مستقبل التعليم العربي في ظل الخصخصة ، بقلم: أ.د مصطفى رجب

ظل الاصلاح الاقتصادي غاية يسعى علماء الاقتصاد في العالم الى الوصول اليها وفي سبيل هذه الغاية قام العلماء بالعديد من الدراسات ووضعوا البرامج المختلفة, وقد تعددت برامج الاصلاح الاقتصادي واختلفت في الطريقة, وان كانت تتفق جميعها في الهدف, حيث انها تهدف جميعها الى تحقيق الاصلاح الاقتصادي وقد شهد القرن العشرين تطبيق العديد من النظريات الاقتصادية, من ابرز هذه النظريات واكثرها انتشارا النظرية الرأسمالية والنظرية الاشتراكية. وقد قامت النظرية الرأسمالية على افكار آدم سميث ومبدأ (دعه يعمل دعه يمر) واساس هذه النظرية تقليص دور الدولة في الاقتصاد, وترك الاقتصاد حرا في يد الافراد. وعلى الجانب الاخر نجد النظرية الاشتراكية التي استندت الى افكار كارل ماركس للسيطرة التامة على الاقتصاد ووضعه في يد الدولة, حيث تقوم الدولة ممثلة في القطاع العام ـ بالسيطرة على كافة النواحي الاقتصادية وامتلاك الشركات والقيام بالاستثمارات. وفي العقد الاخير انتشرت على نطاق واسع في الدول الصناعية ودول العالم الثالث على حد سواء سياسات الخصخصة ويثور التساؤل عن اسباب الانتشار السريع والعالمي تقريبا لهذه السياسات, هل يرجع ذلك فقط للاسانيد النظرية التي تبرز تميز القطاع الخاص في مجال الكفاءة الاقتصادية؟ ام ان هناك دوافع اخرى اكثر تأثيرا والحاحا تبرر سرعة وعمومية انتشار هذه السياسات؟ لعل اتجاه الدول الصناعية الى اتباع سياسة الخصخصة يرجع الى رغبة هذه الدول في زيادة انتاجيتها, وتحقيق تقدم اكبر في المجال الاقتصادي, لان الدول المتقدمة اقتصاديا لا تكتفي بما وصلت اليه من مكانة اقتصادية بين بقية دول العالم, بل هي ترغب في تحقيق مكانة افضل مما هي عليه الان, ورغبة هذه الدول في البحث عن اساليب اكثر فعالية قادت الى بلورة الاتجاه نحو الخصخصة. اما بالنسبة للدول النامية ودول العالم الثالث فإن برامج الخصخصة تهدف الى تخفيض الانفاق العام من على الدولة, وايضا التخلص من التدفق الخارج في صورة قروض لانقاذ الاعسار المالي للشركات العامة الفاشلة, وزيادة التدفق النقدي على خزانة الدولة. وهكذا لم يكن متاحا امام حكومات العالم الثالث لمواجهة ازمتي عجز الميزانية والمديونية الخارجية سوى ان تعلن عن تبنيها لبعض سياسات التحرر الاقتصادي وفي مقدمتها الخصخصة. ومما لاشك فيه ان استراتيجية الخصخصة من المنظور العملي, ستتأثر كثيرا بحجم القطاع العام, والضغوط الخاصة بالاسراع بهذه العملية, والرغبة في تقليص حجم القطاع العام, واقامة قطاع خاص بسرعة, مع اقامة هيكل اقتصادي يرتكز على آليات السوق. التعليم والخصخصة تزايد الاهتمام في كثير من الدول المتقدمة والنامية في السنوات الاخيرة بعملية الخصخصة ولم يكن التعليم بمنأى عن هذه الاحداث, حيث تعالت بعض اصوات الساسة والمثقفين تنادي بضرورة تخلي الدولة عن بعض مسئولياتها الاجتماعية السابقة نظرا لمحدودية مواردها مع تزايد اعباء الحياة, وتكثيف الدعوة الى مساهمات رجال الاعمال والقطاع الخاص في دعم وتمويل برامج التعليم بمافيه المدارس الحكومية والاهلية. ويعد التعليم سلعة خاصة وعامة في وقت واحد, فالافراد يطلبون العلم لزيادة فرصهم في الحصول على المواقع الاجتماعية المجزية ماديا ومعنويا, والمجتمع يطلب التعليم لتحقيق التنمية التي تزيد من قدرته على المنافسة في المعترك الدولي. وتوفير مستوى معيشة جيد لابنائه. ومن الجدير بالذكر انه في الدول المتقدمة يقع عبء تمويل التعليم على عاتق القطاع الخاص ومن العوامل التي ساعدت على ذلك مايلي: 1 ـ ارتفاع مستوى المعيشة مما مكن الكثيرين من تغطية تكاليف تعليم ابنائهم, وبالتالي فإنهم ليسوا في حاجة الى الدعم الحكومي. 