كان (حمزة البسيوني) هو الشخصية الثانية البارزة التي رأيتها في سجن القلعة عندما عدت اليه للمرة الثانية في ربيع 1968 وكانت تهمتي هي المشاركة في مظاهرات طلاب الجامعة التي خرجت في ذلك الربيع تحتج على هزيمة 1967 وتطالب ، بالكشف عن المسئولين عنها وتهتف (وديتو فين فلوسنا.. واليهود بتدوسنا) وهو سؤال لا يزال مطروحا بلا اجابة منذ ذلك الحين, اما تهمته فكانت الاشتباه في ضلوعه في مؤامرة المشير عبدالحكيم عامر للاستيلاء على قيادة القوات المسلحة. وكان اللواء (حمزة البسيوني) واحدا من كومبارس التاريخ العظام ففي كواليس السياسة ـ كما في كواليس المسرح ـ توجد دائما نكرات لا تظهر على الخشبة, الا لثوان قليلة يقوم الواحد منهم خلالها بتقديم كوب شاي او ماء او حبة دواء للبطل, ثم يتراجعون الى الكواليس ليقبعوا فيها الى ان يحتاج البطل لاحد يبثه همومه, او يسري عن نفسه بالانفجار فيه, فيظهرون مرة اخرى. وهؤلاء الكومبارس لا يشكلون ـ عادة ـ فريقا متجانسا من البشر, وهم يضمون خليطا من مديري المكاتب والحراس والندماء والمهرجين والمنافقين وسماسرة الصفقات والقاسم الوحيد بينهم, هو انهم لصيقون بالزعيم الكبير او المسئول الخطير, يستطيعون ـ على عكس معظم الناس ـ ان يلتقوا به في اي وقت, وان يحدثونه فيجدون ـ على عكس معظم الناس كذلك اذانا صاغية واستعدادا للتصديق كما يقولون والاستجابة لما يطلبون. ككل كومبارس التاريخ, لم يكن احد يعرف للواء (حمزة البسيوني) صورة او رسما او يقرأ عنه في الصحف خبرا لكنه كان مع ذلك صاحب نفوذ واسع اذ كان معروفا انه احد اهم افراد حاشية المشير عبدالحكيم عامر, وانه كان خلال اكثر من عشر سنوات انتهت بهزيمة يونيو 1967, صاحب نفوذ واسع في كل دوائر الحكم وكان اسمه ـ فضلا عن ذلك ـ يثير الرعب في القلوب فقد عين قائدا للسجن الحربي بعد قليل من ثورة يوليو 1952 ومع ان السجن كان مخصصا في الاصل لجنود وصف وضباط القوات المسلحة الذين يرتكبون جرائم ضد قوانين الجيش, إلا انه اصبح منذ ذلك الحين وفي ظل قيادة حمزة البسيوني معتقلا للسياسيين المدنيين ومركزا للتحقيقات في الجرائم السياسية التي يتهم فيها او يحتجز بسببها المعارضون للحكم من الرجعيين والتقدميين الى المتمردين من الموالين ومن الاخوان المسلمين الى الشيوعيين ومن باشوات العهد البائد الى باشوات العهد الذي اباده ليعود كل هؤلاء فيروون قصصا لا يصدقها العقل عما جرى في داخله من عمليات تعذيب وقهر وازلال لكرامة الانسانية تقشعر لهولها الابدان! ضحى يوم من شتاء عام 1966 كنت اسير في احد ممرات معتقل طرة السياسي مع المرحوم العلامة الشيخ (محمد محمود شاكر) محقق التراث المعروف نشتبك في جدل حول معركة فكرية كانت قد دارت بينه وبين الدكتور لويس عوض في العام السابق بسبب سلسلة من المقالات كان الاخير قد نشرها على صفحات (الاهرام) وجمعها بعد ذلك حين اعلن مكبر الصوت الذي كانت ادارة المعتقل تذيع منه تعليماتها, ان على المعتقل (محمد محمود شاكر) ان يستعد لترحيله للسجن الحربي. وما كاد الشيخ شاكر يسمع ذلك حتي اصفر وجهه تماما.. كان