ثمة قائمة شهيرة اصطنعتها أجهزة السياسة الأمريكية وأصبحت معروفة باسم (الدول المارقة) حيث ينصرف الرأي إلى وصف هذه الدولة أو تلك من دول العالم، في الشرق أو في الغرب بأنها (روغ) في الإنجليزية بمعنى آبق أو منحرف أو جانح وصولا في التوصيف وفي ظلال المعنى اللغوي إلى حواف البلطجة والخبث إلى آخر أوصاف الشر والإنحراف. لسنا ندري ـ بحكم الله ـ كيف توصلت الأدبيات السياسية العربية إلى لفظة مارق أو مارقة وصفا للدولة التي لا تعجب السياسة الأمريكية ولا تغرد مع سرب الساسة الأمريكان الذين وضعوا بنود القائمة السالفة الذكر وهم لا يفتأون يدرجون ضمن هذه البنود .. بمنطق الإضافة والحذف والتعديل دولا ونظما سياسية هنا وهناك وان كانت بنود اللائحة تشمل أسماء ثابتة أو شبه ثابتة ويأتي في مقدمتها دول مثل ليبيا والعراق وكوريا الشمالية .. فيما يتردد بين حين وحين أسماء دول أخرى مثل السودان وإيران بل وسوريا في بعض الأحيان. ولسنا هنا في معرض المناقشة لمدى حجية أو مصداقية إدراج هذه الدولة أو تلك في القائمة الأمريكية التي نرى أنها موضوعة من منطلق الهوى السياسي والتحيز الفكري ـ العقائدي بل والمصلحي في بعض الأحيان .. وعلى سبيل المثال لو كفت دولة مثل كوريا الشمالية عن تطوير منظومة الصواريخ لديها .. لحقت عليها بركات المؤسسات السياسية الأمريكية ولوجب - كما قد نتصور حذفها من القائمة وإبراء ذمتها وتبرئة ساحتها من تهمة المروق والإنحراف . الذي يعنينا في هذا السياق بالذات، ونحن نتعرض في هذا المبحث لدور أمريكا كدولة كبرى، أو كالدولة الكبرى في سياسة عالم اليوم ـ هو أن كاتبا أمريكيا يعتد به قد اضاف إلى القائمة إياها دولة مارقة أخرى، الكاتب هو توماس فريدمان الذي كتب مقالته متطرقا إلى أن ثمة دولة مارقة جديدة (نيويورك تايمز، 31/7/2001) زادت على قائمة المروق. أما الدولة فهي بلده شخصيا ـ الولايات المتحدة الأمريكية. وهو لا يتحدث هنا من منطلق أخلاقي أو مناقبي عن الخير والشر أو عن الخطأ والصواب: ان حديثه عن خروج أمريكا المستمر عن الاجماع الدولي أو بالتحديد عن إجماع دول المنظومة المتقدمة - الصناعية دول الشمال - أوروبا الغربية مضافا إليها اليابان .. وفي هذا السياق يقول توماس فريدمان يتصور فريق الرئيس بوش (المعاونين والمستشارين) أن موقع أمريكا بوصفها الدولة الأوحد والأعظم (سوبر باور) في عالم اليوم معناه أن لا تعتبر نفسها مدينة بالاعتذار ـ عن الخطأ لأي كائن كان .وفي معرض التفسير يواصل فريدمان حديثه قائلا: ـ يتصور فريق بوش هذا أن كونك زعيم العالم معناه أن يتاح لك أن تفعل كل ما تريد في الوقت الذي تريد دون أن تجد نفسك ملزما ببنود إتفاقات متعددة الأطراف (تعهدت بالتقييد التعاهدي بإحترامها) ومنها ما قد يؤدي إلى تقييد استهلاك الموارد الطبيعية (مثل إتفاقية كيوتو بشأن تغير المناخ وتنطوي على الحد من إستهلاك الوقود وتقليل الإنبعاثات الضارة بالغلاف الجوي المحيط بكوكب الأرض وأمريكا مسئولة عن 25 في المئة من مجمل هذه الإنبعاثات على مستوى الكوكب المهيض المذكور أعلاه ـ الأقواس مضافة في هذا السياق للإيضاح ليس إلا). أو سواء كانت الإتفاقات المطلوب الإلتزام بها