2 ـ ازدياد دور المؤسسات الصناعية والمالية وغيرها في تمويل التعليم بفضل الارباح الطائلة التي حققتها خلال فترتي السبعينيات والثمانينيات. 3 ـ ومن العوامل التي ادت الى ازدياد اهمية التمويل وقللت من الاهمية النسبية للتمويل العام هو بطء معدل نمو السكان مما قلل الضغط على المؤسسات التعليمية من الحضانة وحتى الجامعة, ومن هنا ظهرت اصوات في الدول النامية تنادي بضرورة تنويع مصادر تمويل التعليم والاتجاه الى خصخصة التعليم, وكما وجد المؤيدون لهذا الاتجاه, وجد ايضا المعارضون له, وكل له اسبابه ودوافعه. والخصخصة ليست فقط تحويل الملكية من عامة الى خاصة. انما هي في الحقيقة توسيع مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي من خلال مجموعة من السياسات, وعملية تمويل الملكية ليست الا واحدة من هذه السياسات, وتبقى هناك سياسات اخرى لاتمس الملكية. والخصخصة بمعنى البيع ليست واردة في قطاع التعليم, فلن تبيع الدولة احدى مدارسها للقطاع الخاص, ولكنها سوف تسمح للقطاع الخاص بأن يكون له نشاط مماثل في قطاع التعليم, وهذا الامر كان موجودا في بلادنا منذ زمن بعيد. ولكن ماهي الدوافع والاسباب التي دعت القطاع الخاص الى توسيع نطاق مشاركته في التعليم؟ قد يرجع ذلك الى عدد من الاسباب منها. 1 ـ ان التعليم الخاص يقدم مستوى متنوعا ومتميزا من التعليم لايوفره التعليم العام. 2 ـ ان مدارس التعليم العام تعاني حاليا من قصور واضح في امكاناتها البشرية والمادية, وقد انعكس ذلك كله على الاداء التعليمي لهذه المدارس. 3 ـ رغبة بعض الدول في التخفيف من الانفاق العام على التعليم والذي يرهق موازنتها. 4 ـ سعي الدول الكبرى ذات الموروث الثقافي العريق الى انشاء مؤسسات خاصة لنقل ثقافتها وفكرها ونظمها التعليمية الى بلدان العالم الاخرى, خاصة دول العالم الثالث. 5 ـ الارتقاء بنوعية التعليم من حيث توفير كافة الوسائل والادوات والمتطلبات الاساسية للعملية التعليمية. 6ـ الرغبة في تخفيف الضغط على قطاع التعليم العام, وخلق المنافسة بينهما في تقديم خدمة تعليمية افضل. وحول سؤال عن هل التوسع في التعليم الخاص بمراحله المختلفة هدف من اهداف الحكومات والدول, ام مبادرات شخصية من افراد يراد بها العائد الاقتصادي والربح؟ فان التوسع في التعليم الخاص سيكون في المستقبل محكوما بهذين الاعتبارين غير المتعارضين وهما: اولا: ان الحكومات ستسعى الى التخفيف من اعبائه مع بقاء الدولة ملتزمة بتقديم الخدمات الاساسية في هذا المجال. ثانيا: ان هناك مبادرات شخصية من جانب بعض الافراد الذي يسعون الى تحقيق مردود وعائد اقتصادي, ولا مانع من ذلك, شريطة الا يكون هذا السعي الى الربح على حساب الاعتبارات العلمية والمسئولية الاخلاقية تجاه هذا النوع من التعليم وباشراف ومتابعة الدولة. التعليم الخاص والتخصصات النادرة عند الحديث عن التعليم الخاص, هناك سؤال يطرح نفسه على الساحة التعليمية وهو: هل تحقق الخصخصة حاجة المجتمع من التخصصات النادرة التي يفتقدها التعليم الحكومي لارتفاع تكلفة ادخالها ضمن السلم التعليمي؟ هناك من يرى انه ينبغي عند التصريح بقيام هذا النوع من التعليم الخاص, التأكد من انه يثري التخصصات العلمية ويقدم برامج علمية جديدة ومبتكرة تتزايد الحاجة اليها محليا وعربيا وعالميا. اما اذا قدم التعليم الخاص نفس البرامج القائمة التي يقدمها التعليم الحكومي, فإن الفائدة ستغدو محدودة وربما تضيف الى قوائم الخريجين قوائم اخرى من المتعطلين. ولكن في رأيي فإن التعليم الخاص يبعد بنا تدريجيا عن مجانية التعليم, وبالاضافة الى ذلك فإن الجامعات الخاصة قد تتحول الى مجرد باب خلفي للحصول على مؤهلات جامعية تباع وتشترى حيث يلتحق بها الطلاب اصحاب المستويات العلمية المتدنية والذين