قد اعتقل ضمن حملة الاعتقالات التي شملت الاخوان المسلمين في قضية المرحوم سيد قطب, مع انه لم يكن عضوا بالجماعة, بل ولم يكن متعاطفا معها, ومع انه كان يتكتم سبب اعتقاله الا انني قرأت فيما بعد وفي مذكرات (الشيخ الباقوري) انه اعتقل بسبب اتصال اجراه من هاتف منزل (الباقوري) مع الكاتب الكبير (يحيى حقي) صديقهما المشترك يحتج فيه بكلمات قاسية على قرار الرئيس عبدالناصر بإقالة الباقوري من منصبه كوزير للأوقاف طال فيه شخص الرئيس من دون ان يتنبه الى هاتف الوزير المقال كان يخضع للرقابة. وكان المرحوم الشيخ شاكر ضائقا بالسجن اشد الضيق لا يكف عن انتظار الافراج عنه, حتى انه كان المعتقل الوحيد, الذي حرص على ان يصحب معه الى زنزانته الحذاء الذي جاء به, من دون ان يتركه مع بقية ملابسه المدنية في مخزن الامانات كما فعلنا جميعا. وكان حريصا على الا يخلعه من قدمه الا ساعة النوم في حين كنا جميعا ننتعل في اقدامنا نعالا خفيفة مما يستخدمه الانسان في بيته. وكان ذلك مثار تندر المعتقلين, وعندما سألت الشيخ مرة عن اسباب حرصه عن ان ينتعل حذاءه, قال لي انه يخشى اذا سار حافيا ان تتفلطح اقدامه فيضيق عليه الحذاء, ولا يصلح للاستخدام حين يأتي أوان حاجته اليه, وفي مرة اخرى كان اكثر صراحة قال لي انه حريص على ان يكون مستعدا حين ينادى اسمه للافراج عنه حتي لا يطول اعتقاله لدقيقة واحدة يرتدي فيها الحذاء. وربما لهذا السبب, تصورت ان حالة الذعر التي تلبست الشيخ (شاكر) بمجرد الاستماع الى انه سيرحل الى السجن الحربي تعود الى خيبة امل في الافراج عنه, وكان ذلك بالفعل احد الاسباب, اما اهمها وقد عرفته من معتقلي الاخوان بعد ترحيله فهو ان استدعاء معتقل الى السجن الحربي, معناه ان اسمه قد ورد على لسان احد المتهمين في قضية اخوانية جديدة يجري تحقيقها ومعناه ان يتعرض لمحنة التعذيب التي تعرض لها اخرون في هذا السجن الرهيب المخيف ثم انتهت التحقيقات الى عدم مسئوليتهم فرحلوا الى معتقل طرة, الذي كان ـ على قذراته وازدحامه وبدائية الحياة فيه ـ يعتبر جنة بالنسبة للأهوال التي كان يلقاها الذين يقودهم حظهم التعيس الى جحيم السجن الحربي. وهكذا امضيت اياما استمع فيها الى ذكريات الذين امتحنوا بدخول السجن الحربي, كان اسم (حمزة البسيوني) يتردد خلالها كثيرا يرفع بيده سوطا لينهال به على ظهر انسان, او يركله بحذائه العسكري الضخم او يأمر زبانيته بدق رأسه الى جدار او يشير الى كلابه فتنهش لحمه.. لتتخلق له في رأسي صورة حيوان اسطوري مخيف, قبيح الصورة, بارز الانياب, طويل المخالب, وهو نمط من المخلوقات المتخيلة بدأت السينما الامريكية منذ الثلاثينيات تقديمها كان ولا يزال اشهرها هو الغوريلا التي اشتهرت باسم (كينج كونج) ! كنت أتلصص ـ كالعادة ـ من ثقب زنزانتي رقم 3 بمعتقل القلعة وكان الزمن يوما من بداية صيف 1968 حيث شاهدت رجلا وقورا شعره ابيض كالثلج يتهادى في الممر في طريقه الى مكاتب الادارة وخلفه احد المخبرين وكان الرجل يحاول ان يستشف ما وراء ابواب الزنازين المغلقة, وصاح المخبر فيه: بص قدامك يا