العلاقة بين الانسان والطبيعة علاقة قديمة ومتداخلة وحميمة, فالانسان بحكم انه احد الكائنات الحية ــ هو جزء من الطبيعة ــ عليه ان يتعامل معها ومع معطياتها. وقد تغيرت العلاقة بين الانسان وبيئته من مرحلة تاريخية لاخرى , ففي مرحلة مبكرة, خضع الانسان لتقلبات الطبيعة وعواصفها. وفي مرحلة تالية, سعى لتوظيف الموارد الطبيعية لصالحه, ثم حاول استغلالها بشكل اكثر تكثيفا. ومع تطور البشرية واستمرار التقدم التكنولوجي والعلمي, تغيرت العلاقة بين الطرفين, واثبتت الطبيعة انها ليست عنصرا خاملا أو سلبيا, وانها تستطيع ان ترد على عدوان الانسان عليها, وان تكلفه في مقابل ذلك ثمنا غاليا. في المراحل الاولى لتطور البشرية, خضع الانسان لتقلبات الطبيعة من عواصف وصواعق وامطار, وانتقل من مكان لآخر وفقا لوجود الموارد التي تسمح له بالحياة الآمنة. وفي هذه المرحلة سادت بين البشر عادات عبادة الظواهر الطبيعية من نار وعواصف وصواعق, اذ وقف الانسان تجاه هذه الظواهر موقف الضعيف العاجز وغير القادر على الفهم, ومع تقدم الحياة واكتشاف الزراعة, بدأ الانسان في استغلال الطبيعة اولا بأدوات بسيطة, ثم في مراحل اخرى بطرق اكثر تقدما, وفي مرحلة لاحقة, انتقل الانسان من (استغلال الموارد الطبيعية) او (توظيفها) لصالحه, الى محاولة (السيطرة على الطبيعة) . وساد هذا المنهج خصوصا في القرن التاسع عشر, الذي شهد سيادة الفلسفة الوضعية, حيث انتشر الاعتقاد بأن تاريخ الانسانية هو الى تقدم, وان التقدم هو سنة الحياة, وان هذا التقدم يعني مزيدا من السيطرة على الطبيعة من جانب الانسان ولصالح الانسان, وعندما نتأمل النظريات الكبرى التي ظهرت في هذا الوقت نجد انها قامت على افتراض حتمية التقدم. فأفكار داروين عن النشوء والارتقاء, نهضت على افتراض حتمية التقدم في مجال الاحياء والتطور الطبيعي. والنظرية الماركسية في التطور الاجتماعي والاقتصادي, قامت ايضا على افتراض ان التاريخ صائر الى امام, وانه لا يمكن تصور حدوث نكسة او انقطاع في التطور التاريخي, وعكست الاعتقاد الشائع, في الفكر الطبيعي والسياسي والاجتماعي, بشأن حتمية التقدم البشري, وان هذا التقدم يرتبط بالسيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح الانسان. وتدريجيا, اتضح عدم صحة هذا الاعتقاد. فالتقدم ليس سنة حتمية في المجتمعات البشرية, وقيام النازية في ألمانيا والفاشية في ايطاليا في النصف الاول من القرن العشرين, ثم انهيار المعسكر الشيوعي وتحلل الاتحاد السوفييتي في نهاية القرن, وكذا الازمات وحالات الركود التي يتعرض لها النظام الرأسمالي من وقت لآخر هو أوضح دليل على ذلك. كما ان الطبيعة ليست عنصرا سلبيا وخاملا, وقد تبين ان هناك قوانين طبيعية وسننا كونية على الانسان ان يحترمها, فاذا لم يفعل ذلك, فإن الطبيعة تفاجئه بما قد لا يسره, وتفسد مشاريعه ومخططاته, والامثلة على ذلك عديدة وفي كل المجالات. لقد اتضح مثلا ان هناك سعة استيعابية لكل منطقة, وانه اذا زاد البشر عن هذا الحد فإن مشكلات تلوث المياه والهواء تزداد بحيث تجعل المنطقة غير صالحة للمعيشة البشرية. واتضح ان هناك حدا اقصى للصرف الصحي في بعض المناطق بسبب طبيعة التربة, وان هناك حدا اقصى لحفر الآبار في مناطق اخرى والا ازدادت نسبة الملوحة فيها ولا تعد صالحة للشرب. واتضح ايضا ان للطبيعة قوانينها فيما يتعلق بالزراعة وبالتوازن بين النبات والبيئة المحيطة به, وان الاستخدام المكثف للمبيدات يقضي على الحشرات التي تفيد بعض المحاصيل, وان عدم احترام هذه القوانين يمكن ان يؤدي الى افساد الزراعة, بل والى التصحر وعدم قابلية الارض للزراعة, مثلما حدث في بعض مناطق الامازون, عندما قام الفلاحون بقطع الاشجار على امل زراعة الارض بمحاصيل اخرى وكانت النتيجة تبوير الارض تماما. كما اتضح ايضا ان التقدم التكنولوجي ليس بلا ثمن, وان ازدياد نسبة غاز الكربون يؤدي الى توسيع ثقب الاوزون في الغلاف الجوي المحيط بالارض, مما يؤدي بدوره الى ارتفاع حرارة الارض تدريجيا, وان ذلك يمكن ان يقود الى ذوبان مناطق الجليد في العالم, وارتفاع نسبة المياه في المحيطات والبحار, ويترتب على ذلك اغراق مساحات كبيرة من السواحل والمناطق المنخفضة, بما قد يشمله ذلك من مدن وعواصم تاريخية ودول قائمة وحضارات عاشت لحقب تاريخية. لذلك يدعو الفكر الاجتماعي المعاصر الى المصالحة مع البيئة, والى اقامة علاقة وئام وسلام وتكيف مع الطبيعة. والانسان يدرك بشكل متزايد, ان الطبيعة ليست عنصرا خاملا او ساكنا, وان لها قوانينها التي ينبغي ان تحترم, وان العبث بهذه القوانين يؤدي الى ايجاد مواقف مازال الانسان غير قادر على التعامل معها, ناهيك عن التحكم فيها, فما زالت الزلازل خارج قدرة الانسان, ومازالت أنواع عديدة من الفيروسات والامراض خارج قدرته ايضا, لم يعد مطلوبا سيطرة الانسان على الطبيعة, بل ان يعيش في وفاق معها, محترما قوانينها وتوازناتها.