ـ فريدمان ماضي في حديثه ـ تتعلق بالحد من تمادي القوة العسكرية، كما في معاهدات الصواريخ التسيارية المبرمة بين أمريكا وروسيا أو سواء تعلق الأمر بالتجارب النووية وإتفاقية تنظيم أو تقنين تطوير الأسلحة البيولوجية ناهيك عن رفض أمريكا تنظيم أو تقنين حمل أو تداول الأسلحة الصغيرة بموجب إتفاقية كانت مطروحة للتداول في يوليو الماضي على صعيد الأمم المتحدة ومن ثم رفض أمريكا إضفاء أي تعديلات يقول فريدمان - على قوانين حمل الأسلحة المعمول بها داخل أمريكا وهي (قوانين مجنونة) (كما يصفها فريدمان في المقال الذي نحيل إليه). أوروبا تهاجم أمريكا على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي يقول فريدمان فإن الأوروبيين يتصورون أنه كلما زادت أمريكا من حيث الوفرة الاقتصادية ومن حيث المنعة العسكرية فالمفروض أن تزيد مسئوليتها لا أمام الشعب الأمريكي وحده ولكن بإزاء العالم بأسرة . والمنطق الذي يحلله فريدمان يقول بأن قوة أمريكا المتنامية حاليا (حيث لا غريم ولا منافس على الساحة) تجعلها مسئولة أمام شعوب خارج حدودها ـ ببساطة لأن تصرفاتها وقراراتها تؤثر بالضرورة على الشعوب خارج حدودها وبخلاف شعبها في هذا الصدد يقول (هيثر جراب) مدير معهد الإصلاح الأوروبي في لندن.. (لا يجوز للرئيس بوش أن يقول مثلا حسنا لقد انتخبني الشعب الأمريكي وأفراد هذا الشعب لا تروق لهم إتفاقية كيوتو المناخية ولا يحبون سيرتها .. و.. أنا كذلك .. ثم ينتهي الأمر عند هذا الحد .. فعندما تصبح دولة ما في مكان الهيمنة .. عليها أيضا أن تكون القدوة التي تضرب نموذجا يحتذى في السلوك) الصحيفة الإنجليزية والذي عبر عنه المثقف الإنجليزي (جراب) بنوع من اللباقة والكياسة السياسية، عمدت إلى التعبير عنه بشكل أكثر صراحة ووضوحا جريدة الاندبندنت الإيطالية التي صبرت ـ كما نتصور ـ أياما تابعت فيها سلوك الوفود الأمريكية في كواليس المفاوضات المضنية حول إتفاقية كيوتو .. ثم سجلت الجريدة إنطباعاتها التي خرجت بها على النحو الذي نوجزة فيما يلي: السكوت على تغيرات المناخ الكوكبي لم يعد يمكن مواصلته (تأمل مثلا وقائع الصيف الحارق ـ وليس مجرد الساخن أو القائظ الذي يعيشه العالم حاليا .. فالمسألة لم تعد مجرد ضيق بالسخونة بحيث تحل المكيفات المشكلة مرحليا - وهي كفيلة بتفاقمها على المدى البعيد ـ المسألة ترتبط في الأجل الأطول بمدى ما تؤثر به ظاهرة التساخن على صحة الإنسان والنبات والحيوان ودع عنك ما قد تفضى إليه من تغيرات مدمرة أحيانا في شكل التضاريس في أكثر من موقع من كرة الأرض التي نعيش عليها). جاءت إتفاقية كيوتو المبرمة في اليابان منذ نحو ست سنوات خطوة عالمية موفقة تبشر بإمكانية تصحيح الأوضاع - بالأدق تداركها قبل تفاقهما. كان الأمريكا قد وافقوا على الإتفاقية وكان ذلك طبعا في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون . وفي عهد الجمهوري السعيد .. تغير موقف أمريكا وقال فريق بوش ان الإتفاقية ضارة بمصالح الصناعة والاقتصاد في أمريكا. في مجال إتفاقية الأسلحة البيولوجية عاد فريق بوش يتنصل من الإلتزام بإجراءات التحقيق من التقييد ببنود الإتفاقية.. لماذا ؟ لأن واشنطن اكتشفت ـ حسب تعبير (الأندبندنت أن مرافقها ومنشآتها سوف ينطبق عليها بداهة إجراءات هذا التحقيق .. ويا للهول! حسب تعبير الصحيفة الإنجليزية أيضا التي واصلت قولها: - كان ذلك معناه أن أمريكا سوف تعامل حسب إجراءات التحقيق شأنها شأن أي بلد آخر ( وهذا لا يجوز ولن يكون) ويبدو أن أمريكا ـ بوش قد اقنعت نفسها بأن لها الحق في أن تجبر الآخرين على تقديم تنازلات فيما تظل هي محافظة على أوضاعها دون تنازلات وبغير تغيير. هذا المروق .. الأمريكي تم يأتي توماس فريدمان ليعلق على هذه التطورات قائلا: هكذا وضعت أمريكا نفسها في وضع (الدولة المارقة .. هكذا باتوا ينظرون إليها في أوروبا وجانب من هذه النظرة سخيف مغلوط ولكن جانبا منه صحيح. وهنا يتحدث الكاتب الأمريكي بصراحة مصلحية كما قد نصفها ويقول: من الناحية المثالية، نحن نود أن نرى العالم وقد دارت دواليب حركته بالقانون وليس بالقوة .. وكثير من الناس في أنحاء العالم ينظرون إلى أمريكا بوصفها السند الأخير للقواعد والمعايير . ولكن الرسالة التي ما برحنا نبعث بها إلى العالم مؤخرا مؤداها أننا لا نؤمن لا بالقواعد ولا بالمعايير بل نؤمن بالقوة وها نحن نملك القوة وأنتم (بقية العالم) لا تملكونها. صحيح ـ يواصل توماس فريدمان الحديث ـ- أننا نحصل حاليا على ما نريد ولكن عندما نمعن بهذه الطريقة في التمادي بالقوة وفي تكريسها فإننا ندعو الآخرين إلى مضمار التحدي .. ولسوف يتحدوننا على الأساس نفسه. تعطيل 14 مشروعا وبخلاف هذا الذي ذكره فريدمان، فقد أحصى المراقبون أكثر من 14 برنامجا ومشروعا عالميا ما بين إتفاقية وبروتوكول وما بين معاهدة دولية وخطط تنفيذية كانت كلها تصب في مصلحة الإنسانية في طول العالم وعرضه ولكن مازال مصيرها الإحباط وعدم التنفيذ بسبب مواقف الولايات المتحدة، وخاصة في ظل الإدارة الجمهورية، الجديدة في البيت الأبيض وهي مشاريع وأفكار وبرامج وطروحات بدأت بالمحكمة الجنائية الدولية التي وضعت لائحتها في روما منذ سنوات قلائل ولم تنته بالموقف الأمريكي المتعنت إلى حد التحيز في محادثات جنيف التي دارت حول وضع أجندة المؤتمر الدولي المعني بالعنصرية والتمييز العنصري المقرر عقده في ديربان ـ جنوب أفريقيا. ورغم أن مثل هذه الفعاليات الدولية هي بحكم التعريف مناسبات تداولية بمعنى أنها ساحات للنقاش بين الدول والحوار بين الثقافات والمحاولات الجادة والبناءة ـ أو المفروض أن تكون هكذا ـ لتقريب وجهات النظر وصولا إلى ما يسمى في الأدبيات البرلمانية (بمعنى التداولية) العالمية بالتوافق بين الآراء ـ رغم هذا كله فإن أمريكا مازالت تهدد بعدم الذهاب أصلا إلى المؤتمر في موقف مسبق يصادر على المطلوب.. لماذا؟ لأنها تعارض ما ذهبت إليه قوى كثيرة في المجتمع الدولي من النظر إلى الصهيونية بوصفها صورة من صور العنصرية، ولأنها تعارض أيضا مطالبات التعويض عن عهود الاستعباد والاسترقاق الطويلة والمهينة التي تعرضت لها شعوب في أفريقيا وآسيا ولأنها تعارض كذلك اعتبار معاداة السامية تعبيرا يصدق على العرب وهم ساميون حقا وصدقا وعلميا.. كما يصدق على اليهود وهم مشكوك في ساميتهم حقا وصدقا وعلميا. رأي انتوني لويس ومن عجب أن ترضى الدولة