سيد.. امتثل في رعب للأمر, وحث خطاه حين مر امام زنزانتي فلم يتح لي ان اتفحصه جيدا, ولم ار الا قامته الطويلة وشعره الابيض , ولم اتنبه الى ان كلمة (سيد) التي ناداه بهاالمخبر ليست اسما ولكنها لقب كانت حكومة الثورة منذ قيامها قد اعتمدته بديلا للألقاب المدنية التي كان معمولا بها في العهد البائد مثل (بك) و(باشا) ليتساوى المواطنون جميعا. ولست ادري ما الذي جعلني اجزم في تلك اللحظة ان هذا الرجل هو ابي ربما لانه كان طويلا ووقورا واشيب الشعر واسمه (سيد) وهي كلها من صفات ابي, وربما لانني كنت اشعر بالذنب الشديد لأنني اعتقلت مرة اخرى فسببت لأبي آلاما كنت اعلم انها فوق طاقته وكان قد فوجىء باعتقالي لأول مرة وصدم لذلك صدمة بالغة وامضى اسابيعا يتردد عن معارفه من ضباط الشرطة وممن ينطبق لهم صلة بالمسئولين الكبار محاولا ان يعرف في اي سجن اقيم او ان يجد وسيلة لكي يرسل لي نقودا وملابس واطعمة, ولكنه لم يعرف شيئا من ذلك, ولم تصلني ملابس الشتاء التي كان قد ارسلها لي عبر ضابط قريب لاحد اصدقائه ولم يعرف انها صودرت الا حين افرج عني! وما زلت اذكر جلستنا الطويلة التي بدأت بالفرح وانتهت بالدموع, هنأني بالافراج وعزاني على الفصل من عملي, ودس في يدي جنيهات استعين بها على تسيير اموري, ثم تمنى علي ان اكف عما افعله, ولم يكن يعرفه بالضبط, وان ابتعد عن هذا الطريق الخطر, فأنا ابنه الوحيد الفالح الذي يعلق عليه الآمال في شيخوخته ويدخره لسنوات يعجز فيها عن العمل وربما عن الحركة, وكنت احاول ان اطمئنه الى انه لا شيء هناك, وان الحكاية كلها سوء فهم, من دون ان اتورط في وعد لم اكن اريد ان اقيد نفسي به, ولابد ان الرجل العجوز قد فهم بخبرته بالدنيا والناس, وبأمثالي من الشباب الطائش انني ـ على العكس مما ازعم ـ متورط بالفعل في شيء مما انكره وانني ساواصل هذا الطريق على الرغم مما يقول انني اضحك على ذقنه واستهين بشيبته. وكان حرصه علي ورغبته في حمايتي هو الذي دفعه في النهاية, الى شيء بدأ لي غريبا ومذهلا, فإذا به ينحني على يدي فيقبلها وهو يقول لي: وحياة النبي تبعد عن السكة دي.. مش عايز اموت وانت مسجون! ولم يكن قد فعل شيئا من ذلك مع احد من قبل, اذ كان دائما وقورا جليلا محترما من زملائه واصدقائه وجيرانه, يتميز بأنفة وكبرياء واعتزاز بذاته يغلفه بمسحة من التهذيب في التعامل مع الآخرين, تزيد من مكانته في قلوبهم لحظتها بكيت وانحنيت على يده اقبلها.. واحتضنته! اما وقد رأيته بعيني رأسي يعبر من امام الزنزانة فقد اصابني هم ثقيل, وقلق بالغ ووساوس متسلطة بأنهم اعتقلوه لكي يقوموا يتعذيبه حتى يحصلوا مني على المعلومات التي يظنون انني اخفيها واصابني رعب شديد من التعرض لهذه التجربة المريرة, ولم ارفع عيني عن منظار باب الزنزانة في انتظار عودة الرجل العجوز ذي القامة الطويلة والشعر الابيض حتى اتأكد من شخصيته مقدرا انه سيعود من الطريق نفسه طال الزمن او قصر. وبعد ساعتين من الانتظار مر الرجل امام باب زنزانتي, وكان واضحا انه استدعى لكي يلتقي بزوار جاءوا لزيارته في السجن, اذ كان يحمل اكياسا