التسامح كقيمة ونعني به ليس فقط تقبل الرأي الآخر والتعامل معه وانما أيضا الاعتراف بأحقيته في الوجود وضمان وجوده, لا تزال قيمة بعيدة عن التحقق في مجتمعاتنا العربية . السبب لا يكمن في جانب أو عامل محدد بعينه, إنما هو يخص تركيبة أي مجتمع وتاريخه وثقافته والصورة التي تكون وتشكل عليها. من يعتقد بأن التسامح يمكن ان يوجد ويستقر من خلال المواعظ والتوجيه والنصائح هو واهم دون شك, وربما لا يفعل سوى اضاعة وقته وجهده. فالواقع ان الناس تأمل وتريد إذا تسنى لها ان ترى وتعاين جميع القيم النبيلة والفضائل راسخة ومتمثلة في مجتمعاتها. لكنه لم يتسن لأحد بعد ان يخلق قيمة معنوية أو يغرسها في الناس بمجرد استخدامه لبعض الكلمات والتعابير التي لا تكلفه أو تكلف غيره شيئا. لهذا ينبغي التحرر في البداية من هذه اليوتوبيا والمثالية المفرطة والقائلة بأن الكلام وحده قادر على ان ينتج أو يخلق تسامحا أو أية قيمة أخرى. الواقع ان التسامح ليس شيئا أصيلا في نفوس الناس, بمعنى أنه لم يوجد منذ البدء مع الإنسان ويعتبر التاريخ البشري من هذه الزاوية وحتى العقود الأخيرة , تاريخ للاستئثار والتفرد والغلبة فكل جماعة أو دولة أو فرد كانت تسعى خلاله إلى الفوز والاستئثار بالمراكز والمناصب الدينية والدنيوية, وحيثما وجد رأي مخالف أو موقف معارض جرى قمعه والتنكيل به. التاريخ العربي الإسلامي يحفل بمثل هذه النماذج والأحداث, وليس يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف الثقفي سوى نموذج واحد ضمن ذلك التاريخ. التاريخ الأوروبي القديم كان يحفل بمثلها أيضا, وقل الأمر نفسه مع المناطق الأخرى من العالم في الصين والهند وغيرها. السبب ان القيم المضادة للتسامح مثل القمع والاضطهاد كانت جزءا عضويا من التفكير والثقافة القديمة في شطريها الديني والإنساني, بمعنى أنه لم يكن أحد ليشك أو يعتبر مثلا أو قتل الخصوم أو سحقهم, عملا ينبغي التفكير فيه أو الامتناع عنه لأي سبب من الأسباب. بل على العكس فقد اعتبر قتل المخالفين في الدين أو الطائفة أو الرأي ضمن المذهب الواحد عملا من أعمال التقرب إلى الله. وحتى القتلى لو قيض لهم ان يكونوا في موقع قتلتهم وجلاديهم لما ترددوا لحظة في التصرف على هذا النحو. التسامح هو قيمة حديثة أنتجتها الحضارة الغربية من واقع تجربتها ومعاناتها المريرة خلال النزاعات الدينية والقومية والأهلية, ثم تدعمت في العصر الحديث بفضل تطور الدول ورسوخ القوانين والمؤسسات الحديثة. لقد أنتجت المعاناة قناعات لدى الكثير من الناس في تلك المجتمعات ليس باستحالة القضاء على الآخر ومحوه من الوجود, وإنما بعبثية ذلك وعدم جدواه أيضا. ثم كان للاحساس العميق والقديم بوجود الدولة وسيادتها في الذات الغربية دورا حاسما في تقنين وترسيخ التسامح وباقي القيم الحديثة. يجدر أن نشير هنا إلى ان الفكر السياسي الغربي بدأ ينشغل بالتنظير للدولة وسيادتها منذ القرن السادس عشر مع مكافيللي مرورا ببودان وهوبز وروسو ولوك. وهو توصل في هذا إلى نتائج حاسمة مثل تحرير ارادة الفرد وتخليص حاجاته ورغباته من القوى المطلقة ووضعها في يد الدولة الحديثة عبر عقد اجتماعي بينه وبينها. وبحيث أصبحت المواطنة بمثابة التزام وتعاقد في اطار الدولة, بديلا عن الأخوة أو الإيمان ومن ذلك تفرعت باقي مؤسسات المجتمع المدنية والأهلية والقانونية..إلخ. وهكذا أصبح التسامح محميا على مستوى الوعي العام للناس بقوة القانون ممثلا بالدولة, وبوجود المؤسسات المدنية, هذا بينما أهملت الدولة في الفكر السياسي العربي والإسلامي منذ البداية, فلم يكن الحديث يدور عن دولة وإنما عن جماعة أو أمة. ولم يتم التطرق إلى مسألة الدولة نفسها, وإنما إلى الأنظمة السياسية وانتقال الحكم وصفات الحكم الواجبة وحدود الطاعة إلخ. لقد ظل الفكر العربي الإسلامي خاليا من الأفكار السياسية وجرى التركيز بدلا من ذلك على مسائل الفقه والشريعة وتأمين الفضائل والتقرب إلى الله. وكان من نتيجة غياب الدولة في هذا الفكر ان نمت مجالات الحرية خارج الدولة وضدها في الوقت نفسه, أي في البداوة والعشيرة والتقوى والتصوف. وبحيث أصبحت قيم هذه الأخيرة السائدة والغالبة, وبالتأكيد ليس من بين هذه القيم قيمة التسامح التي يجري الحديث عنها. كاتب بحريني