الأكبر في عالم اليوم أن تضع نفسها في موقف المدافع الدائم عن إسرائيل رغم ما ترتكبه العنصرية الصهيونية والنظام الإرهابي الحاكم حاليا في فلسطين المحتلة من جرائم حرب على مسمع من العالم. ورغم أن هذا النظام يكرس عمليات الاستيطان العدواني لعناصر مجلوبة من شرق أوروبا وغيرها وعلى حساب أراضي العرب الذين تصادر أراضيهم وتدمر ممتلكاتهم وتهدم بيوتهم لصالح حركة الاستيطان الكولونيالي في فلسطين. هناك كاتب أمريكي آخر.. وهو كاتب كبير وشريف حقا ـ الاستاذ أنتوني لويس الذي يطل على هذه المأساة من زاوية مسئولية أمريكا ودورها كقوة عظمى في عالم اليوم وقد كتب لويس يقول «نيويورك تايمز» 2مايو 2000: تتحمل الولايات المتحدة مسئولية جسيمة إزاء هذه الحالة الكارثية (في الأرض المحتلة) طوال 30 سنة ظلت أمريكا تقدم المعونات الهائلة إلى إسرائيل دون أن تبدي اعتراضا فعالا في يوم من الأيام إزاء عملية الاستيطان. فأي وضع مختلف يمكن أن تصل إليه الأمور لو امتلك الرئيس بوش الشجاعة كي يقول: لا في وجه عملية من شأنها أن تبدد كل آمال للسلام في الشرق الأوسط. وبريد القراء أيضا ولقد اثرنا، على مدى هذا المبحث، أن نحيل باستمرار إلى كتاب وساسة أمريكيين ويحسب لهم ـ أيا كانت نواياهم ومنطلقاتهم ـ أنهم عبروا عما يؤمنون به وطرحوه من منطلق مصلحة بلادهم ذاتها في المقام الأول. مع ذلك فقد استرعى اهتمامنا مؤخرا أبواب القراء التي تنشر أحيانا آراء يبعث بها المهتمون بالقضايا العامة وتزداد هذه الآراء سخونة بالطبع كلما ازدادت عمليات الاستشهاد الجهادية، سخونة بدورها في الأراضي المحتلة. وبعد عملية القدس الأخيرة.. كتب القارئ أدمون ماندر يقول ان التماس النظام الإسرائيلي حلولا عسكرية للقضية الفلسطينية سيظل أمرا عقيما بغير جدوى ..وحتى لو قام شارون باستخدام كل ما لديه من قوة عسكرية لغزو الضفة الغربية مثلا، فلن يسكت اصوات الخصوم.. ويومها ـ يضيف القارئ الأمريكي ـ يعود الراديكاليون الفلسطينيون إلى الساحة بصورة أكثر عنفا عما كانوا عليه في عقد السبعينيات. ورغم ما يتضح من كلام القارئ الأمريكي من أن عواطفه مع إسرائيل إلا أنه وجد لديه من اتزان الرؤية كي يقول بالحرف: ينبغي لإسرائيل أن تعرف ـ من واقع تاريخها ذاته ـ كيف أن الظلم يدفع بمشاعر الجماهير إلى الرفض والتمرد والثورة. قارئ آخر اسمه ريتش فروستيج بعث بإقتراح إلى الرئيس بوش قائلا لو كان بوش صادقا بحق في دعواه أنه لا ينظر إلى حلول المشاكل من الزاوية الحزبية الضيقة لاصدر على الفور قرارا بتعيين الرئيس (السابق) بيل كلينتون مبعوثا خاصا لأمريكا في الشرق الأوسط وفضلا عن خبرة كلينتون الطويلة بالنسبة للقضية ـ يرى القارئ الأمريكي ـ أنه قادر على أن يأتي بالفلسطينيين والإسرائيليين إلى مائدة المفاوضات. وبصرف النظر عن رغبة القارئ في إيجاد وظيفة مرموقة للسيد بيل ورغم أن السيد بيل قد أبرم أسخى عقد مذكرات منشوره في التاريخ بمبلغ 10 ملايين دولار فإن القارئ الأمريكي يختم رسالته إلى «نيويورك تايمز» بقوله: إن الأمر يستحق هذه المخاطرة .. وإذا كان البديل هو الا نفعل شيئا إزاء ما يجري فهو بديل أخطر من مجرد التفكير فيه. ـ كاتب سياسي مصري