من الفاكهة يقضم واحدة منها وخلفه المخبر يحمل حقائب واكياسا متعددة.. في هذه المرة استطعت ان اتبين ملامحه لاكتشف ان له شاربا ناصع البياض مشذب بعناية وبمادة مقواة وكان ذلك كتيفا لكي يطمئن قلبي, لأن ابي لم يكن ـ منذ شبابه ـ يربي شاربه! فيا بعد رأيت الرجل العجوز كثيرا, ففي ايام القيظ الشديد, كانت ابواب الزنازين تظل مفتوحة علينا مع تعليمات مشددة كنا ننفذها حتى لا نحرم من نسمة هواء نتنفسها في جو مشبع برطوبة خانقة وبألا نخرج منها او يحاول احد منا الاتصال بزميله, وهكذا اتيح لي ان اتصفحه وهو في طريقه الى مكاتب ادارة السجن المجاورة لزنزانتي, وكان هو يحاول دائما اثناء مروره ان يلقي نظرة على عمق الزنازين, لعله يتعرف على احد من سكانها, وفي كل مرة يلقي نظرة باسمة حانية, او يشير باصابعه بنصف تحية, يتلقى على اثرها زجر المخبر المصاحب له, الذي كان يصيح فيه: وبعدين أمشي طوالي ما تبصش على احد! وكان يدهشني انه على منظره المهيب, كان ينفذ تعليمات المخبر بدقة ويرد على زجره بكلمات ترضيه ونفاق وبشيء من الخوف لم يمنعه على الرغم من ذلك من محاولات ارسال التحية الينا, ومع تكرار خروجه الذي ادركت منه, ان اسرته تزوره كل يوم, نشأت بيننا حالة من الالفة والتعاطف الصامت وشفرة للتحية نتبادل من خلالها مشاعر المودة والمساندة, ومع انني سعدت حين اكتشفت انه ليس أبي, إلا ان أوجه الشبه بينهما كانت تسعدني, بل وتطمأنني إلى ان أبي لا يزال حيا, إذ كنت محروما من زيارة أسرتي, ولم أكن أعرف شيئا عما آلت إليه بعد عودتي إلى المعتقل. وفي عودته ذات ظهيرة انتهز فرصة مروره أمام زنزانتي, متقدما عن المخبر الذي كان مرتبكا لثقل ما يحمله من أمتعة, ليقول لي بصوت هامس: أنا اللواء حمزة البسيوني .. أنت مين؟ وقبل ان أفيق من دهشتي, دهمنا صوت المخبر, وهو يصيح فيه: وبعدين.. امشي من سكات, فإذا به لذهولي الشديد يستجيب للانذار بخوف, وهو يحاول ان يترضي المخبر بكلمات نفاق! بطريقة الفوتو مونتاج في الأفلام السينمائية تتابعت على شاشة رأسي صور خاطفة لمشاهد مما سمعته من المعتقلين عما فعله بهم حمزة البسيوني, سياط تمزق جلودا وصفعات تصافح أصداغا وقبضات تعوج أفكاكا, وأجساد تسحل بحبال خشنة على أرض صخرية, أو تسحب رجال من خصيِّهم. يا ألطاف الله الخفية, أهذا الرجل ذو الوجه الطفولي البريء الذي أحببته واعتبره صورة من أبي هو اللواء (حمزة كينج كونج) الذي يزدحم ملفه بكل تلك المشاهد التي لايتحمل أي انسان مجرد رؤيتها, فكيف تحملها الذي أوقعت به, وكيف استطاع الذي فعلها ان يفعلها, ثم أين ذهبت هذه القسوة؟ والرجل الذي كان إلى شهور قليلة مديرا للسجون الحربية, ما كاد يتحول إلى سجين, حتى أصبح كالفأر المذعور, لا يستطيع ان يعامل مخبرا صغيرا, كان على قمة الهرم الذي يجلس إليه مئات من أمثاله في سطحه إلا بذلك القدر الكبير من التذلل والضعف! فيما بعد شغفت بقراءة كل ما نشر عن شخصية حمزة البسيوني وتوقفت أمام ما ذكره عنه المرحوم فتحي رضوان, الذي عرفه حين كان في الثلاثينيات طالبا في كلية الحقوق بالجامعة المصرية, قبل