لا تقبلهم الجامعات الحكومية لضعف مستواهم, وبالتالي يلتحقون بالجامعات الخاصة بعد دفع الرسوم المطلوبة, وذلك بدوره يوثر على كفاءة الخريجين من هذه الجامعات. يرجع الاهتمام الحديث بموضوع اقتصاديات التعليم الى الثلاثين سنة الاخيرة, فقد بدأ الاقتصاديون يربطون بين الانفاق على التعليم وبين معدلات النمو الاقتصادي في المجتمع, واخذت النظرة تجاه الاستثمار في التعليم تتغير وتعتبر الانفاق على التعليم نوعا من الانفاق الاستثماري, حيث يترتب على هذا الانفاق زيادة مهارات وقدرات الافراد وبالتالي ارتفاع مستوى الانتاج القومي. ولكن ماهو مستقبل التعليم في ظل الخصخصة؟ وما القدر الذي ستسمح به الحكومات للقطاع الخاص في التحكم والمشاركة في صياغة المناهج والمقررات الدراسية وما هو مصير ابناء الفئات محدودة الدخل في الالتحاق ببعض التخصصات التي قد لا تتوافر في التعليم العام او الحكومي؟ هناك من يرى ان الخطط التعليمية وبناء المناهج من الامور السيادية التي يجب ان تترك للدولة على اساس انها امر يرتبط باعداد الانسان واساس لتنشئة الاجيال المقبلة, لذلك فهو عنصر هام لتكوين مستقبل الدولة, وينبغي الا يترك للمصالح والاهواء الشخصية للافراد. وهناك من يرى ترك هذا الامر للمدارس والجامعات الخاصة على ان تتبع هذه المناهج الخطط المركزية للدول, واستدل على ذلك بأن هناك الدول الكبرى التي تسمح لمدارس كل اقليم او مقاطعة ان تكون لها مناهجها وخططها التعليمية الخاصة بها, والتي يتطلبها هذا الاقليم, خاصة اذا كانت الدول تتعدد اقاليمها وبيئاتها بشكل واضح. وهناك رأي ثالث يرى بأن تترك مساحة اكبر من الحرية لاصحاب الجامعات الخاصة لوضع الخطط التعليمية وصياغة المناهج الدراسية ضمن ضوابط معينة, وفي حدود قيم وتقاليد المجتمع, وفي ظل الفلسفة التربوية السائدة فيه. الآراء السابقة تكاد تجمع على ان رسم السياسة التعليمية وتخطيط المناهج من الامور السيادية التي ينبغي ان تظل بيد الحكومات والدول, الا ان الجميع لا يمانع في ظل الخصخصة من مشاركة القطاع الخاص في ذلك من خلال مبدأ ديمقراطية التعليم ومبدأ المشاركة وان اختلفت الرؤى حول مساحة هذه المشاركة. تلك كانت بعض الاجابات المقترحة على السؤال الخاص بمساحة الحرية المتاحة لاصحاب المدارس الخاصة في وضع المناهج والمقررات الدراسية ويبقي الشق الثاني من السؤال وهو ذلك الخاص بمصير ابناء الفئات المحدودة الدخل, ومصيرهم في ظل خصخصة التعليم. بالرغم من ان الجامعات الخاصة سوف تساهم في تخفيف العبء على الجامعات الحكومية, وذلك باستيعابها لاعداد كبيرة من الفئات القادرة ماديا للدراسة فيها, الا ان هذا لا ينفي انه سيكون هناك ضحايا للتعليم الخاص, واول هؤلاء الضحايا هم اصحاب الدخول المحدودة حيث ان هذا سيدعم مبدأ التفرقة الاجتماعية, كما انه يعد انتهاكا لمبدأ تكافؤ الفرص التعليمية, حيث انها ستصبح حكرا على ابناء الطبقات الغنية, بينما يحرم ابناء الطبقات الفقيرة من اي معامل او تقنية تعليمية متطورة قد تكون متوفرة في المدارس الخاصة التي لا يستطيعون دخولها لارتفاع تكلفتها. واكثر الضحايا هم ابناء الفقراء المتفوقين الذين يتطلعون الى الالتحاق بالتخصصات النادرة في الجامعات الخاصة, والتي تفتقد اليها الجامعات الحكومية, ولكن ضعف قدرتهم المالية يحول دون التحاقهم بهذه الجامعات. وفي النهاية فإن ماعرضناه لايعني اننا ضد الخصخصة بصفة عامة وخصخصة التعليم بصفة خاصة, وانما نحن نلقي الضوء على الاثار السلبية الناتجة عن تطبيق الخصخصة بهدف اعادة النظر والتدقيق في خطوات تنفيذ البرنامج لمحاربة تلافي وتجنب الاثار السلبية وعلاج اي مشكلات تنشأ عنها, وبالتالي تحقيق اكبر قدر من الفائدة المرجوة. عميد كلية التربية في جامعة سوهاج ـ مصر