسرار العلاقات المتميزة بين مخابرات البلدين. ويكشف الموقف الامريكي عن تناقض صارخ في هذا المجال. ففي الوقت الذي لم تتردد الولايات المتحدة في متابعة من تسميهم بالارهابيين, واصدار القوانين الداخلية التي تسمح للاجهزة الامريكية بمتابعتهم في دول اخرى, فإنها تتلكأ في مساندة محاكمة مثل هذا الشخص, رغم جرائمه المعروفة, فقط لأنه ظل حليفا لها. وفي الواقع, مهما كان مصير هذه المسطرة المعقدة, اي سواء تم تسليم بينوشيه أو اطلاق سراحه فإنها تنم عن ايجابيات لا يمكن انكارها. فهي تعبر عن بداية بروز قانون دولي لحقوق الانسان, يسعى الى فرض نفسه رغم المعوقات المتنوعة التي يصطدم بها. وثانيا, فإن هذا القانون لا يمكن ان يتحقق بدون قضاء شجاع ومستقل. وأخيرا تكمن أهميتها في كونها حاولت تذكير المستبدين, والمرتكبين للجرائم ضد شعوبهم, ان نهايتهم لا يمكن ان تكون دائما سعيدة. أستاذ العلاقات الدولية, جامعة محمد الخامس ــ المغرب