ان يتحول إلى الكلية الحربية, بل وعرف كذلك والده, الذي كان ـ كما يقول ـ رجلا فاضلا من رجال القضاء الشرعي, جميل القسمات يفيض سماحة ولطفا, وكان حمزة شابا رقيقا به بساطة وطيبة تكادان تصلان إلى حد السذاجة, وكان يشارك في مظاهرات الجامعة ويتصدى للبوليس بشجاعة, وبأساليب فيها شيء من شقاوة الأطفال, وذات مرة رآه فتحي رضوان, في حديقة الجامعة حافي القدمين يحمل في يده خرطوم الماء الضخم ويصوبه إلى رجال الشرطة وهم يفرون من أمامه, وهو سعيد بذلك كأنه طفل ! أما عالم الاجتماع المعروف الدكتور سيد عويس, فقد عرف (حمزة البسيوني) وهو ضابط صغير بالجيش, يقود في بداية الأربعينيات فرقة كانت ترابط على مقربة من مكان عمله, فبدأ له شخصا مهزارا لا يكف عن الابتسام, تشغله قصة حب بامرأة متزوجة كان يأمل ان تترك زوجها لتتزوج منه, ولم يكتشف انه كان أحد الضباط الأحرار إلا عندما انتدب عويس ـ بعد قيام الثورة ـ ليعمل في أحد مشروعاتها الاجتماعية, فتزاملا بعض الوقت, وكان حمزة لا يزال مهزازا وطفلا, مع انه كان يعامل جندي المراسلة الذي كان في خدمته بمزاج متقلب, يتراوح بين ضربه بقسوة وبين الانعام عليه بنقود, وباجازة يومين في اعقاب وجبات الضرب! ومضت السنوات وسمع الاثنان اسم حمزة البسيوني يتردد همسا مقترنا بقصص التعذيب, فلم يتصور أحدهما ان الجلاد الذي يرتعب الناس من مجرد ذكر اسمه هو هذا الشاب ذو الوجه الطفولي البريء الذي لم يكن يكف عن الشغب والذي لم يتصور أحدهما حين عرفه انه يمكن ان يضمر في نفسه شرا, أو يلحق بإنسان أذى, أما (فتحي رضوان) فقد رجح ان يكون الرجل مصابا بازدواج الشخصية, وأما (سيد عويس) الذي كان استاذا في علم الاجتماع الجنائي, فهو يجزم بأن الرجل كان ذا شخصية سيكوباتية يبرر كل تصرفاته ولا يندم على أي منها, فالقيم ـ أي قيم ـ لا تقف حائلا في سبيل أي عمل يقوم به, وهو ككل شخصية سيكوباتية, يبدو في الظاهر شخصا هادئا يعلق على شفتيه ابتسامة جذابة, ويستقبلك بالاحضان وهو يخرج مديته لكي يغمدها في ظهرك! أما أنا فقد أصبحت أكثر حرصا على ان أرى ذلك الرجل العجوز ذا الابتسامة الآسرة الذي ظننته بمثل طيبة أبي ورقته, لكي أتأمله على ضوء الحقيقة التي تقول انه (حمزة البسيوني) , وكان ميعاد مروره أمام زنزانتي قد أصبح ثابتا على نحو بدأ كما لو كان لقاء يوميا بيننا, وأثناء مروره بي في اليوم التالي عائدا إلى الزيارة باغتني بما لم أكن أتوقعه, كان يحمل كيسا من الفاكهة, أخرج منه حبة قبلها وقذفها فوقعت في حجرتي قبل ان يدرك ا لمخبر أو يلحظ ما فعل, كانت تفاحة, ولم أكن قد ذقت طعم التفاح قبل ذلك, إذ كان يستورد من الخارج في تلك السنوات, وكان شراؤه قاصرا على الأثرياء, ومع انني كنت اشتهيه بعد شهور لم أذق خلالها فاكهة لها طعم, فقد استدعيت المخبر, وناولتها له, زاعما انها وقعت من اللواء أثناء سيره, وحاول هو ان يغريني بالاحتفاظ بها قائلا: ان صاحبها يحتفظ بأكوام منها في زنزانته, وكانت دهشته شديدة عندما تمسكت بموقفي, وكان ذهوله كاملا عندما بررت ذلك بقولي: (أصلي أنا ما أحبش التفاح) !