عندما تتقدم الأمم تتقدم في أنماط الحضارة كافة ولا يقتصر تقدمها على نمط معين بما في ذلك حرية الرأي واحترام الرأي الآخر، وهو بلاء ابتليت به الأمة حديثاً مع انحدارها إلى مستويات التخلف والضعف الذي عصف بها فكريا وعسكريا ولم يترك جانبا إلا أصابه.

دعونا نبقى في الجانب الفكري واحترام الرأي الآخر كيف كان في عهود التقدم والازدهار الذي مرت بالتاريخ الإسلامي وكيف كان أصحاب الكلمة لا يخافون من زائر بليل أو عبوة ناسفة حتى لو كان كلامهم وأشعارهم تلامس الكفر البواح.

لو تتبعنا وقرأنا في أشعار الكثير من الشعراء أمثال أمية بن أبي الصلت في عهد النبي وعمر بن أبي ربيعة بعد ذلك وأبي نواس وبشار بن برد وكيف وصل الينا تراثهم وأشعارهم رغم ان أشعار بعضهم إضافة إلى فحشه لامس كفرا بواحا، لكن الامة وهي يومئذ تحلق فوق أمم الأرض لم تحجر عليهم أو تداهم منازلهم وكان بعضهم يدخل على الخلفاء دون خوف.

وعندما أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بنزع ثنيتي سهيل بن عمر حتى لا يتكلم على الرسول بسوء رفض الرسول صلى الله عليه وسلم رفضا قاطعا ذلك وهو نفس النهج الذي انتهجه مع أشعار أمية بن أبي الصلت الذي رثى في شعره المشركين من قتلى بدر ووصل إلينا شعره دون ان يحجر احد عليه من المؤرخين.

يقول مصطفى الرافعي في كتابه التحفة «تحت راية القرآن» وهو يرد على طه حسين «في مساجلاتهما الشهيرة» ان المسلمين لم يمحوا شعرا للنصارى ولا لليهود وقد وصلت إلينا آلاف الآبيات من الشعر الجاهلي التي كان ينظر إليها العرب على أنها درر ثمينة يجب حمايتها ولم يعرف عن مؤلف أو مؤرخ اشتهر بعلمه انه تعمد إسقاط شعر الغزل أو الفحش حتى ان احدهم يقول «حياة ثم موت ثم نشر... حديث خرافة يا أم عمرو» ولم يعرف ان احداً استهدف حياة هذا الشاعر أو طمس شعره.

علي بن أبي طالب امام المؤمنين رضي الله عنه لم يقاتل الخوارج على فكرهم إلا عندما رفعوا السلاح بوجه الدولة والنظام ولكن أين زماننا من علي فالحال تغير كثيرا في هذه الأيام وباتت الكلمة سلاح يقتل صاحبه أو تستدعي زوار الليل حفظا للنظام وهيبة الدولة وصاحب الكلمة مطالب بنثريات الحمد والتمجيد إذا أراد ان يحيا بعيدا عن السجون أو تقطيع الأصابع وهذا حال امة غاصت في وحل التخلف واستكثرت كلمة على كاتب أو صحافي.

لا نقول ان ذلك الزمان كان واحة مطلقة للحرية فقد برزت فيه بعض المثالب لكنها كانت استثناءات ولم تكن حالة عامة كما يحدث اليوم حيث يصبح صاحب القلم مطلوباً حياً أو ميتا وهي أمور لا تحدث إلا في عصور التخلف والجهل.

asmadi@albayan.ae