الملك فهد وولي عهده الأمير عبدالله، الروائي السوداني الأكثر شهرة الطيب صالح، عبدالرحمن علي طه أول وزير سوداني للتربية والتعليم، مكي عباس أول مدير لأكبر مشروع سوداني، بسطاوي بغدادي أول مدير لكلية الفنون الجميلة، الماحي اسماعيل أول مدير لمعهد الموسيقى السوداني. هؤلاء الرّواد بين نخبة من المبدعين عدّدهم الفكي عبدالرحمن في كتاب معنون «يا ما كان» يعرض فيه ذكرياته، أهداني نسخة منه صديق حميم في الخرطوم. أما المعبر الذي تواتر عليه هؤلاء الفطاحلة العظام فهو معهد بخت الرضا الذي نهض على بقعة منسية من خاطر الدنيا على النيل الأبيض في العام 1934لإعداد المدرّسين في المرحلتين الأوليين وأصبح في فترة وجيزة بؤرة إشعاع حضاري بلا مثيل له في الوطن العربي، وكان ممكناً أن يتحول إلى «وادي سيلكون» عربي على صعيد التعليم، لولا أن نظام نميري أغمض عينيه قسراً وهو يحدّق في شمس المستقبل تحت إحساس أحمق بحمى الانصهار القومي الكاذبة. الفكي عبدالرحمن وهو أحد أبناء ذلك المعهد أصبح هو بدوره أول مدير للمسرح القومي في السودان. وذكرياته عن بخت الرضا رفعت الستار عن مكان وزمان حافلين بالألفة المبنية على الوعي والتحريض على الإبداع والركض في أفق المعرفة المفتوح. وبما أني كنت من التابعين لأولئك الفطاحلة فلا أزال أذكر كيف كنا نمشي ونحن صبية زغب في ظلال كوكبة من العمالقة العارفين بأسرار العلم والوطن، والمطبوعين بتواضع المتصوّفين أسهموا في دفع أكبر ورشة تربوية رائدة. فبخت الرضا كانت مدينة للعلم ضمّت أكبر مدرسة ابتدائية ـ ربما في الدنيا بأسرها ـ ومدرستين إعداديتين وكليتين لإعداد مدرسي المرحلتين وسكناً داخلياً لكل أولئك. وقد تم توظيف الخدمات، كالعيادة والمزرعة والمكتبة والمطبعة والمتجر ضمن الحياة الدراسية والمنهج. بخت الرضا كانت تجربة حياتية رائدة فقد دأب الطلاب على إدارة شئون مدارسهم على مدار العام ـ وليس في يوم وحيد كما يتحدّث المحدّثون حالياً ـ في ممارسة ديمقراطية حقيقية قائمة على انتخاب حكومة مصغرة يتعرض أعضاؤها للمساءلة والانتقاد والتقريظ من قبل الجمعية العمومية وفق نظام دستوري مقنن. وبما أن المدرّس الناجح هو ممثل ناجح، وبما أن المسرح وسيلة للتنوير والإصلاح الاجتماعي، فإن بخت الرضا استحدثت مادة الدراما في منهجها في العام 1952 وأوفدت الفكي عبدالرحمن إلى القاهرة العام التالي لدراسة المسرح. النشاط المسرحي في بخت الرضا وضع لبنته الأولى المربّي الكبير عبدالرحمن علي طه الذي أصبح فيما بعد أول وزير للتربية وهو والد الدكتور فيصل المستشار القانوني في اللجنة الدائمة للحدود في الإمارات والذي ورث عن أبيه توطين النفس على ما ينفع الناس، فقدم للسودانيين، منفرداً وضمن نخبة، أسفاراً قيمة في التاريخ والثقافة. توقّد المسرح العتيق في بخت الرضا بأعمال كلاسيكية في إطار أقرب للاحتراف، إذ الممثلون موهوبون منتقون والنصوص عالمية والمشرفون مسلحون بالفكر والرؤى الفنية، على طراز الدكتور أحمد الطيب أحمد وهو «عالم مطبوع وموهوب في الأدب المعاصر وصاحب علم غزير واطلاع واسع له ولع بالمسرح ونال فيه درجة الدكتوراه» واختطفه الموت في مقتبل العمر، وكان أحد العمالقة الذين أنعم الله علينا بالمشي أطفالاً في ظلالهم ونذكر منهم الماحي اسماعيل الذي كان لا يمشي بيننا إلا وكمنجته في يده، والمربّي الفاضل مندور المهدي الذي كان عميداً للمعهد في أيامنا وعرفنا عنه الصرامة في العمل، ومحمد المجذوب الذي اشتهر بحبّ المتنبي والجمال، وحسن كمال الذي غرس فينا شغف الرياضة، وأحمد التيجاني الذي حرّضنا على حبّ المسرح وفتّق مواهبنا، والطيب زين العابدين الذي قدم لنا أنموذجاً على المثابرة والاستقامة. ولا تزال ثمة عروض على خشبة المسرح العتيق في بخت الرضا عالقة في الذاكرة، ومنها دور للفكي عبدالرحمن نفسه ولا أزال كثير الاعتداد بظهوري على الخشبة نفسها في دورين في موسمين متتاليين. ما لم يقله الفكي عبدالرحمن في ذكرياته ويستأهل إضاءته إنه مؤسس المسرح القومي السوداني، إذ كان البناء المطلّ على النيل في أم درمان قد بناه نظام عبود وكرّسه للفرق الغنائية، ولما تولى الفكي عبدالرحمن إدارته عقب ثورة أكتوبر منح المبنى مضمونه الحقيقي فأعاد بناء خشبة المسرح التي كانت دكة أسمنتية بحيث تواكب مواصفات الصوت الممسرح وكسر الحواجز التي كانت تفصل الصالة درجات في محاولة لما أسماه بـ «ديمقراطية المشاهدة». واستقطب الرجل شباناً موهوبين مثقفين من الذين تفتحت مواهبهم على خشبة «المسرح الجامعي» في جامعة الخرطوم من أمثال عثمان جعفر النصيري وعبدالباسط سبدرات ـ وزير شئون البرلمان حالياً ـ الذي ظهر في «مأساة الحلاج» ويوسف عيدابي أحد أعمدة دائرة الثقافة بالشارقة حالياً والذي قدم مسرحية بعنوان « حصان البياحة»، والشاعر الراحل علي عبدالقيوم، ومحجوب عباس ومأمون الباقر. ولا يغمطني أحد حقي في الاعتداد كذلك بظهوري في عملين على خشبة مسرح جامعة الخرطوم. ففتح ذلك أمامي فرصة الظهور على خشبة المسرح القومي مع عمر براق في مسرحية «نحن نفعل هذا... أتعرفون لماذا» غير أني لم أستكمل البروفات. استقطب الفكي عبدالرحمن أولئك الشباب في غير ما يقال على الروّاد التقليديين الذين ربما اتسمت أعمالهم بالنمطية،لكن لا أحد يُنكر جهدهم حين يأتي الحديث عن تاريخ المسرح. الأهم من ذلك في جهد الفكي عبدالرحمن أنه علم المسرحيين التموسم، إذ أصبح للمسرح القومي منذ العام 661967 مواسم يتأهب لها المسرحيون ويتنافسون في أيامها. مثل معظم الأشياء الجميلة التي ضيْعها السودانيون اندثر معهد بخت الرضا وانطفأ بريق المسرح القومي.