جرى ذلك مساء الثلاثاء قبل الماضى, عدت الى البيت فى الحادية عشر مساء, بعد انتهاء جلستنا الأسبوعية مع استاذنا نجيب محفوظ, ذلك الموعد الذى لم نخلفه منذ صيف عام سبعة وستين من القرن الماضى. كنت مهموما بماسمعته وأفكر فى أطراف عديدة, لى بها صلة وثيقة. من نجيب محفوظ علمنا أنه يمر بحالة من التوتر, إذ جاءه الناشر ابراهيم المعلم منذ يومين وعرض عليه شراء أعماله كلها لنشرها بالطرق الحديثة, بالاسطوانات المدغمة وعبر شبكة الاتصالات الدولية, وطرق أخرى لم أستوعبها جيدا, قال إن ابراهيم المعلم عرض عليه مبلغا ضخما يعد سابقة فى تاريخ النشر والناشرين, مليون جنيه تدفع كاملة, ودفعة واحدة. ارتفعت أصواتنا بالاستحسان, ثم انتبهنا الى ضيق الأستاذ وهمه البادى, استفسرنا عن السبب, قال بعد أن وافق تذكر انه وقع عقدا عن طريق ناشره التاريخى صلاح السحار الذى صحبه ومعه صديق له يعمل مع مؤسسة فى أبوظبي. أبوظبى؟ من بالضبط ياأستاذ نجيب؟ قال الأستاذ نجيب بعد تفكير قليل: - مشروع فى القرية الالكترونية. - أدركت على الفور ماذا يقصد. لا يا أستاذ نجيب, المشروع نفسه اسمه القرية الالكترونية, ومؤسسه واحد من خيرة المثقفين العرب, الشاعر محمد السويدى. وافقنى جميع الحضور, فكل منهم ملم, عليم, بجهود محمد السويدى فى خدمة الثقافة العربية. بدءا من النشاط الثقافى المتميز الذى يشهده المجمع الثقافى, والذى وضعه بجدارة على خريطة الثقافة العربية. إلى المشروعات الرائدة, مثل وضع الشعر العربى على شبكة الانترنت, واتاحته للقراء فى العالم كله, وقد تجاوز عدد الأبيات المتاحة حتى الآن مليونى بيت من الشعر, اضافة الى مشروع انشاء موقع لمؤلفات الأدب العربى القديم يتيح المصادر الأساسية للقراء والمتعاملين مع الشبكة, وبين هذه المصادر مؤلفات يتجاوز عدد صفحاتها العشرين ألفا مثل الأغانى للأصفهانى, وسير اعلام النبلاء, وكتب التراجم والقواميس الضخمة, وكنت اعلم اقدام محمد السويدى فى صمت وبدون ضجيج اعلامى على تمويل مشاريع ثقافية مهمة, أحجمت عنها مؤسسات رسمية. منها على سبيل المثال طبع المجلدات الثلاثة الضخمة للدكتور ثروت عكاشة عن فنون عصر النهضة, لا يمكن لمثقف مثل محمد السويدى الا ان يسعى لما فيه خير نجيب محفوظ, ولا بد أن التعاقد تم بعيدا عنه, كان المبلغ الذى أتفق عليه الناشر محدودا جدا بالنسبة لعرض ابراهيم المعلم, إذ يقضى بدفع ستة وسبعين ألف جنيه وخمسمئة جنيه عن مجمل الأعمال, وهذا رقم متواضع بالنسبة لإنتاج أديب فى حجم محفوظ, سواء من حيث الكيف أو من حيث الكم. شعرت أن العقد ظلم نجيب محفوظ من ناحية, ومن ناحية أخرى ذكر صديق لنا فى الجلسة أن البعض بدأ يحاول اثارة الموضوع اعلاميا, وهنا نشأ عندى سبب آخر للضيق, إذ لو أثير هذا الموضوع اعلاميا, سيجد الصديق الشاعر محمد السويدى نفسه فى موقع لم يتخيله, ولم يتصوره, سيضطر هو أو مساعدوه الى التوضيح والحديث فى وطننا العربى عن أمور الحقوق المالية للأدباء وهو أمر محفوف بحساسيات عديدة, فما البال إذا كان هذا الأديب هو نجيب محفوظ؟ فى ساعة متأخرة من الليل وبعد تردد, بدأت اتصالاتى لأحصل على رقم هاتف الشاعر محمد السويدى فى لندن حيث يقضى اجازته, أخيرا نجحت فى الاتصال بسكرتيره الخاص الأخ بدر فى أبوظبى, اننى أكره رنين الهواتف الليلية, سواء عندى أو لدى صحبى وأصدقائي, لا الجأ إلى ذلك الا لضرورة قصوى, لحسن الحظ لم يكن بدر قد استغرق فى النوم بعد, طلبت منه ابلاغ الصديق محمد السويدى فى لندن ضرورة الاتصال بى لأمر مهم, طلب منى بدر أن ألمح له بشيء ما على الأقل. - بخصوص نجيب محفوظ.. لا أدرى كيف تمت الاتصالات بهذه السرعة, فى أقل من دقيقة كان جرس الهاتف يرن, وصوت الصديق محمد السويدى يأتينى عبر المسافات القصية, قصصت عليه ماجرى, وذكرت له انطباعى ورأيى, جاءنى صوته الهادئ وهو يقول على الفور, انه أقدم على هذا المشروع من منطلق الحب فى نجيب محفوظ, وأن الموقع الذى تم انشاؤه بالفعل منذ سبعة شهور على شبكة الاتصالات الدولية يقدم الخدمة بالمجان على جميع مستوياتها من أجل نشر أعمال محفوظ على أوسع نطاق, وأضاف محمد السويدي: - ومن منطلق المحبة لمحفوظ, إذا توافر الآن عرض آخر يحقق فائدة مادية أفضل للكاتب الكبير, فاننى أول من يرحب به, اننى سوف اتنازل فورا عن العقد المبرم لحساب القرية الالكترونية اذا توافر شرط الجدية عند أصحاب العرض الجديد. هل يمكننى أن أنشر تصريحك هذا فى جريدة (أخبار الأدب)؟ - طبعا.. وبكل سرور.. شكرته بحرارة, عندما ذكر اسم محمد السويدى, قال الشاعر عبدالرحمن الابنودى, انه يعرف الرجل مثل نفسه, وانه أقدم على هذا المشروع من منطلق ثقافى نقى, ولن يكون عائقا أمام وضع جديد يحقق مصلحة نجيب محفوظ, أكد على ذلك يوسف القعيد, ورحنا نتنافس فى الحديث عن محمد السويدى, كما عرفه كل منا. وهاهو يؤكد بموقفه الجديد نزاهة قصده فى الماضى والمستقبل. فى اليوم التالى, فى ساعة مبكرة , اتصلت بالمهندس ابراهيم المعلم مدير دار الشروق, قلت له اننى سأمر به فى الواحدة ظهرا بمكتبه, حاول أن يستفسر منى, لماذا وماسبب هذه العجلة, مع اننا نحاول أن ندبر لقاء يجمعنا منذ عدة شهور, لكن مشاغل كل منا جعلت علاقتنا عبر الهاتف, مثل علاقات أخرى حميمة, فالحركة الآن أقل, وعملى الصحفى يستغرق وقتا ليس بالهين. هل أنت جاد فى مسألة العقد الخاص بنجيب محفوظ؟ قال لى ابراهيم المعلم وهو يتطلع الي عبر مكتبه - طبعا.. لكن.. * رفعت يدى مؤكدا - اذا كنت تقصد العقد الذى سعى فيه البعض مع القرية الالكترونية فلن يمثل هذا عقبة. * أبدى دهشة - كيف؟ * رويت له ماجرى مع الصديق محمد السويدى, وقلت له ان الجميع الآن متفقون على مصلحة نجيب محفوظ: المهم, جدية العقد الجديد. ضغط ابراهيم المعلم مفتاح الجرس, جاءت مديرة مكتبه, قال: - من فضلك المظروف الذى يحتوى على العقد الخاص بالاستاذ نجيب محفوظ. . - ثم اخرج من جيبه دفتر الشيكات, وعلى الآلة الكاتبة, كتب سطورا قليلة, ادفعوا لأمر السيد نجيب محفوظ عبدالعزيز مبلغا وقدره مليون جنيه فقط لا غير. * كان الشيك مسحوبا على بنك الصادرات بالقاهرة, وهذا أول شيك بمليون جنيه أراه فى حياتى, صحيح أن رقم المليون الآن أصبح عاديا, وقبل نصف قرن, قبل ثورة يوليو لم يكن هناك الا شخص واحد فى مصر كلها تقدر قيمة ثروته بمليون جنيه, وهو أحمد عبود باشا, الآن تقدر ثروات البعض فى مصر بالمليارات, ومن السهل أن انطق لفظ المليار, لكن صعب جدا أن أتخيله, وبالنسبة لى المليون أيضا, وان كان المليون كما ذكرت أصبح مبلغا عاديا جدا فى عالم الأعمال بمصر. * قال ابراهيم المعلم: اننى جاهز للذهاب فى أى وقت تحدده للاستاذ نجيب بحيث يتم توقيع العقد وتسليمه الشيك بعد فسخ العقد الأول. - اقترح ان يكون ذلك يوم الثلاثاء المقبل, فى موعدنا الاسبوعى. - موافق.. صباح الخميس, اتصلت بالشاعر الرفيق والصديق النبيل محمد السويدى فى لندن أبلغته جدية ابراهيم المعلم واستعداده. فى نفس الصباح اتصل بالصديق محمود خضر, المستشار القانونى له, كلفه ان يسافر الى القاهرة, وان يتخذ من الاجراءات كل ما يراه مناسبا لتحقيق مصلحة نجيب محفوظ وبدون الرجوع اليه فى أى تفاصيل. الثلاثاء, موعد اللقاء الأسبوعى, أغادر مكتبى عادة فى الخامسة والنصف, وصل الصديق محمود خضر, اتجهنا الى العوامة (فرح بوت) الراسية فى النيل عند الجيزة, كان ابراهيم المعلم قد سبقنا, تم كل شيء فى مناخ يفيض بالمحبة لمحفوظ, وبمثالية رائعة , مصدرها ذلك النبل النادر لمحمد السويدى, وجدية وطموح ناشر مخضرم, ضرب مثلا يحتذى لكيفية العلاقة بين المبدعين والناشرين, وهكذا دخل مليون جنيه الى حساب الاستاذ نجيب مقابل أعماله التى أنجزها فى سبعين عاما, وهذا أول مليون جنيه اسمع عنه وأراه, وأثق تماما ان هذه الأموال نتيجة جهد حلال تماما. إنه مليون محفوظ.